كثر الحديث في الأيّام الأخيرة عن التحضيرات لقمة الفرنكوفونية 2021 في تونس، وأعلن عثمان الجرندي وزير الخارجيّة عن زيارات أجرتها وفود للاطلاع على التحضيرات الجارية لاحتضان جزيرة جربة لهذا الحدث. فقال إن “التحضيرات على قدم وساق وعلى مدار الساعة لإنجاح هذا الحدث، وهناك وفود زارت جزيرة جربة من أجل معاينة الأطر المتوفرة والوقوف على كل الاستعدادات”.
أمّا الرئيس قيس سعيّد فلم ينفكّ يُظهر تمسّكه بعقد قمّة الفرنكفونيّة بل إنّه اتّهم “أطرافا” بمحاولة عرقلة انعقاد قمّة الفرنكفونيّة.
لماذا كلّ هذا الحرص على عقد القمّة الفرنكفونيّة في تونس؟
الفرنكفونية التي يريد “ماكرون” أن تكون تونس قاعدة لها:
“إن تونس ستكون خلال سنتين، قاعدة جديدة لتعليم اللغة الفرنسية” مشيرا إلى أنّ “الفرنكفونية ستساعد التونسيين والتونسيات على النجاح في عدة مجالات وفي دول مختلفة”. (هكذا تكلّم ماكرون رئيس فرنسا سنة 2018 حين زيارته إلى تونس) وبنفس المنطق الاستعماري القديم فرئيس فرنسا يعتبرنا في تونس متخلّفين وفاشلين وأنّ فرنكفونيّته وحضارته البائسة هي التي ستنقذنا وتنتشل تونس من الفشل. ويصرّح أنّه يريد أن يجعل من تونس قاعدة للفرنكفونيّة، في تصريح علنيّ وقح.
نعم رئيس فرنسا يتكلّم عن مستقبل تونس بكلّ وقاحة فهو يريد ويخطط، وأشباه الحكّام في تونس يهرولون ويعملون بالليل والنّهار لإنجاح القمّة الفرنكفونيّة وتنفيذ أوامر السيّد الأوروبي.
أهداف القمّة الفرنكفونيّة:
القمّة الفرنكفونيّة تدخل ضمن تخطيط عالمي من الدّول الاستعماريّة جميعها في وأد ثورة الأمّة الإسلاميّة على الهيمنة الاستعماريّة الغربيّة، ولسنا هنا مهووسين بنظريّة المؤامرة إذ المؤامرة حقيقة ماثلة، فالرئيس الفرنسي حين زيارته إلى تونس في 2018 أكّد بصريح العبارة بل بقبيحها “أن الفرنكوفونية ليست مشروعا قديما، بل هي مشروع مستقبلي، فتحدث اللغة الفرنسية تعد فرصة حقيقية، على المستويات اللغوية والاقتصادية والثقافية.” فالمشروع إذن مشروع سياسي وحضاري يهدف إلى مسخ الشعوب وسلخها عن ثقافتها، والتركيز خاصّة على بلاد المسلمين الثّائرة على الغرب له أكثر من دلالة:
فهو يهدف إلى الاختراق الثقافي، وليس خافيا على أحد الحرب التي تشنّها فرنسا على الإسلام، فمناصرتها لشاتمي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مشهورة معروفة، وعداؤها للإسلام أشهره مجلس الشيوخ الفرنسي منذ أشهر قليلة، وقوانينها التي سنّتها لمحاربة كلّ مظهر للإسلام في فرنسا علمها كلّ العالم، ولا ننسى كيف مدح رئيس فرنسا، في مؤتمر القمّة الفرنكفونيّة الفارط في خطاب سمعه الجميع مدح الباجي قايد السبسي وسانده في سعيه إلى إبطال أحكام الميراث التي فرضها القرآن الكريم.
محاولة تأكيد هيمنة الثقافة الغربيّة عموما على الثقافة الإسلاميّة، إذ ما معنى قول الفرنسي أنّ التحدّث بالفرنسيّة يُمثّل فرصة كبيرة للعرب المسلمين؟ أليس هذا طعنا في لغتنا؟ أوليس الطّعن في العربيّة هو طعن صريح في القرآن وفي الإسلام؟
الفرنكفونيّة مشروع سياسي ثقافي فرنسي يتناغم مع الخطّة الاستعماريّة العالميّة، فالدّول الغربيّة (المنتصرة في الحرب العالميّة الثانية)، قسّموا العالم: فأمريكا الدّولة الأولى، تليها دول أوروبا الغربيّة على رأسها بريطانيا ثمّ فرنسا، أمّا باقي الدّول فيريدونهم خدما وعبيدا، لا حقّ لهم في الحياة إلا إذا كانوا تابعين خاضعين. وهذا ما يُفسّر العداء الشديد للمسلمين والإسلام لأنّ الإسلام يُحرّم تحريما شديدا الخضوع للكفّار، ولأنّ المسلمين بدؤوا ثورة صارت تُهدّد هذا النّفوذ الغربي وتنذر بتقسيم جديد للعالم إذ بدأت بشائر دولة جديدة في الأفق يسعى إليها المسلمون هي دولة الخلافة، التي يخشاها الغرب لأنّها لن تكون دولة تابعة أو خاضعة إنّما هي دولة جامعة ستجمع المسلمين جميعا في كيان ضخم عظيم وقويّ، وهي دولة صاحبة رسالة عالميّة عادلة ومناقضة للرأسماليّة الظّالمة التي أغرقت العالم في أزمات لا تنتهي.
إذن فالفرنكفونيّة إحدى أدوات الاستعمار في صراعه مع اللمّة الإسلاميّة. وجزء من خطّته لإدامة الهيمنة لأنّ الهيمنة على فكر الشعوب ومنها لغتها وما تحمله من أفكار وقيم، يجعلها فاقدة للبصر والبصيرة ويجعلها تابعة تبعيّة عمياء للفكر الغربي وهذا ما يفسّر إصرار رئيس فرنسا بل هوسه بفرض اللغة الفرنسيّة والزّعم أنّ التحدّث بها فرصة للنّجاح.
النّخبة السياسيّة والثقافيّة العلمانيّة من بورقيبة إلى قيس سعيّد والغنّوشي: تشابهت قلوبهم
ولتحقيق مسعاها اعتمدت الدّول الاستعماريّة ومنها فرنسا؛ على النخب السياسيّة والثقافيّة التي صنعتها ومكّنتها من مراكز السلطة؛ فكانت هذه النخبة الحاضن لهذه الطموحات الاستعمارية؛ والمروج لها؛ بذرائع شتّى: الانفتاح اللغوي؛ والتبادل الثقافي؛ و ترويج قيم الحداثة، والحوار بين ثقافات…
ومن أكبر أحلام هذه النخبة الفرنكفونية الارتباط بأوروبا في كلّ شيء حتّى جغرافيّا، إنّها نخبة تحلم باستعمار جديد؛ من جنس الاستعمار الأوربي للقرن التاسع عشر الذي حول منطقة البحر الأبيض المتوسط إلى امتداد أوربي؛ وكان التركيز منذ البداية على طمس كل معالم الحضارة الإسلامية في شمال إفريقيا؛ لغة ودينا وثقافة… انطلاقا من نظرة استشراقية استعلائية؛ تعتبر أن فرنسا هي منطلق الأنوار والتقدم والتحضر؛ وأن المستعمرات – و منها دول المغرب العربي- لم تصل بعد إلى هذه الدرجة من الرقي الفرنسي! تلك كانت مبرّرات الاستعمار (عفوا الحماية كما يراها قيس سعيّد)
وأبرز من مثّل هذه النخبة المسلوبة الإرادة فاقدة البصر والبصيرة في تونس بورقيبة الذي تبنّى الفرنكفونيّة واحتضنها؛ فليس خفيا ما قدمه “الزعيم” من خدمات للفرنكفونية ليس في تونس فحسب بل في كل المغرب العربي ولقد كان بورقيبة متحمساً لمفهوم اللغة المشتركة الجامعة للشعوب الناطقة بها، فكان اقتراحه عام 1965 بإنشاء “كومنولث فرنسي يضم كل الشعوب التي تتكلم الفرنسية. وكان يفتخر أنه الأب الروحي للفرنكفونية في المغرب العربي. يقول في أحد حواراته: ” إن مستقبلنا مرتبط بمستقبل الغرب عموماً ومتضامن مع مستقبل فرنسا خاصة… ونحن نتجه اليوم من جديد إلى فرنسا. إنني أنا الذي تزعمت الحركة المنادية بالفرنكفونية؛ فالرابطة اللغوية التي تجمع بين مختلف الأقطار الإفريقية أمتن من روابط المناخ أو الجغرافيا “. وصرح في مقابلة صحفية: ” إننا لا نستطيع الإعراض عن الغرب، إننا متضامنون مع الغرب بأكمله، متضامنون بصورة أخص مع فرنسا. وتدعيم الروابط مع فرنسا وبصورة أخص في ميدان الثقافة، وفكرة بعث رابطة للشعوب الفرنكفونية تولدت هنا “.
هكذا كان “الزعيم” بورقيبة من أذيال الفرنكفونية حُلمه الأكبر كان ربط تونس وكلّ شمال إفريقيا بأوروبا سياسيا واقتصاديا وثقافيا… (تأبيد الاستعمار) بهدف المحافظة –طبعا- على المصالح الاستعمارية في المنطقة.
وكانت لفرنكفونية بورقيبة مهمّة تصفية الإرث الحضاري الإسلامي من تونس (ثقافة؛ لغة؛ دين)؛ من خلال انتزاعها من امتدادها الحضاري؛ وربطها بامتداد حضاري مزيف؛ بادعاء الحداثة والديمقراطية..
ما أشبه اليوم بالبارحة:
“زعيم” الثورة الرئيس قيس سعيّد يسير على خطى بورقيبة، بل ربّما نافسه، ففرنسا عنده ليست مستعمرة ولا مجرمة إنّما هي جاءت إلى تونس لحمايتها (هكذا)، وهو لا ينفكّ ينافح عن القمّة الفرنكفونيّة ويتوعّد من يُحاول إفشالها، فقد وجّه اتهامات لأطراف لم يسمّها بأنها تسعى إلى تعطيل جهود بلاده لاحتضان القمة الفرنكوفونية ويدعمه في ذلك كلّ الطّبقة السياسيّة العلمانيّة ومنهم أحزاب الحكم بقيادة راشد الغنّوشي فكلّهم يسعى إلى إنجاح القمّة الفرنكفونيّة، بما يعني أنّهم منخرطون في مشروع استعماري عالمي مثّلوا فيه أدنأ الأدوار وأخسّها. إذ قبلوا أن يجعلوا لأوروبا الهيمنة والسبق وجعلونا في ذيل الأمم.
ولكن هل سينجح المشروع الاستعماري؟
لقد كان فشل الاستعمار ذريعا فرغم إمكانيّاته المادّية الكبيرة ورغم جيش العملاء والمضبوعين بالثقافة الغربيّة من أمثال بورقيبة لم يستطع تحويل وجهة التّونسيين عن الإسلام ولم يستطيعوا اقتلاعه من النّفوس والقلوب، وكانت خيبتهم كبيرة، فكلّ ما عملوه لتدجين النّاس ذهب هباء، وكانت الثّورة على هذا الإرث الاستعماري البغيض وخرج النّاس يطلبون إسقاط النّظام، النّظام الذي أسّسه الأوروبّيون وقام على تنفيذه بورقيبة وبن علي. ثمّ جاء حكّام جدد ركبوا موجة الثورة يتزعّمهم من يدّعي الصفة الإسلاميّة، عملوا جميعا على إيهام النّاس بالتّغيير والمحافظة على “مكاسب الثورة”، لكنّ دخائلهم سرعان ما انكشفت وانكشف أنّهم مجرّد بدائل اصطنعها الغرب ودفع بها إلى الصّفوف الأولى ليضمن استمرار هيمنته. ولذلك رفضهم أهلنا في تونس وأبوا الانقياد لهم. وما زالت الثورة مستمرّة ولن تتوقّف حتّى تخلع النفوذ الغربي وتخلع معه العملاء وخدّام الاستعمار، ومن ثمّ تقوم دولة حقيقيّة تمثّل المسلمين وترعاهم بأحكام الله.