“ما بعد الحداثة” دليل فشل “الحداثة”

“ما بعد الحداثة” دليل فشل “الحداثة”

أ, ياسين بن علي

يشير مصطلح “ما  بعد الحداثة” إلى حركة فلسفية ثقافية انتشرت مؤخرا في الغرب، إلاّ أنّه  من الصعب تحديد مدلوله وضبط مفهومه في تعريف جامع مانع. ولعلّ أبرز ما يعّرف بهذا المصطلح ويكشف مدلوله نزعته إلى رّد الحداثة modernism of rejection ونقضها. ومن تعاريف ما بعد الحداثة، وإن كان يتصف بالغموض، تعريف جون فرانسوا ليواتر Lyotard لها بأنّها: الشّك فيما وراء القصّ metanarrative”  towards  .”incredulity وفي عام 1984م كتب  فريدريك جيمسون في تصديره للترجمة الإنجليزية  لكتاب  ليواتر CONDITION  POSTMODERN  THE يقول: “إن ما بعد الحداثة، كما  تفهم بصفة عامة، هي الخروج على الثقافة السائدة والإستيطيقا السائدة، وانفصال عن وضع اقتصادي اجتماعي معني في لحظة ما تحدد في مواجهة الابتكارات والتجديدات البنيوية التي أتت بها ما بعد الحداثة.” وكان قد كتب قبل ذلك عام 1983م، في مقال نشره هال فوستر FOSTER HAL يقول: “ما بعد الحداثة ليس مجرد مصطلح يصف أسلوبا بعينه، وإنما هو على الأقل من وجهة نظري مفهوم يقسم التاريخ إلى فترات للربط بين  ظهور ملامح شكلية جديدة في الثقافة وظهور شكل جديد من أشكال الحياة الاجتماعية، ونظام اقتصادي جديد، وهذان هما ما يطلق عليهما التحديث أو مجتمع ما بعد التصنيع أو المجتمع الاستهلاكي، أو مجتمع وسائل الإعلام أو الإبهار أو الرأسمالية متعددة الجنسيات.”.. ويرى يورجين هابرماس Habermas أن مقطع POST ما بعد في مصطلح ما بعد الحداثة يمثل رغبة لدى دعاة ما بعد الحداثة في الابتعاد عن ماض بعينه، إضافة إلى أنه في الوقت نفسه يعرب عن عجزهم عن تسمية حاضرهم “لأننا حتى الآن لم نجد حلّا للمشاكل التي تنتظرنا في المستقبل” وهذا التقابل بين جوهر الحاضر وحل مشاكل المستقبل ملمح رئيسي في تناول هابرماس لما بعد الحديث. (ينظر: “الخطاب والقارئ.. نظريات التلقي وتحليل الخطاب وما بعد الحداثة”، حامد أبو أحمد- كتاب الرياض- العدد 30  – يونيو -1996 ص 191- 225). ويرى دانيال أدامس أنّه “بإمكاننا القول إّن ما بعد الحديث هو الحالة التي تجد فيها ثقافة أواخر القرن العشرين نفسها،  وأّن  ما  بعد  الحداثة  هي  النظر في تلك الحالة والإجابة عليها” THEOLOGICAL  A  TOWARD

. UNDERSTANDING OF POSTMODERNISM by Daniel J. Adams, Cross Currents, Winter 1997-98, Vol. 47 Issue 4

ويرى آلان توران أّن “ظروف النمو الاقتصادي والحرية السياسية والسعادة الفردية لم تعد تبدو متناظرة ومترابطة فيما بينها. ذلك أن فصل الإستراتيجيات الاقتصادية عن بناء نمط مجتمعي معين وثقافة وشخصية، كل هذا قد ظهر بشكل سريع جدا، وهذا الفصل هو الذي يسمى فكرة ما بعد الحداثة ويحددها… وإذا كانت الحداثة تربط التقدم مع الثقافة وتضع الثقافات أو المجتمعات التقليدية في مقابل المجتمعات أو الثقافات الحديثة، مفسرة بذلك أية واقعة اجتماعية أو ثقافية من خلال مكانها على محور: تقليد – حداثة، فإن ما بعد الحداثة تفصل ما كان مشتركا.”… (ينظر في الحداثة وما بعدها “مصائر الحداثة” آلان توران، ترجمة قاسم مقداد ومحمود موعد، الكرمل خريف  1998، عدد 57 ص 75 -94). إّن الملاحظ في تعريفات ما بعد الحداثة التباين بينها والغموض. وقد عّلق أمبيرتو إيكو Eco Umberto على حالة التباين والغموض في المصطلح بقوله: “من المؤسف أن ما بعد الحداثة مصطلح صالح لما هبّ ودبّ tout  Bon .”faire  وقد أرجع جمع من المحققين هذا التباين والغموض في دلالة مصطلح ما  بعد الحداثة  إلى الاختلاف في مفهوم الحداثة نفسها، وإلى التركيب الدلالي للمصطلح ذاته لتضمّنه تركيب “ما بعد” المتعدد المعاني. وهو ما نكتفي بذكره في معرض بيان إشكالية التعريف في ما بعد الحداثة

دلالات ما بعد الحداثة

يعتبر مفهوم “ما بعد الحداثة” بما يحويه من دلالات وتصورات رّدة فعل على الحداثة، سواء اعتبرناه نقضا لها أو استمرارا، فهو لا يتعدى كونه ردّة فعل عليها. وأحسب أن هذا القدر من الدلالة متفق عليه بين المحققين. فالحداثة في حقيقتها تعبر عن مسيرة المجتمعات الغربية الحضارية، والمدنية، والثقافية منذ عصر النهضة إلى اليوم، فهي تحدد هوية مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبية والفكرية، وتحوي كلّ أنماط المعرفة وأنساق الفكر. إنها بتعبير آخر المبدأ الرأسمالي الديمقراطي في نزعته، ومنهجه، وتاريخيته، ونظرته الكلية إلى الكون والإنسان والحياة، ونظمه، ومقاييسه، ونمط الحياة في مجتمعه وطراز العيش فيه. وأّما ما بعد الحداثة فهي تعبر عن رّدة فعل مختلفة الأنماط عن الحداثة. فهي عند بعضهم تكشف أزمة الحداثة ولا تعطي البديل عنها، حتى إن أحدهم قال فيها: إنها “فكر الأزمة”، وعند بعضهم الآخر فهي تهدم الحداثة وتقّوضها وتبني على أنقاضها البديل مرحليا، وهو أمر لا يسلّم به بعض آخر ويراها مقّومة لمسار الحداثة لا هادمة لها. ومهما يكن الأمر، فإن الحداثة تعيش أزمة منذ عقود من الزمن. وقد طغى البحث في أزمة الحداثة هذه على ذهنية الكتّاب والمثقفين منذ سنين طويلة، فعقدت من أجل تدارسها المؤتمرات، وكتبت فيها الكتب في محاولة لبحث أسبابها، ومظاهرها وبدائلها. ويعلن توران “أن القرن العشرين هو قرن اّنهيار الحداثة، حتى لو كان قرن الفتوحات التقنية.” ويدين جان شينو الحداثة التي اخترقت المجتمع الفرنسي وجعلت منه إمعة تنتزع منه هويته وذاتيته وأصالته. إذن فالحداثة في أزمة كشفت عن فشلها  الثقافي والحضاري؛ فشل ثقافي يتمثّل في منهجها المعرفي العقلاني الوضعي، وفي فهمها للإنسان وطبيعته، وفي نظرتها إلى المجتمع ومقّوماته، وفشل حضاري  يتمثّل في عقيدتها، ونظامها، وقيمها، وسياستها. وقد خلص مصطلح “ما بعد الحداثة” هذه السلبيات كلّها؛ فليس المصطلح إذن سوى كلمة جامعة معّربة عن فشل الغرب الفكري. وأحسب أن هذا من أهم دلالات ما بعد الحداثة. وإذا أدرك هذا فإننا نستغرب دعوة تحديث مجتمعات المسلمين وتقليد الغرب في كلّ شيء، ونتعجب ممن يدعو إلى الحداثة في بلاد المسلمين رغم أن الغربيين أنفسهم يقّرون بأزمتها وفشلها. وإذا كان المفكرون في الغرب قد تجاوزوا الحداثة إلى ما بعدها، أيعجز المفكرون عندنا عن تجاوزها؟ وإذا كان المفكرون في الغرب لا يطرحون من خلال ما بعد الحداثة بديلا مقنعا عميقا شاملا يحلّ محل الحداثة، أيعجز المسلمون عن هذا وعندهم الإسلام بعقيدته التي تقنع العقل وتوافق الفطرة، وبنظامه الشامل الدقيق المتناسق؟! قال الله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)

CATEGORIES
Share This