مأزق النظام وتسارع نسق هروبه إلى الأمام
محاولات خلاص مستمرة وجسورة تعيشها تونس كما غالبية شعوب الأمة الإسلامية, تحاول فيها جموع الرافضين للنظام أن تمضى إلى الجزء الثاني من التحرير والانعتاق من قبضة الاستعمار.
وفي المقابل, يضيق الخناق على منظومة الحكم الوكيلة عن المستعمر الغربي الذي داهمته مستجدات حرب المواقع والتدافع الدائرة هذه الأيام على الأراضي الأوروبية الروسية.
فلطالما أقرّ الرئيس قيس سعيد، وهو من أهل القانون، بأنّ ترسانة المفاهيم والنصوص والتشريعات التي تم إنشاؤها قد وضعت على المقاس, وأن ما أحدث على أساسها من مؤسسات ليست في صالح الشعب, وقد تم التلاعب بها وتوظيفها لصالح أطراف بعينها على حساب «الشعب», وأن ذلك برهان على تواطؤ النخب بمن فيهم أهل القانون لخدمة عواصم أجنبية.
وعليه يستوجب ذلك مسارا جديدا في الحكم يقتضي تعليق العمل بالمألوف والمتعارف عليه عند المضبوعين بالحكم الغربي، وتغيير المؤسسات وانتزاع سلطة الشعب لتعود له فيقرر من يحكمه وبماذا يحكمه… على حد قول الرئيس ورأيه.
ولكن الرئيس سرعان ما ينكص على عقبيه في ذات الموضوع, فلا يبرح يؤكد ويعيد أنه اتخذ إجراءات تصحيحية تحت طائلة الدستور وما تقتضيه المنظومة التشريعية الوضعية من إلتزام أولا وأساسا بالتشريع من دون الله والحيلولة دون التفكير مطلقا في أحكام الإسلام كتشريعات بديلة عن تلك التي أعلن إبطالها وأشهر فسادها واستغلال أصحابها والتلاعب بها لصالح الأطراف الأجنبية..
لتعود بذلك الكرة من جديد للشعب ليحكم على قيس سعيد الرئيس والسياسي الحاكم الذي أعلن أنه يريد تغيير منظومة الحكم وقوانينها, بينما في أفعاله برهن أنه لن يخرج عن الحكم الديمقراطي الرأسمالي الذي يستبعد نظام الإسلام وتشريعاته كليا ولا يُمكّن الشعب حتى من مجرد معرفة تلك الأحكام والقوانين الربانية ويحول دون إطلاعهم عليها.. لتسقط بذلك كله ادعاءات قيس سعيد بالتغيير وينجلي للناس جميعا ما كانت شعاراته الفضفاضة تخفيه من أهداف ومقاصد أثنا ممارسته الحكم.
وبذلك يُثبّت الله للشعب مرة أخرى، وخصوصا الشباب منهم, أنّ اللجوء إلى تغيير الوجوه والأشخاص لا يثمر في حركة اندفاعهم نحو التغيير شيئا, بل يرتدّ عليه حسرات وإحباطا من جراء ما يصطدمون به من أفعال من وثقوا فيهم وتبيّن لهم بعدها أنهم يدورون في نفس النظام الذي يحكم رغم رفضهم له.
هرولة نحو العمالة وابتهاج بها
لقد أصبحت مواقف الدول والمنظمات مما يحدث في تونس، مناسبة احتفالية عند جميع مكونات الطبقة السياسية، التي لا يهمها إلا تحوّز جانب من السلطة. ولا يختلف في ذلك من كان منهم في الحكم أو من في المعارضة.
فهؤلاء الذين تحتفلون اليوم ببيانات سفارات الدول الاستعمارية الكبرى أو بمواقف منظماتهم، كثيرا ما صدّعوا رؤوس التونسيين وهم يصرخون، ضدّ التدخّل في الشأن الداخلي، بل وفيهم من نصّب نفسه أمينا وحافظا “للسيادة الوطنية واستقلالية القرار”، ومع ذلك نراهم اليوم يركضون من عاصمة إلى عاصمة ومن سفـارة إلى سفارة، طلبا للعون والمدد, وفي هذا أيضا لا يختلف الرئيس قيس سعيد عنهم (خصومه), فهو لا يلبث يتلقى المكالمات الهاتفية من فرنسا محتفيا مستبشرا.. وهو أيضا الذي انتقل إلى بروكسال لحضور قمة الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي يوم 17 فيفري, بعد أن أرسل رئيسة حكومته إلى فرنسا يوم الجمعة 11 فيفري.. وهو الذي استدعى وزير الخزانة الفرنسي ورئيس نادي باريس وأعلنت وزيرته اثر ذلك أنها تنتظر قدوم خبراء فرنسيين لتلقينهم إجراءات تقنية تخص المالية التونسية وما سمّوه بالإصلاحات الهيكلية.. !! (وتونس تزخر بالكفاءات من مهندسين في المحاسبة والرقابة ومنهم من يدرس الفرنسيين أنفسهم في جامعاتهم).
إن العمل السياسي ليس تمسرحا في الفضاء العام وحضورا في وسائل الإعلام بمناسبة أو دونما مناسبة خاصة لإعادة الاسطوانات المشروخة التي مجّها عموم التونسيين ودفعتهم إلى رفض الطبقة السياسية بأكملها كما انه ليس ركوبا على الأحداث وتوظيفها عبر المجالس الوزارية والخطب الأحادية الفوقية من اجل الظهور في صورة العبقري المنقذ بشكل دائم ودون منجز يذكر.
فالسياسة أفعال تخلد أصحابها في صحائف العظمة, والسياسة تكليف تئن منه الجبال وتنفر منه الرجال الرجال.. ذلك أن بعده يكون من عند الله السؤال وإليه المآل.
لا ملجأ ولا مرجع لنا حالاً ومآلاً إلا رحاب الخلافة الإسلامية
نلخص فنقول إن الاستعمار يتصرف في شعوبنا وبلادنا تصرف المالك بمتاعه, لأنه درس أوضاعنا النفسية والمعيشية دراسة عميقة، وأدرك منها موطن الضعف، فسخرنا لما يريد، كصواريخ موجهة، يصيب بها من يعارض عملاءه، فيحتال لكي يجعل منا حظائر أغنام يبيع ويشتري فيها، وأبواقا يتحدث فيها، وأقلاما يكتب بها، فسخر الساقطين من بني جلدتنا لأغراضه، سخرهم له ولرفاه شعبه، بكل صفاقة وإصرار.. ولكن سنن الله في خلقه أن تدور الدوائر وترتفع أصوات المنتفضين وتزداد همّة المتدافعين الواعين على ضرورة إخراج البلاد من بين يدي الإستعمار وممثليه ووكلائه.
ولم يحصل أن تجتمع نفوس شعوبنا وعزائمهم مثل اليوم من قبل، ولم يمر عليها وقت من قبل كانت فيه أكثر استعدادا للتغيير، ولم تكن في يوم من الأيام عاقدة العزم على تحقيق النهوض والخروج من وحل التبعية والخضوع لأمر المستعمرين. ولكي تحقق مرامها وتخرج من أتون الظلمات والجاهلية وتدفع عنها غوائل الظّلم والتّسلط والنّهب والإذلال.. لزام عليها أن تتراجع عن خضوعها للأنظمة الوضعية وتفكر جيدا في نتائج سياساتها على الإنسان والكون والحياة، وأن تعيد النّظر في حقيقة عبوديتها الواقعة فيها تحت سلطان البشر العاجز المليء بالنزوات والأهواء والشرور, وتنتقل إلى العبادة الواجبة لخالق الكون والوجود. الله العزيز الحميد, الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولا حتى إن قال قائل إن كلفة ذلك كله ثمينة وثقيلة، وقد تُكلّف أصاحبها الصحّة والمال وحتى الأنفس والأرواح، وقد يتّهم أصحابها بالحُمق والغلوّ وحتى عدم رجاحة العقل في إبّانه، وهي تُهم وتخويفات ومثبطات جاهزة في كل زمان، لكنّها شرط أساس في معادلة التغيير وثمارها مع الزّمن لا تقدّر بثمن. فصحابة رسول الله الكرام وكثير ممن عملوا على تحرير الأمة من الجاهلية الجهلاء وحملوا لواء الإسلام وذادوا عن حكم الله وشرعه من الذين خلّدهم التّاريخ كانوا ترجمانًا لعدالة التّاريخ وأصدق من خطّ فحواه, التاريخ الحقيقي الذي يُخلّد الأبطال الصابرين الثابتين ويذكر بالخزي والعار الجُبناء والعملاء والمثبيطين.
أحمد بنفتيته
CATEGORIES محلي