مرّة أخرى يبرهن الكيان التونسيّ على أنّه (دولة) المفارقات والفضائح السياسيّة ـ بامتياز ـ وتثبت حكوماته (الثوريّة) أنّها عصابات ردّة انقلابيّة منصّبة على رقاب الشّعب المتجذّر في عقيدته الإسلاميّة بالحديد والنّار وبالأمر الواقع المدبّر بليل دهاليز السّفارات الأجنبيّة..ففيما يشنّ الكافر المستعمر حملة عالميّة على الإسلام ـ عقيدة وشعوبا ومقدّسات ـ وحرب إبادة لا هوادة فيها على الأقليّات الإسلاميّة تتجاوز فظاعاتها مذابح الأندلس ،إذا بها تدفن رأسها في رمال العمالة والخيانة وتكتفي بحياد الخزي والعار أو ببيانات (الشجب والتنديد والاستنكار والاستنكاف) الصفراء المنزوعة الدّسم في تواطؤ مفضوح يلامس حدود الشّماتة والتشفّي..وتتعمّق المفارقة داخليّا :فبالتّوازي مع محاربتها لأدنى نفس إسلاميّ ـ تشريعا وتطبيقا ـ وتفانيها في تغريب شعبها وتمييعه وفصله عن دينه وحضارته ،نجد هذه الحكومات اللّقيطة الكسيحة ـ في تضادّ مشطّ مع ما تدّعيه من علمانيّة ـ ترعى حملات التّبشير والتّنصير في تونس وتكفل للمبشّرين حريّة التصرّف وتبيح لهم فتنة الشّباب التونسيّ عن إسلامهم باعتماد أساليب قذرة وتذلّل لهم العقبات دون أن تحرّك ساكنا..وفي مقابل شيطنة إعلام العار والنخبة العلمانيّة المرتهنة المأجورة لمظاهر الصّحوة الإسلاميّة (كتاتيب ـ روضات قرآنيّة ـ الحجاب والنّقاب ـ النفس الإسلاميّ ـ الظّاهرة الجهاديّة..) نراها تتكتّم بكلّ خسّة ونذالة عن تنامي النّشاط التبشيريّ وعن الأرقام المفزعة للمرتدّين عن الإسلام ولسان حالها يقول (مرتدّ أفضل من ملتزم أو جهاديّ) وذلك مكمن المفارقة..
بالجرم المشهود
مصداقا لهذا المدخل النظريّ تمّ بتاريخ الإثنين الفارط 17/02/2020 التفطّن بمدينة النفيضة إلى مجموعة من الأجانب (زوجان هنديّان وفلبّينيّة وأستراليّ من أصول مصريّة) بصدد توزيع شعارات الدّيانة المسيحيّة وبعض المنشورات والأناجيل المترجمة وفق مراسلة (موزاييك آف أم) بسوسة..وأفادت النّاطقة الرسميّة باسم المحكمة الابتدائيّة بسوسة 2 السيّدة (إيمان حميدة) للقناة أنّ هؤلاء الأجانب يتنقّلون إلى المدن التونسيّة بواسطة النّقل العموميّ ويتردّدون على الأماكن العموميّة داعين المارّة والسكّان إلى اعتناق الدّيانة المسيحيّة..وأضافت المسؤولة أنّ النّيابة العموميّة أذنت بإحالتهم على خليّة الفصل السّريع لاتّخاذ الإجراءات اللاّزمة في حقّهم..
وباستنطاقنا لمعطيات هذه الحادثة يمكن أن نقف عند الاستنتاجات التّالية..أوّلها:تلازم السّياحة والتّبشير، فمدينة النفيضة تتوسّط قطبين سياحيّين (الحمّامات ـ سوسة) والتّبشير عموما ينتعش في المناطق السياحيّة حيث تتدنّى أخلاقيّات النّاس بمخالطتهم للسيّاح فيتعوّدون على مشاهد العري والمجون وينبهر الشباب بقشور الغرب الزّائفة فيسهل إغراؤهم واستدراجهم إلى التنصير، كما تتوفّر للمبشّرين (أجواء عمل)مريحة وملائمة وآمنة..ثانيا:تواطؤ السّلطة ورعايتها للنّشاط التبشيريّ ،فلا يمكن ـ عقلا ومنطقا ـ أن يتجرّأ هذا الرّباعي الأجنبيّ على التحرّش بعقيدة النّاس وفتنتهم عنها في عقر دارهم والتنقّل بأريحيّة بين المدن والأماكن العموميّة والتوزيع الكفاحيّ للموادّ التبشيريّة في استهانة واستخفاف كلّيين بمشاعر المسلمين لو لم يكن يعلم أنّه محميّ ومسنود (وقد يكون مصحوبا ومحروسا) من طرف السّلطة وأنّه يعمل في كنف القانون والدّستور التونسيّ.. ثالثا:القضاء التوّنسي ليس له سلطة على هؤلاء وأمثالهم،فللنّيابة العموميّة أن تدبّج ما تشاء من التّهم وقصارى ما يمكن أن يقع لهم هو العودة إلى قواعدهم سالمين غانمين ،ودونكم قنّاصة الثورة أو الشّاذ الفرنسي الذي اعتدى على قُصّر تونسيّين بالفاحشة وغيرهم كثير:يتبخّرون في الطّبيعة أو تضيع ملفّاتهم أو يتدخّل الرّؤساء والملوك من أجل إطلاق سراحهم على غرار الشّاذ الإسباني الذي اعتدى على أطفال مغاربة وتدخّل ملك إسبانيا بنفسه لإطلاق سراحه بل اصطحبه في رحلة العودة على طائرته الخاصّة..
مفارقة عجيبة
ممّا لا شكّ فيه أنّ بلاد العالم الإسلاميّ قاطبة ـ بما فيها تونس ـ كانت ومازالت منذ انفصالها عن الدّولة العثمانيّة بصفقات الاستقلال مسرحا نشيطا لظاهرة التبشير والتنصير، لكن مكمن الرّيبة ومثار الاستغراب أنّ هذه الظّاهرة شهدت في ظلّ حكومات الثّورة التّونسيّة سرعتها القصوى بحيث أنّ أجواء الثّورة التي من المفترض أن تصالح المنطقة وشعوبها مع عقيدتهم وهويّتهم قد مثّلت أرضيّة خصبة لاستهداف الإسلام والمسلمين في عقر دارهم وبأخطر الأشكال :التنصير والردّة…فقد كشفت دراسات أنجزت في هذا الصّدد أنّ مئات المليارات تُرصد سنويّا لتمويل حركة التّبشير في شمال إفريقيا وأنّ تونس مثّلت مسرح عمليّات نشطا للحملات التبشيريّة ووجهة مفضّلة للمئات من المبشّرين القادمين خصّيصا من شتّى البلدان الأوروبيّة لفتنة الشّعب التونسيّ عن دينه ونشر النصرانيّة بين ظهرانيه ،ناهيك وأنّ آخر الإحصائيّات تشير إلى أنّ أكثر من 10 آلاف تونسيّ اعتنقوا المسيحيّة وصاروا يمارسون طقوسها الدينيّة ويتردّدون على الكنائس وتربطهم علاقات مشبوهة بالمبشّرين..وبالمحصّلة فإنّ ما عجزت عنه فرنسا الاستعماريّة بجيوشها الجرّارة طيلة قرن إلاّ ربع نجحت في تحقيقه بامتياز الطغمة العلمانيّة المرتهنة التي نابت المستعمر في حكم البلاد أثناء حقبتي (الاستقلال والثورة) وكان تأثيرها على هويّة البلاد أشدّ فداحة من الاستعمار نفسه: ففي ظلّها تسارعت وتيرة التغريب والمسخ والنّهب وأطلقت أيادي المبشّرين تعبث بكلّ حريّة بمعتقدات التونسيّين وتستدرج ضعفاءهموسفهاءهم لشراء ذممهم وفتنتهم عن دينهم متمتُعة بكافّة الامتيازات والتّسهيلات ،بل إنّ دستور الثّورة والحكومات الثوريّة قد كرّست هذه الجريمة وزكّتها وقنّنتها..
أمّا عن كيفيّة استقطاب الشّباب التونسيّ فتجدر الإشارة إلى أنّ المبشّرين يعتمدون لتحقيق مآربهم أساليب قذرة خسيسة تستهدف بالأساس إخراج المسلم من الإسلام بصرف النّظر عن مسألة الاقتناع والاعتقاد والإيمان ناهيك وأنّ عقيدة التثليث لا يمكن أن تصمد أمام النّقاش الفكري العقلي المركّز والنّزيهلاسيّما مع الشّباب..
أساليب قذرة
لذلك فهم يستعملون ما يُتاح لهم من وسائل الضغط والابتزاز والمساومة والاستغلال والإغراء والمقايضة ببراغماتيّة وانتهازيّة مطلقة..إذ يستهدفون بالأساس فئة الشّباب من التلاميذ والطّلبة والمهمّشين مستغلّين الفراغ العقائديّ والخواء الرّوحي وحال الانبهار بالغرب والانضباع بثقافته التي يعانون منها كثمرة حتميّة لمناهج تربويّة استعماريّة ،ومستغلّين انسداد الآفاق والظروف الماديّة والاجتماعيّة الصّعبة التي تعاني منها هذه الشّريحة بحيث جعلتهم يتصوّرون أنّ اعتناق المسيحيّة سيفتح في وجوههم أبواب الجنّة الأوروبيّة الموعودة ويطوي صفحة الفقر والتهميش والبطالة والإقصاء إلى الأبد..ويغلّف التبشير عادة بالأنشطة الشبابيّة والنوادي والحفلات الماجنة والرّحلات ـ لاسيّما أثناء الأعياد المسيحيّة الوافدة (الكريسماس ـ الفالنتاين ـ الهالويين)..كما يُعوّل هؤلاء المبشّرون على اللّهجة التونسيّة الدّارجة في الدّعوة إلى المسيحيّة سواء في الخطاب المباشر مع النّاس أو من خلال توزيع أناجيل وكتب وأقراص مدمجة تتضمّن حياة المسيح باللهجة الدّارجة التونسيّة،أو من خلال التعويل على العنصر التّونسيّ في عمليّة الاستقطاب بعد إخضاعه لتربّصات في أوروبا حيث تُصنع نماذج ناجحة ترفل في الأموال والملابس والذّهب والسيّاراتإمعانا في السّحر والإغراء..كما وقع استغلال العالم الافتراضي لإحكام التّواصل مع شريحة الشّباب والتّأثير فيها :حيث تُروّج على الأنترنت وصفحات التّواصل الاجتماعيّ مقاطع فيديو تُظهر مواطنين تونسيّين يروون كيفيّة اعتناقهم للمسيحيّة والانقلاب الإيجابيّ الذي حصل في حياتهم حاثّين الشّباب على الاحتذاء بهم واعدينهم بالإغراءات الماديّة والمعنويّة..وقد أكّد البعض تلقّيهم لإرساليّات قصيرة على هواتفهم فيها عروض صريحة وجادّة باعتناق المسيحيّة مقابل مبالغ ماليّة تتجاوز 5000 دينار وإغراءات اجتماعيّة وعلاجيّة وتعليميّة ووعود بالحصول على (الفيزا) إلى الاتحاد الأوروبيّ.. والمثير أنّ هذه الإرساليّات تصدر من هواتف تونسيّة ممّا يؤكّد النّجاح ـ لا في الاستقطاب فحسب ـ بل وفي التوظيف أيضا..
الدّستور والتّبشير
وممّا لا شكّ فيه أنّ تنامي ظاهرة التنصير في تونس وانتعاشها بترسانتها وأرصدتها وأطقمها والتّسهيلات التي تتمتّع بها لا يمكن عقلا ومنطقا وواقعا أن تكون بمنأى عن أعين حكومات ما بعد الثّورة ووحيها ـ احتضانا وتخطيطا ورعاية وتقنينا ـ ناهيك وأنّ الدّستور التّونسي اللّقيط ـ في نسختيه البورقيبيّة والثّورية ـ يبيح التّبشير ويكفله ويشرعنه وإن كان ذلك بخبث ومكر ودهاء وبلغة أبعد منالا عن سواد الأمّة وبأسلوب دسّ السمّ في الدّسم..ودونكَالفصل السّادس من توطئة الدّستور:فهو حقل من الألغام يفتح البلاد والعباد على التّبشير بسائر الدّيانات السّماويّة منها والوضعيّة ويبيح فتنة المسلمين عن دينهم ويُجيز الارتداد عن الإسلام ويكفل ممارسة مختلف الطّقوس الدّينيّة ويمنع المسلمين من حماية عقيدتهم والدّفاع عن دينهم،وهذا ما لم تجرؤ عليه فرنسا الاستعماريّة نفسها طيلة 75 سنة..فكون الدّولة (راعية للدّين كافلة للشّعائر الدينيّة) ليس المقصود به الإسلام دين الشّعب التّونسيّ بل يفيد أنّ الدّولة راعية لمطلق الدّين ولمطلق الشّعائر سماويّة كانت أم وضعيّة بما في ذلك الهرطقات كالبهائيّة وعبدة الشّيطان لأنّ الصّيغة وردت مطلقة غير مقيّدة (الدّين ـ الشّعائر)..وكون الدّولة (كافلة لحريّة المعتقد) ـ هكذا في المطلق ـ فهذا تنصيص صريح على إباحة الارتداد عن الإسلام والتّشجيع عليه والسّماح لكلّ من هبّ ودبّ بفتنة التونسيّ المسلم عن عقيدته محميّا بالقانون…وكون الدّولة (كافلة لحريّة الضّمير) فهذه حركة بلطجيّة لا أخلاقيّة يباح بمقتضاها للتونسيّ كلّ الرّذائل والموبقات مادام ضميره مرتاحا إليها بما في ذلك الإلحاد والردّة والانتقال من دين إلى آخر وتناول الخمر والمخدّرات والزّنا وسفاح القربى والشّذوذ الجنسيّ سحاقا ولواطا..
تبشير ذاتي
ولم تكتف الدّولة في هذا الدّستور اللّقيط بدور (القهرمانة) والديّوث المستحسن على عقيدته وشعبه ،بل ينصّ الفصل السّادس أيضا على أن تضطلع بدور (البلطجيّ) الذي يرغم النّاس بالقوّة على قبول النّشاط التبشيريّ (تلتزم الدّولة بحماية المقدّسات ومنع النّيل منها كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتّحريض على الكراهيّة والعنف وبالتصدّي لها) فكلمة (مقدّسات) وردت مطلقة غير مقيّدة بالإسلام بما يفيد حماية الدّولة للدّيانات الغازية للمسلم التّونسيّ في عقر داره والتكفّل بمعابدها ومنشآتها وحماية أتباعها ورعايتهم ومنع الاعتداء عليهم ماديّا أو معنويّا ـ ولو بمجرّد التكفير ـ وضمان ممارستهم لشعائرهم وطقوسهم وإجبار أهل البلاد المسلمين ـ بالحديد والنّار إن لزم الأمر ـ على القبول بذلك والرّضا به والتخلّي عن الأحكام الشّرعيّة القطعيّة في حقّ الكافر والمرتدّ..بمعنى تجريد العقيدة الإسلاميّة من الطّريقة الشرعيّة التي تحمي بها نفسها وتوظيف الدّولة وتسخير مقدّراتها في التّبشير الذّاتي لشعبها..وفي كلّ هذا ما فيه من حرب صريحة على الله ورسوله وعقيدته وشرائعه ومن إشاعة للفاحشة في الذين آمنوا ونشر للفسق والفجور في المجتمع التونسيّ تمهيدا لشلّه بالكامل..هذا تحديدا ما ارتضته الطغمة العلمانيّة المرتهنة لشعبها وعقيدتها ودولتها وهذا هو تحديدا الدّور القذر الذي أنيط بعهدتها قبل تسليمها مقاليد الحكم..فبئس الثوّار إن لم يكنسوا هذه الطّغمة إلى مزابل التّاريخ ومجاريره ويا لخيبة الثورة إن لم تقتلع هكذا أنظمة وتقيم على أنقاضها دولة الخلافة الإسلاميّة..