إن من الطبيعي أن ينبثق عن كل أمّة أحزاب وحركات تمثلها وتتحدث باسمها، ومن الطبيعي أيضا أن يوجد لكل حضارة نُخبة سياسية (فئة) تقودها وتنهض بها وتُوصلها إلى الحكم وتعمل على نشر مبدئها إلى العالم..
الأمة الإسلامية هي أمّة من هذه الأمم، انبثق عنها من يُمثلها من أحزاب وحركات وفصائل إسلامية تتحدث باسم الأمة وباسم الإسلام، وتسعى إلى النهضة، وتحاول أن تحقق النصر لها والارتقاء، فتسمي هذه الحركات نفسها بأسماء عظيمة بمعانٍ إسلامية جميلة برّاقة لتدلّ على عِظم المشروع النهضوي الذي تحمله..
أما عن موقعها على الأرض فهو بحاجة لنظر وتمحيص؛ فمع كل قضية فكرية أو سياسية شائكة تظهر في بلادنا الإسلامية والعالم، فإن الجماعات الإسلامية أول من تتصدر المشهد في محاولة لفهمها وتحليلها،. ومع وجود نقاط تلاقٍ ونقاط اختلاف فيما بين كل هذه الجماعات، فإن التمايز والتفاضُل يبدأ من المرجع الفكري لكل حزبٍ أو جماعة، وهذا المرجع هو النهج الذي يحدد موقع كل حركة إسلامية من هذا الإعراب رُغم أنّ كلّ الجماعات والأحزاب السائدة اليوم تدّعي أنّ مرجعها واحد وهو الكتاب والسنة.
فهل هذا الإدّعاء صحيح ؟
وللإجابة أضع عدة أمثلة لحركات وجماعات إسلامية وصلت إلى سدّة الحكم وهي ، حزب الحرية والعدالة برئاسة محمد مرسي في مصر، حركة النهضة بقيادة راشد الغنوشي في تونس، وحركة حماس في قطاع غزة ، بالإضافة لما يسمى التجربة التركية .
بدايةً حركة النهضة في تونس, قامت هذه الحركة بشكل صريح بعد الثورة في تونس التي أطاحت ببن علي بترويج أفكار وقيم الرأسمالية والحضارة الغربية مثل حقوق الإنسان والمرأة والاحتكام للديمقراطية مع تنازلها عن كثير من الثوابت الإسلامية وأهمها العمل لإقامة دولة الخلافة الإسلامية الراشدة كنظام حكم سياسي ارتضاه الله لنا وفرضه علينا لنحتكم إليه والأدلة الشرعية في ذلك مستفيضة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة ، وراحت تلك الحركة تسير خلف التيار الليبرالي تدافع عن الشعارات والمفاهيم غير الإسلامية، وأعلنت عن أن دستور تونس سيُكتب بالتوافق مع المبدأ العلماني وأحزابه (حزب نداء تونس العلماني)؛ وكان من بنوده – لن يُفرض الحجاب،.. للجميع الحرية في ممارسة أي دين أو معتقد،.. لن تُحظر المشروبات الكحولية،.. لن يُمنع ارتداء الملابس المخالفة للأحكام الإسلامية في الأماكن السياحية تشجيعاً للسياحة،.. ويشجعون الاستثمار الأجنبي في البلاد-، بالإضافة لانفتاحهم على الغرب حتى غدت زيارة السفارات الأجنبية (البريطانية – الأمريكية) بروتوكولات سياسية !! ، وصفحة “الشيخ” راشد على الفيس بوك مليئة بصور تلك الزيارات التي يتباها بها ! وقد تفاجئ الناس جدا لسرعة التنازلات الكبيرة من قبل الحركة وهم الذين أوصلوهم للحكم حين تحسسوا وجود الإسلام في شعاراتهم العاطفية الفضفاضة.
– أما في مصر؛ فقد نادت جماعة الإخوان المسلمين بأن الدولة المدنية والديمقراطية هي الحل كنظام لمصر بعد الثورة، وبعد أن استلم حزب الحرية والعدالة برئاسة محمد مرسي الحكم قال بصراحة واضحة: “إن الجماعة لا تسعى لفرض الشريعة الإسلامية في مصر، كما أن فكرة الوطنية بوصفها إطاراً أعلى من الشريعة يجمع كل المصريين”، فاستبدلت الشريعة بالشرعية (توضيح؛ الشريعة الإسلامية هي منهج ثابت لا يقبل أن يكون حاكمًا باستخدام وسائل وطُرق دنيئة “كالديمقراطية” المخالفة للإسلام ، فكان وصولها للحكم بطريقة ملتوية مخالفة للطريقة الشرعية في استلام الحكم والتي سار عليها الرسول صلى الله عليه وسلم بالعمل الفكري والسياسي الهادف لتغيير المجتمع تغييرا انقلابياً شاملاً دون أن يهادن أو يقبل بشروط العدو فلم ينضوي في المنظومة الكافرة ولم يعمل على إصلاحها بل عمل على تغييرها تغييراً جذرياً بالعمل الفكري والسياسي وطلب النصرة من أهل القوة والمنعة في أكثر من محاولة حتى نصره الله في المدينة المنورة من قبل الأوس والخزرج فاستلم الحكم فيها بشكل كامل وكانت المدينة حينها نقطة الإرتكاز للدولة الإسلامية ثمّ بدأ التطبيق العملي للإسلام بشكل فوري ، هذا بالنسبة للشريعة ، أمّا بالنسبة لمفهوم “الشرعية” عندهم فقد كان تنازلاً عن مبادئ الإسلام الأصيلة للوصول للحكم وفي منظومة العمل السياسي ، وكأنّ الأمر عند هذه الفئة عبارة عن تجارب قد تصيب وقد تخيب وفقاً لمآلات الواقع), وغير ذلك فقد ارتأت الجماعة إلى تفاهمات واضحة مع الإدارة الأميركية، ليُقابَل بمكافأة بما قالته السفيرة الأمريكية في القاهرة مارجريت سكوبي: ” إن الولايات المتحدة ستدعم أي حكومة ديمقراطية يختارها الشعب المصري طالما تدعم الحريات وتحترم حقوق الإنسان والمرأة والرجل على حدٍّ سواء”، وهكذا؛ فإنه يتبين لنا أن حزب الحرية والعدالة لم يَقُم أبداً بأي تغيير جذري في الدستور الوضعي بل حافظ والنتيجة هي الفشل..
– وأما عن حركة حماس التي أوقعت نفسها في فخ الحكم في بضعة أمتار (في غزة) فإن انحرافها عن مبادئها الإسلامية بات واضحاً في ظل الظروف الراهنة، إذ أنها تتمسك بفكرة الوطنية وتتعلق بحبال الداعمين وإن كانوا ظالمين وقاتلين، وتضع الحركة يدها في يد روسيا وإيران لمفاوضات بعضها مجهول وكلها غير شرعية، وتقبل بصراحة وجود إسرائيلي خارج الضفة وغزة وقد أعلنت ذلك في كثير من التصريحات التي تقول: “حماس تريد دولة فلسطينية في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس” وكررت هذا المطلب في كثير من تصريحاتها ، وفي الحقيقة كان التنازل واضحاً وجلياً في إطارها السياسي والفكري، فلم يعد المبدأ الإسلامي هو المرجع لكل حركة وخطوة تخطوها حماس، إنما هي روابط المصلحة وإن خالفت الشرع.
ومثال آخر فيما يخص النموذج التركي, فبعض الإسلاميون يعتبرونه النموذج الأمثل لتطبيق الإسلام وهذا فقط لأنه يتصبغ بصبغة إسلامية مُعلنا ذلك بخطاباته المشاعرية تجاه الإسلام والمسلمين، لكن في الحقيقة هذا النظام مليء بالأخطاء الشرعية القاتلة، فهو عدا عن أنه يقيم علاقات غير شرعية مع إسرائيل، هو أيضا نظام يتوافق مع الإدارة الأمريكية في تنفيذ المشروع العلماني في المنطقة وبلاد المسلمين، فأوردغان توجّه إلى مرسي قُبيل وصوله للحكم ونصحه بتطبيق المبدأ العلماني وليس الإسلامي ليعمل على استمرار تطبيق العلمانية في مصر، وعليه؛ فإن أوردغان لم يُعلن يوماً نيته في تطبيق الشريعة الإسلامية، بل شددّ على أن حزبه علماني وأنه يُطبق العلمانية ويسعى جاهداً لذلك مع وجود الدعم الغربي الصريح له، فلا علاقة للإسلام لا من قريب ولا من بعيد في برنامج اوردغان، ولكن هي المشاعرية بدايةً واليأس المسيطر على الأمة من عدم وجود ما يعزهم وينهض بهم ثانياً.
والنتيجة, هي الفشل من الناحية التكتلية والسياسية في كل التجارب السابقة أعلاه ، وقد نعزوا هذا الفشل لعدة أسباب وهي:
أولها- أنها كانت تقوم على فكرة عامة غير محددة، حتى أنها كانت غامضة، أو شبه غامضة، علاوة على أنها كانت تفقد التبلور والنقاء والصفاء.
وثانيها- أنها لم تكن تعرف طريقة لتنفيذ فكرتها ، بـل كانت الفكرة تسير بوسائل مرتجلة وملتوية، فضلاً عن أنه كـان يكتنفها الغموض والإبهام.
وثالثها- أنّها كانت تعتمد على أشخاص لم يكتمل فيهم الوعي الصحيح، ولم تتمركز لديهم الإرادة الصحيحة، بل كـانوا أشخاصاً عندهم الرغبة والحماس فقط.
ورابعها- أنّ هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يـضطلعون بعبء الحركات لم تكن بينهم رابطة صحيحة سوى مجرد التكتل الذي يأخذ صوراً من الأعمال، وألفاظاً متعددة من الأسماء.
ولهذا كان من الطبيعي أن تندفع هذه الكتل فيما عندها من مخزون الجهد والحماس حتى ينفد، ثم تخمد حركتها وتنقرض، وتقوم بعدها حركات أخرى، من أشخاص آخـرين، يقومون بنفس الدور، حتى يفرغوا مخزون حماسهم وجهدهم عند حدّ معين، وهكذا دواليك.
وكان إخفاق جميع هذه الحركات طبيعياً، لأنها لم تقـم على فكرة صحيحة واضحة محددة، ولم تعرف طريقة مـستقيمة، ولم تقم على أشخاص واعين، ولا على رابطة صحيحة.
– ولأننا مسلمون نؤمن بنظام الإسلام أنه الوحيد القادر على إيجاد نهضة حقيقية صحيحة (مقنع للعقل وموافق لفطرة الإنسان) لنا فإنه يجب علينا البحث عن الحركة الإسلامية المخلصة الواعية التي تنطلق من مفهوم (ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)، وهي الحركة أو الحزب المبدئي الذي يأخذ الإسلام من كل جوانبه في العمل السياسي ويسعى للتغيير الجذري دون إجراء أي تنازل أو أي هُدن مع العدو وهذا لحرمتها شرعاً ولفشلها منطقياً، وأن تكون هذه الجماعة أو الحزب عالمية متجاوزة لقوانين الاستعمار وروابطه من قومية ضيقة ووطنية أضيق ، وتستهدف هذه الحركة العالم لتحريره من حكم الطاغوت ولتحرير الإنسان من عبوديته لغير الله، ولا ترضى بغير شرع الله حُكماً ولو تكالبت الأمم عليه ، وأن يكون في جُعبتها البرنامج السياسي (المشروع) الذي تحمله للناس حملا فكريا وسياسيا كي تنقاد الجماهير له وتعمل معها لإيصاله للحكم في قُطر معيّن أو مجموعة أقطار ومن ثمّ تطبيق الإسلام تطبيقاً عمليا كما فعل الرسول محمد صلوات الله عليه.
وعلى هذا الأساس, يُمكن تقسيم هذه الجماعات إلى قسمين:
القسم الأول؛ هي الجماعات التي جعلت من مرجعها الفكري الواقع الحالي، أي تتغير خططها أو قوانينها أو طريقتها وِفقاً للواقع المجبولة عليه، فوضعت النصوص الشرعية في محل التغيير الواقعي، وهذه الجماعات تُوضع تحت ما يُسمّى اليوم “الإسلام الوسطي المعتدل” وهي التي استسلمت للواقع ورضيت بعد ضغوطات الزمان والمكان من جعل هذا المصطلح “الوسطية والاعتدال” منهجاً ومرجعاً لها، وعليه؛ رضيت بما يُسمى الديمقراطية طريقة لاستلام الحكم يعني التوافق مع المنظومة الدولية الكافرة وهذا إنهزام حضاري وانحراف خطير عن المبدأ، ومع استمرار هذه الحركات على نفس النهج الذي رُسم لها وأُجبرت على قبوله بسبب بعض الإرتهانات السياسية ، فإن هذا دليلٌ واضح أن سبب فشل هذه الحركات هو النهج المتبع وليس فشل بشري في الحكم، فالمؤمن كيّس فطن لا يلدغ من نفس الجُحر مرتين ولا يجب أن يكرر نفس التجربة الفاشلة.
أما فيما يخص قضايا المجتمع الأخرى، فلقد أظهر هذا القسم من الحركات الإسلامية للأسف تنازلات مؤلمة لكثيرٍ من المبادئ والأحكام وتلاعبت بشدة بمشاعر الجماهير المسلمة وحولت أفكارهم عن القضايا المصيرية إلى قضايا سطحية ثانوية وحرفت عقولهم عن الحلول الجذرية إلى حلول هي في الحقيقة مواطئة للأنظمة الفاسدة وتعمل على ترقيعها وبالتالي إطالة عُمرها وعمر فسادها ووضعت يدها في أيدي الكثير من أعداء الإسلام ، والتبريرات طبعا جاهزة مُغلفة بغطاء إسلامي للضحك على الجماهير المسلمة تقع تحت أي مصطلح سياسي تكتيكي أو فكري أو شرعي منحرف عن معناه الأصيل، وقد قال الله تعالى في كتابه مبيناً حكم من استغنى بدينه ورضي بالعدو الظالم حكماً له (ولا تركنوا للذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) فالحكم هنا واضح صريح لا يقبل التلاعب ولا التأويل بأن الركون الى الظالم وجعله المرجع الأول بعكس الإسلام هو تنازل عن المبدأ الإسلامي العظيم والنتيجة هي الهزيمة بشكل قطعي وفشل كما حصل وسيحصل لكل من انحرف عن أحكام الله.
ومع تأكيد الجميع أن سبب تأخر المسلمين وانحطاطهم هو عدم تطبيق الشريعة الإسلامية، إلّا أن سوء فهم بعض المفاهيم الإسلامية وفصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية نتيجة الغزو الفكري الأجنبي وانخفاض التفكير الإسلامي وافتقار الأمة لرجال الوعي أدّى هذا للجهل وانحراف الفكر وتبين لدى الجميع أن هذه الحركات أصيبت بمرض عدم الثبات على المبدأ،
ولكن، هذا المرض الفكري لم يصب الجميع في الحقيقة، فالقسم الثاني من هذه الجماعات هي الجماعة أو الحزب المبدئي، الذي يحمل رابطة تكتلية واضحة في غايتها وفكرتها وواضحة في سير طريقتها للوصول للغاية، وهذه الرابطة المبدئية ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، لأن نهجها لا يُمكن أن يرتهن لعدو أو أن يتبدل في جوهره بسبب ضغط خارجي أو واقعي، أو أن ينحرف عن الهدف الأصيل (الذي في الحقيقة خرجت به جُلُّ الجماعات الإسلامية والتي أخلص بعضها في البداية وانحرفوا آخِراً)، ولكن المبدئي هو الثابت المقاوم للمغريات والضغوطات والسائر على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في عملية التغيير بطريقته الثابتة ,وأبا إلّا أن يكون هدفه هو إيصال الإسلام وحده إلى الحكم فالفكرة هي المرجع والطريقة من جنس الفكرة ، والحق لا يخفى عن واعٍ.
وهنا وجب التبيان عن طريق مقارنة “المبدئي” بغيره لإدراك الصورة كاملة، فالعالم اليوم في ظل هيمنة الرأسمالية بات يكتوي ويتلوّى من ألم الظلم والفساد والتعتيم عن الحقيقة وتشويشها وتشويهها، فصار لا بد من وضع النقاط على الحروف فالحضارة الغربية الإستعمارية قد استطاعت التوغل في عقولنا وتهدد هويتنا وثقافتنا ، إلا أنها فشلت وما زالت تفشل بحرف الحزب الإسلامي المبدئي عن مساره، وقد أيقن الغرب أنّ لا مجال لمحاربته في الأفكار لأن المعركة محسومة بانتصار الحزب المبدئي عليه وعلى حضارته المأزومة لذلك ما زال يحارب بشراسة الإسلام والمسلمين بمحاولات يائسة بائسة علّ وعسى أن تُطيل عُمر نظامه المريض ..
وأما عن دور الناس فهو يكمن في وعيها السياسي الذي من خلاله تستطيع أن تميز بين من يريد أن يقودها بمنهج الإسلام الصحيح المبدئي وبين المنهج الملتوي والمنحرف “المعتدل/ المعَدّل”, وبهذا نستطيع أن نقول أن الرأي العام المنبثق عن وعي عام هو القوة الحقيقية التي من خلالها يتكون مفهوم النصر ويُكوّن موقع هذه الأحزاب من الإعراب، فإما تنازل طول الزمان ورضوخ بواقع الحال كما الأمثلة التي ذكرتها التي لن تستطيع أبدا الوصول إلى التغيير المطلوب ، وإما مبدئية تامة تُفضي لدولة عز للمسلمين متمثلة في دولة الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة ، ولمثل ذلك فليعمل العاملون.