ليبيا: خديعة جديدة بحجة إنهاء الأزمة
بالرغم من بعض أجواء التفاؤل التي أشاعها إعلان السراج من مبادرته الجديدة لإنهاء الأزمة الليبية، إلا أن المؤشرات تدل على مزيد من التدهور، والأحداث تدفع في اتجاه مزيد من التأزيم.
فمنذ شهر تقريباً قام السراج بتعيين قائدين للمناطق العسكرية الغربية، فقد تم ترقية ضابطين إلى رتبة لواء، وعين أحدهما للمنطقة الوسطى الممتدة من سرت حتى طرابلس، وهو اللواء محمد الحداد، من مصراتة، وهو أحد قادة ألوية الحلبوص من ثوار مصراتة، والآخر للمنطقة الغربية الممتدة من طرابلس حتى الحدود التونسية، وهو اللواء أسامة الجويلي، رئيس المجلس العسكري لمدينة الزنتان.
ويبدو الأمر ظاهراً فيه “عملية تبنٍّ للقوى المناوئة لحفتر”، وإصباغها بصبغة الشرعية، وإن دل هذا التعيين على شيء فإنما يدل على عملٍ المقصود منه إضعاف شوكة حفتر، بتنصيب هذين القياديين لمليشيات الثوار في مواجهة مع حفتر وإعطائهما الشرعية الرسمية، وهما معروفان بأنهما يملكان القوة الكافية للتصدي لحفتر، في حالة تمدده في المناطق الغربية، وأيضاً لإحداث توازن في القوة معه إذا نضجت الحلول التي يتمناها السراج.
وهذا العمل من السراج دفع حفتر إلى إعطاء السراج مهلة تنتهي في آذار/مارس القادم، وهي المهلة المنصوص عليها في الوثيقة “وثيقة الصخيرات”، بعدها تصبح حكومة السراج كأنها لم تكن، وتصبح الوثيقة نفسها منتهية الصلاحية ولا مفاعيل لها في المستقبل. غير أن الذين انخرطوا في الوثيقة ووقعوا عليها وأيدوها من مثل حزب العدالة المحسوب على توجهات بعض الإسلاميين “الإخوان المسلمون” وحزب الجبهة الوطنية وبعض القوى السياسية والعسكرية في مصراتة، من مثل ياش آغا والفقي ودبيبة من رجال الأعمال والمجلس البلدي، وأحمد معيتيق من السياسيين، وكتائب الحلبوص وكتائب المحجوب من القوى العسكرية… يرفضون فشل الوثيقة ويرفضون “عملها” ويقولون بأن المهلة المعطاة للوثيقة وللحكومة الناشئة عنها تبدأ من تاريخ الموافقة على الوثيقة من البرلمان “برلمان طبرق”، وعلى المنوال نفسه الحكومة تبدأ مهلة عملها من تاريخ إعطاء الثقة لها من البرلمان، والأمران لم يحصلا، ولذلك لا زال المسعى والأمل في إعطاء الحكومة الثقة من البرلمان والمصادقة على “وثيقة الصخيرات” أيضاً.
وما هذا الجدال حول شرعية الوثيقة وشرعية الحكومة الناشئة عنها إلا سباحة في ما صاغه العدو الغربي في هذه الوثيقة من غموض، على عادة القوى الاستعمارية دائماً في تعاطيها مع قضايا المسلمين وصياغتهم للعهود والمواثيق المكبلة لنا، بدءاً من قضية فلسطين مرورا بكشمير والعراق وسوريا ووصولاً إلى ليبيا. وهذا أمر طبيعي عندما ترضى الأمة بتسليم قضاياها المصيرية للعدو المستعمر وتحتكم إليه. ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِيْ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًى﴾.
غير أن الأحداث تتوالى وموازين القوى في حالة اختلال وتغيير، فحفتر ادعى أنه حرر بنغازي، غير أنه بعد هذا الإعلان مني بخسائر عسكرية في نفس المكان، وفقد ما لا يقل عن 150 قتيلاً في صفوف مقاتليه مقابل عدد لا يزيد عن أصابع اليد في الطرف الآخر ثوار بنغازي. والأمر لا يعدو عن كونه كذبة كبيرة على عادته في ذلك طوال الثلاث سنوات الماضية.
ولكن حالة الصراع بين الأطراف الدولية لم تهدأ، رغم التحولات العسكرية ولم يظهر ما يدل على حدوث وفاق لدى الدول المتصارعة في ليبيا. فحفتر قام منذ أيام بإرسال بعض مشايخ ووجهاء القبائل الشرقية في محاولة منه لاسترضاء المناطق الغربية تحت ستار التصالح المشروط بقبول حفتر في المناطق الغربية عله يسحب البساط من تحت السراج، والسراج أعلن عن مبادرته هذه للالتفاف على مسألة انتهاء المهل الممنوحة له وللوثيقة. وإذا ما أخذنا في الاعتبار التصريح الأمريكي من أن “إدارة ترامب تدرس خطة عسكرية وسياسية لتنفيذها في ليبيا في الأسابيع القادمة”، وقيام فرنسا بالإعلان عن توجيه الدعوة إلى حفتر والسراج للقاء في فرنسا، وقيام السراج بالإعلان: “أنه لم يتلق دعوة بذلك ولا علم له بذلك”، ثم ما نشر من قيام مجلس الأمن بإصدار بيان أو تعميم يعارض فيه قيام “الدول بالاتصال بالأطراف الليبية المتنازعة من خارج بعثة الأمم المتحدة”، ويطلب حصر الاتصال ببعثة الأمم المتحدة وحدها. ولا يخفى أن هذا التعميم هو ضد المساعي الأمريكية الأحادية والفرنسية الأحادية.
فإن دلت هذه الملابسات والتدخلات على شيء فإنما تدل على استمرار الصراع واشتداده بين أمريكا من جانب وأوروبا من جانب آخر مع محاولات فرنسية لإحداث التقسيم في البلاد من أجل اقتطاع الجنوب لها. وليست هناك أي بوادر تدل على أن هناك توافقا بين الدول الاستعمارية في ليبيا، والقوى المحلية أصبحت في أغلبها منقادة للتجاذبات الدولية، والفئة المخلصة القليلة لم تعد قادرة على إحداث انقلاب على الظروف القائمة.
بقلم: أحمد المهذب