“صرح جيرومي باول مدير الفيدرالي المركزي الأمريكي أن مقدرة المركزي لدعم الاقتصاد الأمريكي محدودة في ظل سياسات الرئيس ترامب، في حين قال الرئيس ترامب إن جيرمي باول أكثر عداء لأمريكا من رئيس الصين شي جين بينغ” كما ورد في صحيفة نيويورك تايمز يوم الجمعة 2019/8/23.
التعليق:
يواجه الاقتصاد العالمي عموما والأمريكي والأوروبي خصوصا تحديات كبيرة من المرجح أن تؤدي إلى حالة من الركود العميق قد يتبعه انهيار في الأسواق المالية وتعثر في عمليات البنوك التجارية. ويشير كثير من الاقتصاديين والمحللين أن الاقتصاد العالمي لم يتعاف حقيقة منذ أن مر في أزمة الرهن العقاري والانهيار المالي بين عامي 2008-2010. وإن كان البعض يشير إلى انتكاسة دورية يمر بها الاقتصاد الرأسمالي كل 10-15 سنة. ولكن الراجح هو أن الاقتصاد لم يتعاف حقيقة وإنما مرد ارتفاع قيمة الأسواق المالية يعود إلى التوسع في القروض وزيادة المديونية بشكل هائل حيث وصل الدين العام الأمريكي إلى أكثر من 22 ترليون دولار.
ومن المعلوم أن الاقتصاد في الدول الرأسمالية الكبرى حين يعاني من مشاكل كبيرة تدفعه إلى التباطؤ فإنه يحتاج عادة إلى أزمات سياسية للكشف عن حقيقة المشاكل الاقتصادية والتي تدفع بدورها إلى ظهور الاقتصاد المالي على حقيقته، ما يؤدي إلى انهيارات جمة في الأسواق المالية، وإغلاق شركات وبنوك، وتسريح موظفين، وارتفاع أسعار وغيرها من مظاهر الانهيار.
ويعزو مدير البنك الفيدرالي صعوبة التعامل للحفاظ على الاقتصاد والحيلولة دون انهياره وانهيار الأسواق المالية، يعزوها إلى سياسات حكومة ترامب الاقتصادية خاصة ما يتعلق بالحرب التجارية مع الصين، والعمل بأي شكل على توفير أموال للخزينة الأمريكية من أجل التعامل مع الديون المتراكمة على الخزينة والتي فاقت بنسبة 10% الناتج القومي الأمريكي. ما دفع الرئيس ترامب لاعتبار جيرومي باول عدوا له ولسياساته.
ويرى جيرومي باول أن تخفيض نسبة الربا والتي قد تصل إلى الصفر قد لا تنعش الاقتصاد ما يعني الوصول إلى نقطة يصبح البنك الفيدرالي عاجزا عن القيام بأي عملية مفيدة لانتشال الاقتصاد من أزمته الخانقة. حيث أن خفض نسبة الزيادة الربوية على الديون الممنوحة للبنوك التجارية من المفروض أن تؤدي إلى زيادة حجم إقبال البنوك على الاقتراض من البنك المركزي ومن ثم إعادة إقراضها للمؤسسات والشركات الاقتصادية من أجل تحريك الاقتصاد. وما يخشاه البنك المركزي هو استمرار البنوك على الإحجام عن أخذ مزيد من القروض، حيث أن مخاطر عدم مقدرة الشركات والمؤسسات والمستثمرين على سداد الديون وعجزهم عن دفع الأقساط الربوية المترتبة على الديون، سيؤدي بالتالي إلى عجز البنوك عن الوفاء بالتزاماتها أمام البنك المركزي الفيدرالي، ما قد يجعلها عرضة للإفلاس والإغلاق. ومما يزيد من خطورة الوضع المالي والذي يجعل البنوك أكثر حذرا، هو الحالة التي أشارت إليها محطة سي إن بي سي (CNBC) حول حجم القروض العالمية والتي تحمل نسبة ربا سلبية، والتي بلغت أكثر من 15 ترليون دولار. وهذه الحالة نشأت عن إحجام كبار أصحاب رؤوس الأموال والمستثمرين عن إيداع أموالهم لدى البنوك وتفضيل شراء سندات الدين من بنوك أوروبا المركزية بنسبة ربا سلبية أي بخسارة مالية ولمدة قد تصل إلى 30 عاما. وهذا مؤشر كبير على عدم ثقة المستثمرين بالاقتصاد الحالي في أمريكا خصوصا، فبدلا من إيداع الأموال في البنوك الأمريكية لإعادة تدويرها في عجلة الاقتصاد المتباطئ أصلا، يعمد هؤلاء المستثمرون على شراء سندات دين أوروبية خاصة في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ولو بخسارة مالية قد تصل إلى أكثر من 30% من الأموال على مدى 30 عاما. وذلك حين يقوم مستثمر مثلا بشراء سندات دين بقيمة مليون دولار، فإنه يستردها بعد 30 عاما بقيمة 700 ألف دولار، إذا كانت نسبة الربا سالب 1%. والذي يدفع المستثمرين إلى التوجه نحو خسارة محققة، هو الخشية من خسارة أكبر بكثير لو وضعوا هذه الأموال في مشاريع اقتصادية تمولها البنوك. والواقع أن ترامب يفضل بيع سندات الدين الحكومية بنسبة ربوية سلبية لكسب أموال المستثمرين والتي تذهب إلى أوروبا والتي يعتبرها ترامب ألد عداوة من الصين.
والحاصل أن الاقتصاد العالمي والذي تسيطر عليه أمريكا بالدرجة الأولى ثم دول أوروبا الكبرى يمر في مرحلة حرجة تقترب من الانهيار، ومؤشراتها الرئيسة تتمثل في زيادة مطردة لحجم الديون تفوق حجم الناتج القومي، وعزوف البنوك عن الاقتراض من أجل التمويل ويتمثل ذلك بمحاولة البنوك المركزية إعادة تحفيز البنوك عن طريق خفض نسبة الزيادة الربوية على القروض الممنوحة للبنوك التجارية من البنوك المركزية، وعزوف كبار المستثمرين الماليين عن الاستثمار في المشاريع الاقتصادية التي تمولها البنوك لانعدام الثقة بالاقتصاد وقدرته على الانتعاش وتفضيل الاستثمار بقروض ذات خسارة محققة.
الاقتصاد الرأسمالي بطبيعته اقتصاد فاسد ومبني على أسس فاسدة، ولا بد لهذا الاقتصاد أن ينهار عاجلا أم آجلا. والحقيقة أن هذا الاقتصاد وما يتبعه من أنظمة مالية وتجارية قد دخل في غرفة الإنعاش منذ فترة، ويتم الإبقاء على حياته بشكل آلي مصطنع يوما بيوم، وتقوم البنوك المركزية والحكومات بتغذيته بشكل قسري إلى أن تصبح جميع الأدوات عاجزة عن الإبقاء على وجوده كما ألمح إلى ذلك جيرومي باول مدير البنك الفيدرالي الأمريكي.
ولم يعد للعالم والبشرية جمعاء من خيار أمام فشل الرأسمالية الذريع إلا التوجه أخيرا نحو نظام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، من لدن حكيم عليم، يحفظ للإنسان كرامته وماله.