قام الرئيس الفرنسي ماكرون بزيارة ساحل العاج يوم 21\12\2019 واجتمع مع رئيسها حسن واتارا، واحتفل مع الجنود الفرنسيين المتواجدين قرب العاصمة العاجية أبيدجان بعيد الميلاد للكنيسة الغربية وأطلق مشروع بناء أكاديمية دولية لمكافحة الإرهاب وضع حجر الأساس لها عام 2017 قرب أبيدجان.
وقال حسن واتارا في مؤتمر صحفي مع ماكرون: ” إن ثماني دول في غرب أفريقيا قد قررت مع فرنسا إجراء إصلاح واسع للفرنك الأفريقي الذي سيصبح اسمه الإيكو”. وقال: “قررنا إصلاحا للفرنك الفرنسي يتمثل في ثلاثة تغييرات كبرى بينها تغيير الاسم، والكف عن إيداع 50% من الاحتياطي النقدي لدى الخزانة الفرنسية. أما النقطة الثالثة فتتمثل في انسحاب فرنسا من الهيئات الحاكمة التي تتمثل فيها”. والجدير بالذكر أن حسن واتارا وصل إلى الحكم بدعم أمريكي عام 2011 بعد إسقاط عميل فرنسا لوران غباغبو.
واعتبر ماكرون هذه التعديلات بأنها “إصلاح تاريخي مهم.. وإن الإيكو سيولد في كانون الثاني\2020 وأنا أرحب بذلك” وقال :” إن الفرنك الفرنسي كان ينظر إليه على أنه من بقايا العلاقات الاستعمارية بين فرنسا وأفريقيا”.
ونقلت فرانس 24 عن مصدر فرنسي قوله:” إنه جرت مفاوضات حول هذا التغيير استمرت 8 أشهر بين فرنسا والدول الثماني الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا وهي (بنين وبوركينا فاسو بيساو ومالي والنيجر والسنغال وتوغو). وهو لا يشمل حاليا الدول الست في وسط أفريقيا التي تستخدم الفرنك الأفريقي لكنها تشكل منطقة نقدية منفصلة”. وكان فرنك ” فرنسا المستعمرات الفرنسية في أفريقيا” (سي أف آ) قد طرح في عام 1945 وأصبح بعد ذلك “فرنك المجموعة المالية الأفريقية” (إف سي إف آ) بعد استقلال هذه المستعمرات. ويقضي الإصلاح بأن المصارف المركزية لدول غرب أفريقيا لم تعد ملزمة بإيداع نصف احتياطيها من النقد لدى المصرف المركزي الفرنسي، فيما كانت معارضة الفرنك الفرنسي تبعية مهينة لفرنسا”. في المقابل تم الإبقاء على السعر الثابت لليورو مقابل الفرنك الفرنسي. يورو واحد يعادل 655,95 فرنك أفريقي. لكنه يمكن أن يتغير عندما يطرح الإيكو للتداول.
وقال ماكرون “إنه غالبا ما يُنظر إلى فرنسا اليوم على أن لديها نظرة هيمنة ومظاهر خادعة للاستعمار كان خطأ جسيما، خطأ ارتكبته الجمهورية”. ودعا إلى فتح صفحة جديدة بين فرنسا ومستعمراتها فقال:” أنتمي إلى جيل هو ليس بجيل الاستعمار. القارة الأفريقية هي قارة شابة. ثلاثة أرباع أبناء بلدكم لم يعرفوا الاستعمار قط.. في بعض الأحيان يلوم الشباب فرنسا على المشاكل والصعوبات التي قد يواجهونها والتي لا يمكن لفرنسا أن تفعل شيئا بشأنها.. يقولون الحق على فرنسا”. وكان قد صرح في شباط 2017 أثناء حملته الانتخابية لقناة جزائرية قائلا:” إن الاستعمار جزء من التاريخ الفرنسي. إنه جريمة ضد الإنسانية.. من غير المقبول تمجيد الاستعمار” وأكد أنه “لطالما أدانه وأثارت تصريحاته تلك جدلا في فرنسا”.
ومن ثم قام ماكرون بزيارة النيجر يوم 22\12\2019 واجتمع مع رئيسها محمد إيسوفو وقال :”إن الأسابيع المقبلة حاسمة بالنسبة إلى المعركة التي نخوضها ضد الإرهاب ، نحن في منعطف في هذه الحرب .. علينا أن نعيد تحديد الأهداف في شكل أكثر وضوحا.. أرى حركات معارضة ، مجموعات تندد بالوجود الفرنسي بوصفه وجودا استعماريا جديدا.. أرى انتشارا في بلدان كثيرة لمشاعر ضد الفرنسيين من دون إدانة سياسية. لا يمكنني القبول بإرسال جنودنا إلى دول حيث طلب (الوجود الفرنسي) لا يتم توجيهه بوضوح”.
بينما قال رئيس النيجر محمد إيسوفو:” أعتقد أننا سنوجه نداء للتضامن الدولي بحيث لا يكون الساحل وفرنسا وحدهما في هذه المعركة، لنتمكن من تشكيل أوسع تحالف دولي ضد هذه الآفة”. (فرانس24 22\12\2019) فيظهر في هذا القول أنه يريد أن يشرك أمريكا ولا يكتفي بقيادة فرنسا المهيمنة على المنطقة وتنافسها أمريكا، علما أن محمد إيسوفو جاء إلى رئاسة النيجر بدعم أمريكي عندما قام بانقلاب عام 2010 على تانجي مامادو، وسمح لأمريكا بإقامة قاعدة عسكرية في النيجر.
وكان الرئيس الفرنسي ماكرون بعد مقتل 13 ضابطا من جيشه في مالي قد طلب يوم 4\12\2109 مما يطلق عليه دول الساحل موريتانيا ومالي وبوركينو فاسو والنيجر وتشاد توضيح رأيهم بشأن الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة فقال:” أنتظر منهم توضيح مطالبهم من فرنسا والمجتمع الدولي وإضفاء الطابع الرسمي عليها.. هل يريدون وجودنا وهل يحتاجون إلينا.. أريد إجابات واضحة وحساسة حول الأسئلة” وكان قد دعاهم إلى مدينة ” بو” في غرب فرنسا للاجتماع بهم يوم 12\12\2019 (صفحة فرانس24 4\12\2019) إلا أنه أرجأ الاجتماع إلى يوم 13\1\2020. وقالت الصفحة يوم 16\12\2019 إن قرار إرجاء الاجتماع الذي يركز على الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل ومكافحة الجماعات الإسلامية المتشددة بعد هجوم على معسكر بمنطقة نائية في النيجر خلف عشرات الفتلى” يوم 10\12\2019. حيث قتل نحو 71 عسكريا في معسكر إيناتس في النيجر على إثر هجوم شنته جماعات إسلامية مسلحة على المعسكر.
ففرنسا تقوم بحماية نفوذها وأماكن استعمارها في المنطقة بقوة تضم 4500 جندي فرنسي أرسلتها إلى هناك عام 2014 أسمتها قوات عملية “برخان” بالإضافة إلى قوات دول الساحل التابعة لها، وذلك بعد تحرير جماعات إسلامية لقسم مهم من مالي تمهيدا لتحرير كل مالي وإعلانها تطبيق الشريعة الإسلامية.
مرت أكثر من 25 عاما على حرب الإبادة ضد التوتسي في رواندا أودت بحياة مليون شخص. كانت فرنسا قد أغمضت عينيها عنها وغطت انسحاب مرتكبيها. وقوات الأمم المتحدة ادعت أنها لم تحصل على تفويض لوقف القتل، وأرسلت فرنسا التي كانت حليفة لحكومة الهوتو قوات إنشاء منطقة آمنة، واتهم الرئيس الرواندي الحالي بول كاغامي فرنسا بمشاركتها في المذابح . حتى القساوسة والرهبان اشتركوا في المذابح إذ قتلوا من اختبأ في الكنائس.
إن الرئيس الفرنسي يدين جمهوريته لكونها استعمارية، وهي التي حملت شعار حرية وإخاء ومساواة منذ الثورة الفرنسية وإقامتها عام 1789 ، ومع اصدارها هذه الشعارات فلم تتغير، إذ قامت بتكثيف استعمارها القديم الذي بدأ منذ منتصف القرن السادس عشر في أمريكا الشمالية والكاريبي قبل ثورتها، وبعدها توجهت نحو أفريقيا واحتلت مصر عام 1798 وتوجهت إلى فلسطين ولكنها هزمت على أيدي المسلمين في ظل الخلافة العثمانية ورجعت القهقرى. وتوجهت في استعمارها نحو شمال أفريقيا منذ عام 1830 فاحتلت الجزائر ومن ثم تونس وموريتانيا واتجهت نحو غرب أفريقيا ونحو وسط أفريقيا جنوب الصحراء، وغير ذلك من المناطق في القارات الأخرى، فاحتلت العديد من البلاد واستعمرتها لعقود طويلة. فتغيرت الأفكار والشعارات وأشكال الأنظمة في فرنسا من ملكية إلى جمهورية إلى إمبراطورية ومن ثم إلى جمهورية حتى وصلت إلى الجمهورية الخامسة، ولكن حقيقتها ككونها استعمارية لم تتغير. فالاستعمار والهيمنة على الغير والسلب والنهب ومص دماء الشعوب أساس الفكر عند الفرنسيين وقد تركز ذلك عندهم بعدما تبنوا الرأسمالية.
فهل يمكن أن تتغير على عهد ماكرون الرأسمالي الذي يعتبره عامة الشعب الفرنسي ملكا ورئيسا للأغنياء، فهو يعمل لحساب الرأسماليين الذين يستحوذون على أكثرية الأموال إذ يمصون دماء الشعب الفرنسي كما يمصون دماء شعوب أفريقيا، وإن كانوا لا يبقون لشعوب أفريقيا شيئا ويبقون لشعب فرنسا شيئا ما كحد أدنى من الأجور حتى لا يثوروا عليهم. ولهذا عندما ثاروا من جديد منذ عام على حكم الأغنياء والأثرياء فقاموا وتنازلوا بقيادة ماكرون للناس عندما شعروا بالخطر، فهم الذين يحكمون فرنسا، فأعلن ماكرون عن زيادة في قيمة أدنى الأجر 100 يورو وتخلى عن فرض الضرائب على المحروقات. ولكن الناس حتى الآن لم يسكتوا ولم يرضوا بتنازلات ماكرون الذي يقوم بخداع الناس حتى لا يسقطوه ويسقطوا حكم الأغنياء الذي يشبه حكم الإقطاعيين القدامى ولكن بصورة رأسمالية محسّنة.
وعندما ثارت شعوب أفريقيا في الخمسينات من القرن الماضي وخاصة في شمال أفريقيا، وبدأت أمريكا والاتحاد السوفياتي يعملان ليحلا محلها وقد اتفقت عليها وعلى بريطانيا وعلى دول الاستعمار القديم منحت فرنسا ديغول جميع مستعمراتها الاستقلال وخاصة في بداية الستينات من القرن الماضي، ولكنه كان استقلالا شكليا. فأقامت فيها أنظمة على شاكلة نظامها الجمهوري العلماني واستطاعت أن تربط معظم هذه الأنظمة بها وأوجدت العملاء لها ونشرت شركاتها تنهب ثروات البلاد الأفريقية، وربطت عملات الكثير منها بعملتها وأصبحت الوصي على أموال الكثير منها وفرضت على كل دول أن تضع نصف احتياطها النقدي في البنوك الفرنسية لتمول الخزينة الفرنسية ولتدعم الشركات الرأسمالية.
وأخيرا وبسبب زيادة النفوذ الأمريكي في بعض دول غرب أفريقيا، فقد بدأت هذه الدول تضغط فاضطرت فرنسا إلى الاتفاق معها ومع غيرها فوقعت اتفاقية مع ثمانية دول على عدم إلزامها بوضع نصف احتياطياتها النقدية في الخزينة الفرنسية، ولكن الدول الست الأخرى ما زالت ملزمة بذلك وما زالت سطوة فرنسا قوية عليها، وما زال النفوذ الأمريكي فيها غير قوي. وكل هذه الدول تتعامل بعملة مربوطة بالعملة الفرنسية، أي تمول الاقتصاد الفرنسي حيث تعتبر أموالها جزءا من الأموال الفرنسية ولكن تتداول بها دول أفريقية. ومن ثم يأتي ماكرون ويتظاهر بمهاجمة الاستعمار وهو يؤكده بصورة أخرى. وقواته تقاتل المسلمين الثائرين على استعمارها في غرب أفريقيا ويستخدم قوات أفريقية مما يسمى بدول الساحل وينشر قواعد فرنسية فيها.
إن ماكرون ماكر يهاجم الاستعمار ويقول الحقيقة بإن الاستعمار جزء من تاريخ فرنسا وإنه جريمة ولا يجوز تمجيده، يقول ذلك ذلك كأنه يرفض ذلك ولا يمارسه! بل هو يمارسه عمليا ويذمه لفظيا. يقول ذلك لخداع البسطاء فقط، وليس للتخلي عن الاستعمار، يريد أن يجمّل صورة فرنسا الاستعمارية. فما الذي غيّره في عشية وضحاها؟! هل أصبح اشتراكيا ماركسيا؟ أم اهتز اعتقاده في الرأسمالية ولو قليلا؟! هل أصبح مسلما وبدأ يدعو إلى القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية الرفيعة التي يدعو لها الإسلام؟! هل أغلق القواعد العسكرية في أفريقيا وسحب الجنود الفرنسيين وقال لهم الحرية لكم ونحن أخوة ومتساوون؟! هل أعاد الأموال التي نهبتها فرنسا من أفريقيا إلى أهلها في أفريقيا؟ لا وألف لا، فلا يوجد أي أثر من كل ذلك، فهو رأسمالي حتى النخاع، فأهله شهدوا عليه بأنه ملك ورئيس للأغنياء وليس لهم أي لعامة الشعب.
عندما أوجعته ضربة سقوط الطائرات الأخيرة وعلى متنها 13 ضابطا فرنسيا، عدا الهجمات المتتالية على جيشه وعلى الجيوش الأفريقية التي تقاتل في سبيل فرنسا وقد قتل من هذه الجيوش المرتزقة في معسكر واحد وفي دفعة واحدة نحو 71 جنديا، فقد هزتهم جميعا هذه الضربات.
ما زال ماكرون يصف أهل البلاد المسلمين الساعين للتحرير بالإرهابيين، ويصر على محاربتهم بالذريعة الكاذبة التي تسمى الحرب على الإرهاب، فيقصد الناس الذين يعملون على تحرير بلادهم وإقامة حكم الإسلام ويريدون أن يتمتعوا بثروات بلادهم ويعيشوا بكرامة، لا أن يبقوا كالعبيد يعملون لدى الشركات الفرنسية وأتباعها المحليين بأجر زهيد يعانون الفقر والجوع والمرض، ويبحثون عن الهجرة إلى فرنسا التي استعمرتهم ونهبت ثرواتهم، فيموت نصفهم في البحر في هذه المغامرة وبلادهم غنية ولكن ليس لهم نصيب من هذه الثروات.
وقد وضع ماكرون حجر الأساس لمدرسة تركز على محاربة الإرهاب ليخرّج العملاء الذين يعملون لحساب الاستعمار الفرنسي حتى يكفوا الفرنسيين القتال. إذ إن حملة فرنسا منذ عام 2014 ومعها دول الساحل لم تحقق النصر على الحركات الإسلامية التي تحمل السلاح وتقاتل لتطبيق الشريعة الإسلامية. فيأتي ويريد أن يعيد النظر في هذا الموضوع وإلى متى يجب عليهم أن يحاربوا وقد انهكت قواهم وتضعضعت معنواياتهم وضعف حماسهم للقتال بسبب أنهم لم يقدروا على حسم المعركة لصالحهم رغم عدتهم وعتادهم ومرور ست سنوات وتكبدوا الخسائر الكبيرة في الأرواح! فباتوا في مآزق، وبدأوا يفكرون فيما يعملون، فدعاهم ماكرون إليه في فرنسا ليجتمع معهم قبل منتصف الشهر الجاري، ربما ليضغط عليهم حتى يبذلوا المزيد من التضحيات في سبيل سيدتهم فرنسا العظيمة! فبالنسبة له لا يجوز أن يموت فرنسي، بل يجب أن يموت الأفارقة ، وتحيا فرنسا ويحيا الفرنسيون!
هذا هو التفكير الاستعماري لدى ماكرون وهذه هي العقلية الاستعمارية المسيطرة على فرنسا منذ مئات السنين. ولن تتغير ما دامت تعتنق الرأسمالية التي تجعل الاستعمار طريقة، بل وأحيانا هدفا كما هو الحال في أفريقيا. فلا يهم هذه الدول الاستعمارية إلا الاستعمار أي الهيمنة وبسط النفوذ ونهب الثروات مص دماء الشعوب.
إن مصيبة الأفارقة في تلك البلاد وغيرها هي التأخر الفكري والعملاء، وكل الحكام السابقين والحاليين عملاء أذلاء. فكل ذلك يسهل للاستعمار طريقه ويحفظ له بقاءه. فالطريق تبدأ من هنا، بالعمل على رفع المستوى الفكري لدى الناس مع إعطائهم الأفكار الصحيحة، علما أن الأكثرية من الناس في هذه البلاد مسلمون، فإنهم سوف يتجاوبون مع أفكار الإسلام الصحيحة. وغير المسلمين لديهم إمكانية التجاوب مع هذه الأفكار لكونها توافق فطرتهم، وخاصة بعد فضح ألاعيب الاستعمار بعملية تنصيرهم ليكون عبيدا للغرب المستعمر، والذي يفتعل الحروب المحلية بينهم ليذبحوا بعضهم بعضا وليقاتلوا في سبيل الاستعمار، وجعلهم وقودا للصراع الجاري بين المستعمرين. فلا بد من حزب سياسي مبدئي قائم على أساس الإسلام ينتشر في هذه البلاد ليقوم بهذه المهمة الصعبة فينقذ العباد والبلاد من ربقة الاستعمار ويرفع من مستواهم ليكون عبيدا لله وحده فينالوا سعادة الدنيا والآخرة.