لماذا خسر علماء الزّيتونة معركتهم مع تيّار التّغريب العلماني؟ (2)

لماذا خسر علماء الزّيتونة معركتهم مع تيّار التّغريب العلماني؟ (2)

الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

ذكرنا في المقال السابق أنّ بعض المصادر قد أكّدت دور بعض العلماء في رفض المعاهدة والدعوة إلى المقاومة والجهاد ضدّ المستعمر الفرنسي؛ ومنهم القاضي بقابس عبد العزيز ين يحي وباش مفتي قابس علي الحبيب، وقد كان لمعارضتهما الدور الكبير في انتفاضة الجنوب ضدّ سلطة الباي وفرنسا. كما تخلى بعض العلماء الآخرين عن مناصبهم الدينية أو الإدارية بعد الاحتلال. واختار علماء آخرون دار الهجرة لمقاومة المستعمر من خارج البلاد… وتزعّم الشيخ محمد بن عثمان السنوسي (ت1900م) حركة أعيان العاصمة سنة 1885م التي قدّمت عريضة احتجاج لدى الباي… وقلنا: إنّ مقاومة علماء الزّيتونة للحماية في بداية عهدها لم تكن مؤثرة، وإليك البيان:

  1. حركة المقاومة:

قال أرنولد هـ. قرين: “واختلف الأمر بعض الشيء في مدن الجنوب حيث كان موقف العلماء مزدوجا؛ إذ شارك بعضهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة في انتفاضة 1881-1883… فدعم الباش مفتي الحاج علي الحبيب قائد الانتفاضة بالمنطقة القاضي عبد العزيز بن يحيى… وشارك في المقاومة أو شجعها على الأقلّ بمدن أخرى عدد من القضاة مثل القاضي محمد الأعذار والباش مفتي محمد الشافعي بصفاقس والقاضي محمود القطاري في جربة والقاضي محمد الجليتي في جرجيس. وقد تضاربت الروايات حول موقف باش مفتي القيروان محمد الصّدام، إذ لا يمكن الجزم بأنه كام محرّضا أو مهدئا للمقاومين” (1). إذا، قد تبنى بعض العلماء خيار الجهاد، فانطلقت المقاومة المسلحة للمستعمر في مناطق في الشمال الغربي والوسط والجنوب، إلّا أنّ ضعف القوة العسكرية يضاف إليه عدم دعم فكرة الجهاد من طرف العلماء الكبار وأغلب مشايخ الصوفية (علما أنّ أغلب علماء الزيتونة كانوا ينتسبون لطريقة صوفية) من العوامل التي ساهمت في فشل المقاومة المسلحة وبسط فرنسا لسلطتها على البلاد. قال الدكتور التليلي العجيلي: “لقد كان الموقف العام للطرق الصوفيّة – على مستوى كامل البلاد – يتّسم بالسلبية، والركون إلى المسالمة والمهادنة إزاء دخول الاستعمار الفرنسي إلى البلاد التونسيّة مما ساهم في تيسير مهمّة قوّات الاحتلال في السيطرة على معظم أنحاء البلاد…” (2). وقال قرين: “وبصورة عامة وباستثناء حالات نادرة كلّها خارج مدينة تونس فإنّه يمكن القول بأنّ العلماء لم يقفوا إلى جانب المقاومة المسلّحة. وبالإضافة إلى إحجامهم عن الدعوة إلى الجهاد فإنّهم لم يعرضوا مصالحهم للخطر من أجل التعبير عن معاداة الحضور الأجنبي” (3).

  1. حركة الاستقالة:

تذكر بعض المصادر أنّ من العلماء من عبّر عن رفضه للحماية الفرنسية بالتّخلي عن منصبه أو وظيفته التي تقتضي العمل مع الفرنسيين أو تحت سلطتهم. “فقد تخلّى على سبيل المثال قاضي المنستير حسين شبيل عن خطته ككاتب بالإدارة المحليّة لما تيّقن بأنّه سيعمل تحت المراقب المدني الفرنسي. وفي تونس استقال مدرّسون بالصّادقية خلال السنوات 1881 و1885 لما أصبحت هذه المدرسة تابعة للإدارة الفرنسية” (4). ولكن الملاحظ، أنّ كثيرا منهم قد عاد إلى منصبه بعد التخلّي عنه بعام أو عامين، ومنهم: عثمان الشامخ، محمود بيرم، الصادق الشاهد، علي بلحاج، الطاهر الرياحي، محمد الأكبر بالخوجة، والشاذلي الصّدام (5).

  1. حركة أعيان العاصمة:

يعدّ بعض المؤرخين الشيخ محمد بن عثمان السنوسي العالم الزيتوني “زعيم أوّل حركة وطنية في تونس بعد الحماية”(6)، وتعدّ حركة أعيان العاصمة سنة 1885م التي قادها السنوسي من مظاهر رفض العلماء لسلطة الحماية. وقد بيّن السنوسي دوافع هذه الحركة بقوله: “أعلم أنّ السبب الوحيد في هيجان التونسيين واجتماعهم إنما هو صدور الرائد التونسي صبيحة يوم الخميس السادس عشر من جمادى الأولى سنة اثنتين وثلاثمائة وألف متضمنا قانون المجلس البلدي، وفي ضمنه وصايا دفن الأموات والتثقيل في استخلاص متأخرات خروبة الأملاك – أي الأداء البلدي على الأملاك – ومعلوم النظافة وأداء الطرقات. مع ما سبقه من تغيير أثمان ماء زغوان، إلى ما سلب من حقوق مالكيه، ونوازل أخرى كدرت على الأهالي”(7). وبناء عليه، فقد تجمع أعيان العاصمة، وكتبوا عريضة وشكّلوا وفدا عبّر عنه بوفد الأعيان قابل الباي (يوم السبت 19 جمادى الثانية 1302هـ/1885م) احتجاجا على الإجراءات الجديدة. ومن العلماء الذين وقّعوا على العريضة المرفوعة للباي: علي بلحسن وأحمد بن مراد وحسن بلقاضي ومحمد شعبان. كما قدّمت عريضة أخرى إلى الوزير الأكبر العزيز بوعتور، “واشتكت العريضة على سبيل المثال من أن مراقبة إدارة الجمارك من قبل سلطة أجنبية قد أضّرت بالتجارة التونسية، وكذلك اشتكت من رجال جاهلين بتقاليد البلد وقع تعيينهم أعضاء بالمجلس البلدي، مشيرة بذلك إلى الفرنسيين الذي صاروا مسيطرين على إدارة المدينة”(8). وقد تضمّنت العريضة أيضا فتوى تخصّ أحوال الميت وقّع عليها جمع كبير من العلماء الحنفية والمالكية، منهم: محمد الطيب النيفر ومحمد النجار والصادق الشاهد ومحمد الطاهر النيفر ومحمد الأمين بلخوجة والشاذلي بلقاضي ومحمد بيرم وإسماعيل الصفائحي وغيرهم (9). وكردّ فعل على هذه الحركة عاقبت فرنسا بعض الموظّفين بالطرد، وعاقبت بعض العلماء بعزلهم من التدريس ومن وظائفهم الأخرى أو نفيهم وهم: الشيخ أحمد الورتاني، والشيخ الصادق الشاهد، والشيخ محمد السنوسي، وأما بقيّة العلماء فلم تطلهم عقوبة. إلّا أن حكومة فرنسا الاستعمارية كانت تؤمّل في استقطاب العلماء خاصّة ودمجهم في نظامها؛ لذلك أصدرت عفوا عن الحركة، و”استدعى الوزير الفرنسي الشيخين الصادق الشاهد وأحمد الورتاني الذين أرجعا إلى خطتهما”(10).

وأمّا الشيخ محمد بن عثمان السنوسي فقد عاد من منفاه وعاد إلى وظيفته بل وقعت ترقيته وأصبح “من المثقفين التونسيين الأوائل الذين تعاونوا مع إدارة الحماية كما يبرهن على ذلك كتابه الذي كتبه دفاعا عن القانون العقاري وتعيينه بالمحكمة العقارية المختلطة”(11). “وقد ذكر الشيخ الصادق بسيس ما يفيد تراجع الشيخ السنوسي في حياته السياسية فقال: عثرت في ملف السنوسي الإداري على رسالة طويلة بخطه يهنئ فيها كامبون بجمعه بين السلطتين السياسية والعسكرية، وبعد أن صورت لي آثرت عدم نشرها غفر الله له”(12). ويفسّر الشيخ الفاضل ابن عاشور موقف السنوسي هذا ملتمسا له العذر بقوله: “ولعلّ ما بدا حوله في تلك الحركة من اضطراب الصفوف وخور العزائم ودناءة المساعي مما شكاه في تحاريره هو الذي حمله على الانصراف عن صفوف المعارضة والإخلاد إلى النظام القائم والاشتراك في التأسيسات التي افتتح بها هذا القرن” (13). ويعتذر له أيضا الشيخ محمد الشاذلي النيفر بقوله: “إنّ الفكرة السائدة في تلك الحقبة كان فيها اليأس هو الغالب على الأفكار فأوروبا قوة كبرى وعالمنا العربي في ضعف لم يستطع معه أن يقاوم الاحتلال” (14).

  1. حركة الاتّصال بالخلافة:

خيّر بعض العلماء إرسال “رسائل إلى القاهرة وإلى مراكز إسلامية أخرى لتعبئة الرأي العالم الإسلامي ضدّ الاحتلال الفرنسي” (15). ويقول الشيخ علي النيفر في ترجمة والده محمد بن محمد الطيّب النيفر (ت1912م): “وكان مما ارتآه طائفة من التونسيين الاستنجاد بالدولة العثمانية لإزالة هذا الاحتلال البغيض بالقوّة أو بالمساعي السياسية؛ لأنهم يعتقدون أن القطر التونسي من ممتلكات الدولة العثمانية. ولذا حرّر صاحب الترجمة خطابا للسلطان العثماني عبد الحميد خان خليفة المسلمين إذ ذاك نظما ونثرا، ولا أدري هل تمّ توجيهه أم لا… وهكذا كان التونسيون في ذلك العصر يولّون وجوهم حين صدمهم الاحتلال الفرنسي نحو دولة الخلافة الإسلامية وهي الدولة العثمانية، ويعلقّون عليها آمالهم في فكّ بلادهم من ربقة الاحتلال الأجنبي يرون أنّ قوّة المحتلّ لا يأتي عليها ويخضدها إلّا قوّة أخرى تكافئها أو تفوقها تأتي من الخارج. وقد انحصرت هذه القوّة في دولة الخلافة الإسلامية في تلك الحقبة من التاريخ؛ هذا ما كان يخامر عقول التونسيين”(16).

  1. 5. حركة الهجرة:

أشهر الأسماء التي يتردّد ذكرها عند الحديث عن هجرة بعض العلماء فرارا من العيش تحت ظلّ سلطة الاستعمار، هي: (1) محمد بيرم الخامس (ت1889م) هاجر سنة 1879م، (2) محمد المكّي بن عزوز (ت1916م) غادر تونس سنة 1895م وحلّ بإسطنبول سنة 1896م (وفق بعض المصادر)، (3)  إسماعيل الصّفائحي (ت1918م) هاجر سنة 1905م، (4)  صالح الشّريف (ت1920م) هاجر سنة 1906م، (5) محمد الخضر حسين (ت1958م) هاجر سنة 1912م.

والملاحظ ما يلي:

أولا: بالنسبة للشيخ محمد بيرم الخامس فقد غادر تونس قبل انتصاب الحماية الفرنسية بسنتين (أي سنة 1879) نتيجة لخلافاته مع الباي ووزيره الأوّل مصطفى بن إسماعيل، وكان عازما على عدم العودة إلى تونس (17). فهو “قد طلب الترخيص له في السفر لأداء مناسك الحجّ (1879)… بعدما أنهى مناسك الحجّ وزار سوريا ولبنان زيارة خاطفة، تحوّل إلى الآستانة بنيّة الاستقرار بها (1880). وما إن وصل إلى العاصمة العثمانية حتى بلغه نبأ إعفائه من جميع مهامّه وتجريده من شهائده العلمية فأصبح منذ ذلك الحين بمثابة اللاجئ السياسي المخطر…”.(18). وعليه، فلا يمكن اعتباره ممن هاجر فرارا من حكم الحماية.

ثانيا: بالنسبة للشيخ محمد المكّي بن عزوز (وهو من أصل جزائري، وقد ظلّ محافظا على صلة رحمه؛ لذلك كان يكثر من التردّد على الجزائر)، فلا شكّ في كرهه لفرنسا وعدم قبوله بواقع الحماية وتحريضه النّاس على مقاومتهم؛ “وهذا ما جعله يعيش في مضايقات كثيرة في الجزائر وفي تونس وكثرت عليه العيون التي ترصد تحركاته، فكان ذلك سببا في هجرته من تونس إلى الآستانة، وقد أشارت إلى ذلك مذكرات مصالح الاستخبارات الفرنسية إذ تنص على أن هجرته كانت على إثر فتح تحقيق قضائي ضدّه، وأنه كان قبل ذلك موضع تهمته سياسية خطيرة – ولعلها فتواه في تحريم المواد الدسمة والدعوى إلى مقاطعة فرنسا اقتصاديا –  وجهت إليه من قبل الحكومة العامة بالجزائر”(19). وممّا يؤكّد موقفه المناهض للاستعمار الفرنسي شهادة تلميذه المناضل عبد العزيز الثّعالبي (ت1944م) الذي ذكر “أنّ دروسه [في الزيتونة] كلّها وطنيّة؛ فقد كان يبعث في الذين يتلقون دروسه فكرة مقاومة المحتلّ وروح التضحيّة ومبدأ الإخلاص في العمل والثبات عليه”(20). ولنا أن نعتبر دروس الشيخ المكّي بن عزوز رحمه الله ومحاولته تحريض الدارسين والطلبة ضدّ الاستعمار من أهمّ أعماله وأكثرها أثرا. علما أنّ الشيخ كان يدرّس في الزيتونة ابتداء من سنة 1890م بصفة غير رسمية؛ فلا يعدّ رسميا من العلماء المدرّسين بالزيتونة.

ثالثا: بالنسبة لبقيّة المشايخ وهم: الشيخ إسماعيل الصفائحي والشيخ صالح الشّريف والشيخ محمد الخضر حسين؛ فقد مكنّتهم الهجرة من القيام بأعمال مؤثّرة تخدم النازلة التونسية وتقضّ مضاجع الاستعمار الفرنسي. وسنتناول نشاط هؤلاء العلماء وتأثيرهم في حركة الاستقلال ومقاومة الاستعمار الفرنسي في المقال القادم بإذن الله تعالى.

ياسين بن علي

CATEGORIES
TAGS
Share This