مات “الباجي قايد السبسي” ولم يُجب على سؤال كبير, عن سؤال ظلّ لغزا عند الكثير من أهل تونس.
ذلك السؤال هو: من المسؤول الكبير الذي عاتبه؟ من هو هذا المسؤول الكبير الذي رفع سمّاعة الهاتف وكلّم السبسي يلومه على الصراعات في حزب نداء تونس الذي يُعوّل عليه في حكم تونس. من هو هذا المسؤول الكبير الذي ذكره السبسي أمام رؤساء المؤسسات، في جلسة رسمية، وذكّرهم به وقال لهم بالحرف “انتم تعرفوه”، في إشارة أنّ جميع طالنّافذين في البلد” يعرفونه ويعرفون موقعه وما يقدر على فعله، وأن الأمر كلّه يعود إليه.
ذلك المسؤول هو صنو المقيم العام الذي كان باي تونس يأتمر بأوامره أيام الاحتلال الفرنسي المباشر لبلادنا، كــ مارسال بيروتون ـ مثلا، أو المندوب السامي البريطاني في مصر. إلا أن أهل تونس اليوم يجهلون اسمه ورسمه ولا يعلمون الجهة التي يحكم بلادنا باسمها.
والأغرب في هذا الموضوع، أنّه حين تفلت لسان السبسي بذكر “المسؤول الكبير”، صمتت المعارضة حتّى أشرسها، وخرست ألسن الإعلام. ومرّ ذكر هذا ” الطلسم” دون أن يثير فيمن كان من المفترض أن لا يمر الموضوع على أمثالهم دون تجلية وبيان شاف، خاصة وأن عموم الناس في تونس، ومنتخبي السبسي خاصة، كانوا على قناعة تامة أن لا رأس فوق من نصبوه رأسا عليهم. فلا قيادات الأحزاب السياسية ولا قواعدها، ولا الإعلاميّون أوأصحاب المؤسسات الإعلامية، (وهم من هم في تصيدهم لغريب الأحداث والأخبار التي يتخذونها بضاعة لتجارتهم أو رسالة لأصحاب الرسالة من شرفائهم)، ولا المثقفون ” القيّمون ” على وعي الناس والمؤتمنون على يومهم وغدهم، عنوا أنفسهم بالوقوف عند هذه ” الأحجية ” وفكّ ألغازها. كان على الزمن أن يتوقف عند من صدعوا الآذان بالعويل على ” الكرامة الوطنية “، والسيادة التي لا يحل المساس بها، وعلى ضرورة صون شرف الكيان التي أورثهم إياه سيء الذكر ” سايكس بيكو “، كان على الزمن أن يتوقّف حتى يجيبهم الباجي قائد السبسي ويُعرّفهم بهذا المسؤول الكبير الذي خضع له صاغرا، عن هذا الذي أمره قاطع ولا يرد على قوله قول. إلا أننا لم نسمع لهم ركزا ولم نر منهم فعلا ولم نسمع لهم حتى همسا، فهل كل هذا الوسط يعلم ويرضى ما علم السبسي ورضي؟
ــ فلماذا البكاء إذا؟
إن موت الرجل وانقضاء أجله، على أي حال كان، استغل بصورة لافتة لإثبات أن أهل تونس جلّهم على ما مات عليه السبسي، وأنّ مفاهيم الوطنية لا زالت راسخة لدى أهل البلاد وأن البذر الذي بذره الاستعمار وسقاه بورقيبة ورهطه قد حافظ عليه السبسي وأبقى لهم ميراثه، ثم لإبراز ” التميز ” الذي تنعم به تونس من دون دول الجوار بزعمهم، تمّ بتوظيفهم إمكانيات الدولة في الإيهام، حدّ عدم التحرج من جلب البسطاء المكرهين بالحافلات لإتمام الصورة، وما ذلك إلا محاولة لإخفاء الواقع وطمس الحقيقة التي لا تكاد تخفى على أحد. فلا حال التعليم على سواء إلا ما يدره على الجامعات العالمية ومؤسسات الدول الكبرى من فيض نوابغ أبنائنا بعد أن عز عليهم أن يجدوا في بلادهم مجالا لتفجير مواهبهم ولا مناخا يسمح لهم بإبراز مؤهلاتهم ولا عاد جهدهم بشيء على البلد الذي احتضن ورعى. ولا البنية الاقتصادية استقامت على ما يعلم من أسس النظم الاقتصادية وعلومها، حتى عجزت “دولة الحداثة” في القرن الواحد والعشرين أن تحفظ ريع سنة واحدة شاء الله أن تكون خصبة، كما حفظت سلطة عزيز مصر، يوسف عليه السلام، ريع سبع سنين متعاقبة. ولا أدل على تهاوي التفاخر بنجاح وطنيتهم من عجزهم عن استثمار ما حبا الله البلاد به من ثروات وصون وجوهنا مذلّة التسول على أبواب البنوك العالمية… بل أورثوها الشركات العالمية الناهبة، حتى لم يبق لبلادنا من دور بين البلدان إلا أن تكون مورد خامات لمصانع الغرب وسوقا لرواج بضائعه ومكبا لنفاياته.
فبماذا يفخر هؤلاء ويتباهون هؤلاء؟ لا نجد لهم في سوق الشرف إلا ما يسوء ويزري: تنفيذ ما يرسمه لهم الغرب من سياسات يديم بها هيمنته على أهلهم وبلادهم ويحقق على أيديهم مصالحه.
ــ ماذا في ملفات المترشحين؟
وقد أفضى الرجل إلى ما قدّم وانصب العمل على تمجيده والتنويه بخصاله، وفي تغافل عن تنصّله من أي علاقة له ولسلطته بالدين والقرآن والآيات القرآنية، حتى لا تورطهم هذه العلاقة، ولااعتبار لإقراره أنه كان له مسؤل كبير يأمره وينهاه، تتابع المترشحون للانتخابات الرئاسية والتي أرادتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات” أن تجرى في زمن وظروف استثنائية، خضوعا لإكراهات الدستور. فلا اعتبار ولا ذكر لبرامج المترشحين ولا لخططهم واستراتيجيتهم للخروج بالبلاد من أزماتها التي لا تنتهي، ولا اعتبار لحق الناس في العلم بمن سينتخبون. وعلى هذا يحق للمتابع للشأن العام في تونس أن يتساءل عن المقاييس التي سيعتمدها المسؤول الكبير في المفاضلة بين الأسماء المعروضة عليه، أم أن الأمر قد حسم لديه، ويبقى على المتسابقين أداء الأدوار إلى آخر فصول المسرحية. ويحق السؤال أيضا عمّ في ملفات المطلعين على حقائق الأمور من المترشحين ولا نظنهم كثر، يقدمونه على أحقيتهم بالخدمة خاصة بعد ما أبدته وفود مفوضية الاتحاد الأوروبي من اهتمام بالانتخابات التشريعية والرئاسية في تونس لسنة 2019 واستعدادها لإرسال بعثة لملاحظة هذه الانتخابات. وهي التي راقبت الانتخابات البلدية لسنة 2018 وقدمت تقريرا عنها.
آن لمن يرجو فرجا من نتائج هذه الانتخابات، أو ما زال يظنّ أنّ الحلّ للخروج من المعضلة التي تعيشها بلادنا يكون باستبدال الصالحين المصلحين بالفاسدين المفسدين عن طريق الانتخابات، أن يدرك أن الأمر كله تضليل وتلبيس ومخادعة ، وأن يدرك أن الحكم أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، فقد روي عن أبي ذر أنه قال: قلت يا رسول الله، ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها (رواه مسلم.)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه قال : ما من رجل ولي عشرة إلا أتي به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتىيقضى بينه وبينهم