تعمل كبرى وسائل الإعلام في بلاد الغرب على أن تسهم في تثبيت الوعي لدى شعوبهم، على جملة الأفكار والمفاهيم والمقاييس، المنبثقة عن عقيدتهم، عقيدة فصل الدين عن الحياة، للمحافظة على نمط الحياة الذي ارتضوه لأنفسهم، ومن ثم تثبيت سيطرتهم على بقية الشعوب بالتحكم في طريقة تفكير هذه الشعوب وطمس مقومات ذاتيتها. ومن أساليب هذه الوسائل الإعلامية في تأدية دورها، وإحكاما لخطتها، تعمل على أن تسند سعيها ذاك بمن انضبع بثقافة الغرب من أبناء تلك الشعوب المغلوبة المقهورة، ليكونوا عونا لهم على شعوبهم وأداة سهلة طيعة لكسر إرادتها، وتحطيم عوامل المقاومة لديها. هؤلاء المضبوعون من طينة أولائك الذين تحدث عنهم الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في مقدمة صدًر بها كتاب فرانتز فانون «معذبو الأرض» مشيراً إلى أسلوب صناعة المفكر الشرقي في الغرب، ومجال استخدامه: «كنا نحضر رؤساء القبائل وأولاد الأشراف والأثرياء والسادة من أفريقيا وآسيا، ونطوف بهم بضعة أيام في أمستردام ولندن والنرويج وبلجيكا، فتتغير ملابسهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية الجديدة، ويتعلمون منا طريقة جديدة في الرواح والغدو، ويتعلمون لغاتنا وأساليب رقصنا، وركوب عرباتنا، وكنا ندبر لبعضهم أحياناً زيجات أوروبية، ثم نلقنهم أسلوب الحياة الغربية… كنا نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في أوروبا، ثم نرسلهم إلى بلادهم وأي بلاد!؟ كانت أبوابها مغلقة دائماً في وجوهنا، ولم نكن نجد منفذاً إليها، كنا بالنسبة إليها رجساً ونجساً، ولكن منذ أن أرسلنا المفكرين الذين صنعناهم إلى بلادهم، صرنا نصيح من أمستردام أو برلين أو باريس «الإخاء البشري» فيرتد رجع أصواتنا من أقاصي أفريقيا أو الشرق الأوسط أو شمالي أفريقيا… كنا نقول: ليحل المذهب الإنساني أو دين الإنسانية محل الأديان المختلفة، وكانوا يرددون أصواتنا هذه من أفواههم، وحين نصمت يصمتون، إلا أننا كنا واثقين من أن هؤلاء المفكرين(!!) لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم».
في هذا الإطار يأتي برنامج “محاور” الذي تبثه قناة فرانس 24 باللغة العربية والذي يستضيف فيه معدّه قائمة من هؤلاء الذين لا تردد أفواههم إلا تلك الأصوات التي تأتيهم من أمستردام وبرلين وباريس… وهم تعلموا الصمت بصمت معلميهم فهم لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعوه في أفواههم، على ما قرره معلمهم “جان بول سارتر”. فضمن نفس السياق استضيف في حصة 24. 04. 2021 أستاذ القانون الدستوري والرئيس السابق للهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة عياض بن عاشور، لمحاورته حول كتابه الذي أصدره تحت عنوان “الإسلام والديمقراطية: ثورة من الداخل”، وهو المتوج في سبتمبر 2012، في مدينة بون الألمانية بالجائزة الدولية للديمقراطية، لدوره المحوري في الانحراف بالثورة عن غايتها بإشرافه على هذه الهيئة بعد احتواء لجنة حماية الثورة وهي الهيئة التي حلت لسبعة أشهر فقط من عمرها، بعد المصادقة على أهم القوانين التأسيسية كقانون الانتخابات والهيئة العليا المستقلة للانتخابات.
جاء رده على أول أسئلة معد برنامج “محاور” حول كونية المعايير الديمقراطية، أو كما يحلو له تسميتها بالناموس الديمقراطي، متحكما، فدعا مباشرة إلى تحرير الديمقراطية من “الاتهامات” التي تحوم حولها بادعاء بعضهم أنها غربية وادعاء البعض الآخر أنها شرقية، واختراع غيرهم لديمقراطية إسلامية أو بوذية… و نادى بوجوب بنائها على أسس كونية، وأنه لا أحد يملك حق نفيها أو أن يقول تجاهها، لا. زاعما أن الديمقراطية هي الفكرة الوحيدة التي تحترم الإنسانية، وأن رفض الإنسان لما يؤلمه يدفعه طبيعيا إلى الديمقراطية. لم يسمح ولم يقبل عياض بن عاشور أن توضع الديمقراطية تحت معايير التفكير الغربي، تلك المعايير المدعية للتفرد بالعقلانية، وهي أن يوضع كل موضوع تحت دائرة الشك والنظر، بل اعتبرها، تحكما منه، مسلمة وبديهة وأن ليس لأحد أن يناقشها أو أن ينظر فيها، بل أوجب أخذها والتسليم بها والقياس على أساسها.
بمقتضى “قداسة ” الديمقراطية، أباح لنفسه إنكار حق الله في التشريع لخلقه، وهو العليم سبحانه وتعالى بما يصلحهم، وهو اللطيف الخبير بالفطرة التي فطرهم عليها، ومبيحا لنفسه تقرير ذلك والتشريع بما يراه العقل القاصر.
معتبرا أن العيش بالإسلام الذي امتد لأكثر من ثلاثة عشر قرنا هو “نتاج للأرتودكسية السنية، والتي يعتبرها دينا ثانيا كونه التاريخ، فهي عمل تاريخي شارك فيه العلماء والحكم السياسي وعامة الناس”. كأن الأحكام في الإسلام والمعالجات لا تفهم بآلية الفهم الشرعي التي أوجبها الأدلة الشرعية وهي التي لا يملك أحد أن يقول فيها بهواه فالأورتودكسية السنية عنده هي وحدها التي وضعت مفهوم الجماعة في أصول الدين وجعلت الفصل بين الديني والدنيوي صعبا، متجاوزا منطوق النصوص الشرعية ومفهومها القطعي من مثل قوله جل وعلا: وَنَزَّلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ تِبۡيَٰنٗا لِّكُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ وَبُشۡرَىٰ لِلۡمُسۡلِمِينَ ـ 89 ـ سورة النحل، أو قوله سبحانه تعالى: وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ ـ 44ـ سورة النحل أو قوله: وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَٱعۡلَمۡ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعۡضِ ذُنُوبِهِمۡۗ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ لَفَٰسِقُونَ ـ 49 ـ سورة المائدة. تذكيرا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وجوابا على سؤال كيفية العمل للخروج من إيمان المسلمين هذا، وما فرضه مفهوم الجماعة والأمة، على المسلم، من حتمية معالجة شؤون الحياة بأحكام الإسلام وهو ما عبّر عنه “بالدين المدني”، دعا عياض بن عاشور، وللخروج من هذا الواقع أي تسليم المسلمين ببداهة الخضوع لأحكام الإسلام، إلى إعادة النظر من الناحية النظرية في هذه المسلمات بالتنازل عن الدين المدني أي بالقبول بفصل الدين عن الحياة، هكذا تحكما منه، ودون وضع العقيدة التي أوجبت الرضا والتسليم بما انبثق عنها من أحكام ومعالجات، بل إن دعوته تلك تستبطن خطرا يطل بقرنه على من رضي بعبوديته لله وسلم له بالحاكمية.
إلا أن عمى البصيرة الذي يغشى قلوب المهزومين حضاريا، ورغم إقرار محاوره أن ما يسميه عياض بن عاشور، بالأورتودكسية السنية، قد قاومت التيارات التي كانت تتحداها عبر التاريخ أي موجات الحرب على الإسلام وأن الديمقراطية لم تنجح بين المسلمين إلا أنه يصر على أن هذه الأورتودكسية السنية ويعني به تشبث المسلمين بالإسلام نهج حياة بدأ يتمزق ويفقد قدرته على “التسلط”، على عكس ما يراه سادته الغربيين وقدوته منهم ومراكز دراساتهم، بدليل تكرار الثورات في بلاد المسلمين كثورات السودان والحراك الجزائري… متعاميا عن إبصار أن الذي ينتفض عليه المسلمون اليوم هو هذه النظم التي فرضها عليهم معلموه هو، وهم يثورون على وجهة نظر الغرب التي انبثقت عنها هذه النظم. وأن ثورتهم هي على هذه الدولة القُطريّة الوطنيّة المترنّحة والسّاقطة لا محالة، وما جرته عليهم من مآس وويلات. وهم واعون على أن تصدّر هؤلاء “المثقفين” لحملة إنعاش الديمقراطية في بلادنا، بعد أن رُفع نعشها في عواصم الغرب ضمن مسيرات مناهضة لها ولممارساتها التي تحكمها لوبيّات رأسمالية، لا يضعهم إلا في الطابور الخامس الذي تشكله وتشرف عليه قوى الحرب على الإسلام، كنظام رحمة للإنسان رضيَه له ربه العزيز الحكيم، ذاك الطابور الذي لا ينتمي إليه إلا من كان دوره بث روح الهزيمة، وضعضعة الثقة في النفوس لدى الأمة، بل والسعي لتدمير الأمة ذاتها، علنا أو سرا، وهو الأمر الذي تجاوزته الأمة، بحمد الله، وهي في طريقها نحو تحرير إرادتها واستعادة دورها في الحياة.
يقول جل وعلا: “أفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُور” ـ 46 ـ الحج.