نشرت صحيفة “المغرب” بتاريخ /09/2019 م مقالة للسيد حسن أحمد جغام تحت عنوان “هل نحن في حاجة للخطب المنبرية؟”. فكانت مقالته عبارة عن دعوة صريحة إلى إلغاء المنابر الإسلامية من البلاد، هكذا وبكل بساطة يريد أن يشطب بجرّة قلم دور المنبر في الإسلام بعد 14 قرنا من ظهوره. ويتعلل في ذلك بنوعية الخطب التي تلقى من خلاله، وكعادة كل متسلل بليل لا يجد في نفسه الشجاعة ليكشف عن حقيقة وجهه اختار السيد “جغام” الباب الخلفي كمدخل لموضوعه متكئا في ذلك على دور المنابر في الإسلام وما آلت إليه، وهذا خلاف ما نحن عليه في مواجهتنا المباشرة للعلمانية حيث ندخل عليها من بابها الأمامي وفي وضح النهار بوجوهنا العارية لضرب أفكارها وكسر عظام أدبياتها.
فالسيد جغام بدأ موضوعه بقوله إنه يتفهم أهمية وظيفة المنبر في بداية الدعوة الإسلامية وذاك كان لتثقيف الناس في دينهم حيث إنه كان الوسيلة الوحيدة المتاحة في ذاك العصر، ولكنه يرى أن المنبر بعد ذلك قد تخلى عن دور التثقيف ليتحول إلى منبر شغب وفتنة وصراعات ونزاعات بين الفرق والطوائف وحتى داخل المذهب الواحد، وهكذا حسب رأيه صار المنبر من وقتها إلى يومنا الحالي يوظف لأغراض دنيئة ولأهداف غير نبيلة ولنشر الدعوات السقيمة وجاء ببعض الأمثلة من التاريخ. ثم استرسل في كلامه ليصل بنا إلى محطة العصر الحديث ليقدم لنا أمثلة أخرى على نوعية الخطاب الديني، غير أنه في هذه المحطة توسع في كلامه ليشمل دور المنبر الإعلامي المخصص للحصص الدينية والتي تبث عن طريق الإذاعة والتلفاز حيث ذكر لنا أسفه الشديد لضياع وقته الثمين في الاستماع لبعضها لأنها لم تفده في شيء، إذ كانت جلها تدور حول أمور بسيطة من مثل تعليم الناس كيفية الاغتسال والوضوء والسواك وما شابه ذلك، وهي في عمومها لا تخرج عن كونها كلاما في الحلال والحرام والترغيب والترهيب، وعبر عن ذلك بقوله: “والحقيقة أنّ خطاب هؤلاء الأيمّة في عمومه وفي أفضل الأحوال ساذج لا يرتقي إلى مستوى حياة العصر، وهو عادة ما يكون مختزلا في عبارات الحلال والحرام”.
وبعد حديثه عن نوعية الخطب والدروس الدينية تكلم عن دور الأئمة الحاليين وتخليهم عن مهمة الوعظ والإرشاد ليتحولوا إلى أئمة تحريض وبث الفتنة وتغذية الضغينة والكراهية والدعوة إلى التطرف والعنف إذ يقول: ” وممّا لا شكّ فيه أن بعض الأيمّة هم جزء لا يتجزأ من مشكلة العنف الذي عرف بالإرهاب الذي تجابهه الإنسانية منذ عصور قديمة وإلى عصرنا هذا..”.
ولم يكتف السيد “جغام” بالحديث عن المنابر والخطباء وإنما زاد على ذلك فعرج بنا في مقالته إلى البرلمان التونسي ليخرج لنا منه بأمثلة لبعض المطالب التي يطالب بها النواب المحسوبون على الحركة الإسلامية، فيقول: “وسمعت بعض النائبات المتحجبات يحتججنّ على وزير الشؤون الدينية، ويتهمنه بطمس المعالم الإسلاميّة… وكان أحد النواب يطالب الدولة بسياسة تعميم الكتاتيب، ويطالب بإنشاء معاهد دينيّة لتنمية معارف أبنائنا، ونائب آخر يطالب بالرفع من ميزانية وزارة الشؤون الدينية…”. وهكذا لم يغفل في مقالته أي مصدر يشتم منه رائحة الإسلام إلا وذكره وتحامل عليه وانتقده وعابه… لينتهي بنا إلى مراده فيطالب بإلغاء هذه المنابر إذ لم يعد لنا فيها من حاجة مع وجود مختلف المصادر الأخرى والمتنوعة التي يستطيع أي فرد منا أن يصل إليها بسهولة ليأخذ منها ثقافته، إذ قال: “قلت إذا كان دور الإمام في العهد الإسلامي الأوّل، ضروريا باعتبار أنه المصدر الوحيد لتعليم الناس.. أمّا اليوم ونحن نعيش في عصر العلم بتعدد المصادر والوسائل التعليمية والتثقيفية، من معاهد ونواد وإذاعات وقنوات وصحافة، وغير ذلك من وسائل الاتّصال والإعلام في داخل بيوتنا وخارجها…”.
فواضح مما سبق أن الرجل لم يكتب ليعالج مشكلة ويؤسس لخطاب إسلامي رائد وجديد، أو ليصحح دور الإمام ووظيفته في تنوير العقول، وإنما كتب ليستأصل ثابتا من الثوابت التي نشأت عليها هذه الأمة وليخرس صوت الإسلام. إذ لو كان يريد أن يؤسس لخطاب جديد ونوعي لما هاجم المنبر كوسيلة من الوسائل ويطالب بإلغائه ولا هاجم دور الإمام ومهمته في الإسلام ويطالب بإسكاته!.
وهنا أقول للسيد “جغام” إن كانت رداءة الخطب والدروس هي التي تزعجك فنحن كذلك، وقد سبقناك في الحديث عنها للناس وقلنا لهم هذه هي حصيلة الانحطاط الفكري، وبينا لهم أسبابه ومسبباته ومتى وأين وعلى يد من بدأ يظهر هذا الانحطاط في الأمة والانحدار من القمة إلى السفح، لكننا على خلاف معك في كيفية معالجة هذه الحالة المزرية، إذ لم يدفعنا رفضنا لهذا النوع من الخطب والدروس إلى المطالبة بإلغاء المنابر وإخراس الخطباء، وإنما دفعنا إلى معالجته بكيفية أخرى أجدى وأنفع للأمة، إذ نسعى ومازلنا لمعالجته بما يصلح الخطاب الإسلامي والعودة بالمنبر إلى دوره القديم حيث كان هو المنارة التي تبدد ظلمات الجهل والمنصة الثقافية التي يتربع حولها طلبة العلم.
وبما أنك يا سيدي حصرت كلامك بكل ما له صلة بالإسلام ولم تتعرض في مقالتك لباقي المنابر المختلفة فإنني أتساءل هل المنابر الإعلامية التونسية التي تتابعها تعجبك نوعية برامجها التافهة ومواضيعها السخيفة وحديثها المقرف والبذيء المستفز لمشاعر الناس؛ ويرضيك منها عدم التورع عن التلفظ بالكلام الفاحش دون أي مراعاة لأبسط قواعد الأخلاق، هل كل ذلك يعجبك منها ولا يحرجك ولا يحرك فيك ذات النفس المتحاملة على المنبر الإسلامي؟
ويا ترى ـ مع كل ما ننكره من إعلامكم الهابط ـ هل سنقلدك في خطوتك الجريئة على المنابر ونطالب بإلغاء وسائل الإعلام وإسكات الإعلاميين، أم سنعمل على عكس ما ذهبت إليه فنبقي هذه الوسائل لما فيها من فائدة للناس ونعالج دور الإعلاميين ليقدموا لنا الطيب والحسن ونغير هذه البرامج السافلة ومضامينها التافهة بأخرى أرقى وأنظف تعمل على رفع مستوى الوعي في الناس. وبعبارة أوضح إذا عبثت الحثالة بالمضمون فما ذنب الوسائل بما يفعله سفهاء القوم؟!. فإن كنا ننكر المضمون فعلينا تغييره بما هو أفضل وأصلح خيرا من شطبه وإلغائه واستئصاله، فلتتغير نوعية الخطب ولتبقى المنابر، ولتتغير نوعية البرامج ولتبقى وسائل الإعلام.
ثم يا سيد “جغام” إن الخطاب الديني الذي تستمع إليه اليوم وتراه خطابا سقيما وأجوف ولا يقدم شيئا ذا قيمة لمتطلبات العصر فإننا مثلك نراه خطابا مبتذلا ومملا ولا يتجاوز القشور ويتجاهل أمهات القضايا ولا يقدم للأمة أي حل أو علاج لأي مشكلة من المشاكل المكدسة عليها، غير أن الفارق بيننا وبينك في استهجان هذا النوع من الخطب والدروس هو أننا نعلم أن هذا هو ما تريده الدولة العلمانية وذاك الهامش الذي تسمح به وتشترط على من تستأجره من الأئمة على أن لا يخرج في خطبه عن الخط الذي رسمته له وزارة الشؤون الدينية، أي ممنوع عليه أن يفارق دورة المياه وأن يبقى في موضوع الوضوء والاغتسال والطهر من الحيض والنفاس، وتحجر عليه الخوض في شؤون الحكم والسياسة لأن علمانية الدولة لا تسمح بخلط الدين بالسياسة وتحصر مهمة الإمام في الوعظ والإرشاد كما ترى حضرتك.
أما قولك إننا في هذا العصر الذي صارت فيه المعرفة في متناول الجميع بعد ما تعددت مصادرها بمختلف مضامينها وما عدنا في حاجة للمنابر وخطب الأئمة.. فإننا نقول لك لو كنت صادقا في كلامك وتبحث بجد عن مصادر المعرفة الجيدة والقيمة وتفتش بنزاهة عن المنابر الراقية لكنت قد عثرت على ضالتك فيما يقدمه حزب التحرير من ثقافة فكرية مميزة تجعلك تضع الإصبع على موطن الداء وتميز بين البضاعة التي يروج لها الإعلام والبضاعة التي يتكتم عليها حتى لا تصل إلى الناس، وها هو الحزب على مسافة منك ملء السمع والبصر، لكن مع الأسف نشعر بأنك متحامل على الخطاب الإسلامي بغض النظر عن مضمونه وتريد كتم الصوت الإسلامي أيا كان مصدره، لأنك ترى فيه خطرا على العلمانية في تونس، نعم هذه هي الحقيقة التي تحاول أنت وغيرك إخفاءها، وهي الحقيقة التي تتجرعون مرارتها لأنكم ترون أن علمانيتكم صارت هزيلة وفاشلة وعاجزة على الصمود أمام تصاعد الفكر الإسلامي وتلاحظون تمسك المسلمين بدينهم والرجوع إليه، ولذلك تحاول وضع حد لتنامي هذا الخطر وتتعلل في ذلك ببعض العثرات والهفوات والسقطات لتشن حملتك على المنابر الإسلامية. هذه الأولى، أما الثانية فإن دعوتك إلى الاكتفاء بمصادر المعرفة الأخرى دون المنابر والأئمة فإنك لم تبين لنا أي المعارف وأي المصادر تقصد؟! والغالب على الظن أنك تقصد المعارف الإسلامية، فإن كان هكذا كما نظن فما هي المصادر التي تريدنا أن نعول عليها في تحصيل المعارف الإسلامية؟ أهي تلك المصادر المشبوهة التي تديرها منظمات وجمعيات ومؤسسات عالمية معادية للإسلام والمسلمين وتعمل على صناعة إسلام جديد ذي لون مشوه لا تعرفه الأمة، أي تريدنا أن نتعلم ذاك الإسلام الذي يقبل بإمامة المرأة لصلاة الجمعة وبالمثلية وبزواج المسلمة بالمشرك والوثني وبالتعايش السلمي مع المحتل وبالتطبيع مع كيان يهود وغير ذلك من تحريف وتشويه لمفاهيم الإسلام وأحكامه.
فهل هذا هو الذي تريده للأمة عامة ولأبناء تونس خاصة؟! أتريد للناشئة أن تجهل حقيقة الإسلام وما تبقى منه من أفكار ومفاهيم وأن لا يفقهوا مصطلحاته الشرعية ومفرداته الفقهية، أهذا هو مبتغاك من مقالتك!!
أتدري ماذا استنجت وأنا أقرأ مقالتك يا سيدي أنك لم تعتن في حياتك بالمدرسة الفقهية التي اشتهرت بها تونس وذاك واضح من كلامك حيث أضحكتني لما قلت إنك ذات مرّة كنتُ تستمع – بالصدفة – لواعظ، في الإذاعة الوطنية (2)، يتحدث عن «سواك» الفم، وقلت: “كنت أظنّ أنّ السواك هو ذلك اللحاء النباتي الخاص بتلميع الأسنان، وكنت أعرف أنّ والدتي كانت تستعمله. ولكن السيد الواعظ يقول: السواك هو أن تضع إصبعيك الإثنين في فمك وتدلّك بهما الأسنان”. وهنا علمت أنك لا تفرق بين الاصطلاح اللغوي والاصطلاح الشرعي فظننت أن الواعظ يشرح للمستمعين المعنى الشرعي لكلمة “سواك”. ومما يؤكد لي ذلك هو قولك من بعد: “هل الذين يستمعون لمثل هذه الدروس… لا يعرفون كيف يغتسلون، وقد أصبحت لنا في هذا العصر من وسائل تنظيف خاصة، والفرشات ومعجون الأسنان … وما إلى ذلك من وسائل أصبحت متوفّرة…”. فكلامك هذا يدل على أن معنى السواك عندك كان ومازال إلى الآن وأنت في هذا السن هو ما تعلمته من التراث الشعبي والعادات والتقاليد المحلية لذلك لما سمعت ـ الواعظ ـ يتحدث عن السواك تحولت بك الذاكرة مباشرة إلى سوق “سيدي محرز” حيث كانت والدتك ووالدتي تقصدانه لشراء ما تحتاجانه من مستلزمات النظافة والزينة ـ السواك الحار واللوبان العربي والكحل والحرقوس ـ وغاب عنك معنى السواك في اللغة العربية فَالسِّوَاكُ يا سيدي مَصْدَرُ سَاكَ فَمَهُ يَسُوكُهُ سَوْكًا، وَجَمْعُ السِّوَاكِ سُوكٌ بِضَمَّتَيْنِ كَكِتَابٍ وَكُتُبٍ، وقِيلَ: إنَّ السِّوَاكَ مَأْخُوذٌ مِنْ سَاكَ إذَا دَلَكَ، وَالسِّوَاكُ فِي اصْطِلَاحِ الْعُلَمَاءِ اسْتِعْمَالُ عُودٍ أَوْ نَحْوِهِ فِي الْأَسْنَانِ لِتَذْهَبَ الصُّفْرَةُ وَغَيْرُهَا عَنْهَا. أرأيت أن الذي لم يعتن في حياته بدراسة الثقافة الإسلامية كيف تغيب عنه أبسط مفردات اللغة التي ينتمي إليها.
وفي النهاية أقول لك يا سيدي إن المنابر الإسلامية رغم ضحالة بضاعتها ورداءة مستواها فإنها تبقى هي الأفضل والأنظف والأطهر من منابركم العلمانية العفنة، وأن تونس البلد الإسلامي قد لمع نجمها في العالم الإسلامي بفضل منابرها وعلماءها الذين خلدهم التاريخ، ويكفيها فخرا وشرفا ربط معلمين من معالمها بالمعرفة والعلوم والجهاد والفتوحات؛ فجامع الزيتونة وجامع عقبة ابن نافع يشهدان بذلك.
ولهذا ندعوك أن تكون معول بناء وإصلاح لما فسد من وظيفة المنبر في الإسلام وأن تعالج معنا هذا التخلف والانحطاط وأن لا تكون معول هدم وتخريب وتطالب بإخلاء الساحة من المنابر والخطباء ليخلوا الجو للعلمانية المقيتة.