حدّث أبو ذرّ التونسي قال: مع انطلاق الجلسات العامّة لمجلس نوّاب الشعب المخصّصة للنّظر في فصول مجلّة الجماعات المحلّية، بدأت تتّضح تباعًا أسباب هذه الهالة الإعلاميّة والسّياسية التي أحيطت بها الانتخابات البلديّة وهذا التّكالب السّابق لأوانه بين الفرقاء كما الحلفاء على أصواتها ومقاعدها…فبمقتضى النّسخة الجديدة لتلك المجلّة لم تعد البلديّة مجرّد مؤسّسة إداريّة خدماتيّة مستقلّة عن السّلطة السياسية ولا حتّى جهازًا تنفيذيًّا موظّفًا من قبل الحكومة يلتزم بسياساتها ويُؤيّدها ويروّج لها بل أصبحت (إمارة) داخليّة شبه مستقلّة ودُويلة قائمة بذاتها لها من الصّلاحيّات الموسّعة ما يمكّنها من تجاوز السّلطة المركزيّة والاستفراد برعاية شؤون منظوريها والتصرّف في مواردها وربط علاقات داخليّة وخارجيّة دون الرّجوع إليها، بما يُؤسّس لتفكيك الدّولة وضرب مركزيّة الحكم فيها ويوجد منفذًا للاستعمار في شؤونها الدّاخليّة ويجعل له سبيلاً على ثرواتها ومقدّراتها وقرارها السّياسي…هذه الوصفة الاستعماريّة المسمومة المستهدفة لتونس ـ أرضًا وشعبًا وانتماءً ـ يجري تمريرها في دَسِم مُسمّياتٍ خادعة آسرة من قبيل الدّيمقراطيّة التشاركيّة والحوكمة الرّشيدة والحكم المحلّي وتجزئة السّلطة (دَرْءًا للاستبداد والدّيكتاتورية) كما يزعمون…ودون الاستغراق في هذا الخضمّ النّظري الطّوباوي الفجّ، فإنّ هذا النّفخ في صورة الجماعات المحلّية ـ حجْمًا ودورًا وثقلاً وصلاحيّاتٍ ـ قد قُوبل في الوسط السّياسي التّونسي بمواقف متباينة بين مؤيّدٍ ومعارضٍ ومتحفّظٍ بحسب حجم الحزب ومصلحته السياسيّة منه، كما أجّج نيران حرب المواقع حول الانتخابات البلديّة بين أحزاب الائتلاف الحاكم التي تحاول تدعيم سلطتها وتكريس حكمها بالسّيطرة على البلديّات، وأحزاب المعارضة التي تسعى إلى كبح جماح السّلطة ومشاركتها في الحكم والقرار عبر اكتساح أكبر عدد ممكن من البلديّات…
السياق السياسي
منهجيًّا، من المفيد للبحث والتحليل أن نستحضر السّياق السياسي الذي يندرج ضمنه هذا الحراك الاستعماري التّصفوي، فهو يتناغم مع مشروع الشّرق الأوسط الجديد الذي بشّر به المحافظون الجدد في الولايات المتّحدة الأمريكية مطلع القرن الحادي والعشرين (2004) ويتمثّل في إعادة صياغة منطقة الشّرق الأوسط وشمال إفريقيا عن طريق توليد إطار (سايكس ـ بيكو) بمزيد تقسيم المقسّم وتفتيت المفتّت وتجزئة المجزّأ تحت شعار (فرّق تسُد) تدعيمًا لإسرائيل وتسهيلاً للسّيطرة وتيسيرًا للنّهب وتعسيرًا لإمكانيّة التّوحيد…وقد كانت ضربة البداية لهذا المشروع بفصل جنوب السّودان ويجري الآن تعميمُه بخطى حثيثة على العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر والجزائر، ويبدو أنّ المنطقة العربيّة والإسلاميّة برمّتها معنيّة به مُرشّحة لأن تكون مسرحًا له…هذا المشروع ـ وإن كان وقوده عرقيًّا إثنيًّا مذهبيًّا لغويًّا بالأساس ـ إلاّ أنّ قائمة المداخل التي يمكن ان تكرّسه ما فتئت تتوسّع لتشمل أبسط مؤشّرات التميّز بما في ذلك القبليّة والعروشيّة والجهويّة وحتّى الثّروات الباطنيّة الطّاقية منها والمنجميّة، ولا بأس في هذا الخضمّ من العمل على إضعاف الحكم المركزي في المنطقة المستهدفة بشتّى الوسائل والأساليب…أمّا في المثال التّونسي فقد اتّخذ مشروع الشّرق الأوسط الجديد لنفسه أربع جبهات: جبهتين ميدانيّتين عمليّتين (تكريس الجهويّات + التّفويت في المؤسّسات العموميّة للأجانب) وجبهتين نظريّتين قانونيّتين (دسترة التّقسيم + تأسيس الحكم المحلّي)…
تكريس الجهويّات
لقد علّق الأهالي في تونس آمالاً عريضة على الثّورة في انفراج حال الفقر والتّهميش والبطالة، إلاّ أنّها لم تزدها إلاّ استفحالاً وتأزّمًا ممّا أجّج حالة من الغبن والأسى والخيبة واليأس ارتدّت بالسّلب على تحرّكات الأهالي في بؤر التوتّر (قرقنة ـ القصرين ـ الكاف ـ سيدي بوزيد ـ سليانة ـ جندوبة ـ قبلّي ـ مدنين ـ تطاوين…) وأفقدتها مشروعيّتها ونجاعتها ومصداقيّتها وكرّستها من حيث لا تقصد لخدمة مخطّطات الكافر المستعمر…فقد استغلّ هذا الأخير تلك التحرُّكات الشّعبية وركبها ووظّفها وزوّدها بشعارات مسمومة تحفر الخنادق بين الجهات وتحتطب للفرقة والفتنة والاحتراب بين مكوّنات الشّعب تمهيدًا لتقسيمه إلى جمهوريّات نفط أو غاز أو فسفاط وملح…إلى آخر قائمة الثّروات التي تُقتطع ويُنصّب عليها وكلاء برتبة حكّام يُفرش لهم السجّاد الأحمر أمام شعوبهم بينما هم مجرّد موظّفين بسطاء في الشّركات الرّأسمالية العملاقة…فالمُلاحَظ أنّ الخلفيّة المسيّرة لتلك التحرّكات الشّعبية كانت أنانية منفعيّة مصلحيّة جهويّة ضيّقة أساسها شعارات تدغدغ المشاعر ظاهرها فيه الرّحمة وباطنها من قبله العذاب (التّوزيع العادل للثّروة ـ التّمييز الجهوي الإيجابي ـ إنصاف الجهات المحرومة ـ اللاّمركزيّة ـ خيرات الجهة لأبناء الجهة…) وهي حقول ألغام تؤسّس على المدى البعيد للاّمركزيّة الحادّة ولسياسة المحاور والاستقطاب الإقليمي وتبذر في تربة البلاد بذور الإقليميّة والجهويّة وتزرع في رحمها أجنّة الفدراليّة والاستقلال الذّاتي توطئةً للتّقسيم، كما تُذكي التّجاذبات الطّائفية والعشائريّة والمذهبيّة والقبليّة وتزوُّدها بأكسسوارات الانفصال وتوجد بالتّالي المنافذ التي يتسلّل عبرها الكافر المستعمر وشركاته النّاهبة…
الخصخصة والتّفويت
لتكريس هشاشة كيان الدّولة وقابليّتها للتجزئة والتّقسيم عمد الكافر المستعمر عبر ذراعه الربويّة (صندوق النّقد الدّولي) ووكلائه الحكّام العملاء إلى دفع البلاد نحو الخصخصة والتّفويت في المؤسّسات العموميّة: فالسياسة الوحيدة التي تحذقها الحكومة وتنتهجها لمعالجة الأزمة الاقتصاديّة والماليّة هي بيع ممتلكات الشّعب للشّركات الاستعماريّة تحت مسمّى (إصلاح المؤسّسات العموميّة) وبذريعة أنّها (مؤسّسات خاسرة صارت عبءًا على الميزانيّة ويجب التخلُّص منها)…فانصياعًا منها لوصفة صندوق النّقد الدوليّ القاتلة (رفع الدّعم عن المواد الأساسيّة ـ تجميد كتلة الأجور ـ وقف الانتدابات ـ تخفيض الإنفاق الحكومي على مصالح النّاس ـ خصخصة مؤسّسات الدّولة) لا تستبعد الحكومة في تونس التّفويت في المؤسّسات العموميّة الإستراتيجية النّاشطة في القطاع التّنافسي مثل الشّركة التونسيّة لصناعة الحديد والفولاذ وعدد من الشّركات المفتوحة على رأس المال الخاصّ مثل بنك الإسكان في حال فشل الدّولة في إصلاحها…وقد فوّتت الدّولة فعليًّا في مساهمتها في 14 بنكًا وأطلقت طلب عروض دوليًّا للتّفويت في شركة (إسمنت قرطاج)، وهي حاليًّا تتحيّن الفرصة للتّفويت في خمسٍ من الشّركات الحيويّة في البلاد (الشّركة التّونسية لتكرير النّفط ـ الشّركة التّونسية للكهرباء والغاز ـ الخطوط الجويّة التّونسية ـ الدّيوان الوطني للحبوب ـ الوكالة الوطنيّة للتّبغ والوقيد…) بما يؤدّي عمليًّا إلى تصفية كيان الدّولة ويحوّلها إلى مجموعة من المحميّات الأجنبيّة أو المناطق الصّناعية الحرّة ويكرّس ارتباطها العضوي بالغرب الاستعماري وبالشّركات متعدّدة الجنسيّات وبالمنظومة الرّأسماليّة الجشعة…
دسترة التّقسيم
والمصيبة أنّ هذا المخطّط الاستعماري المستهدف لوحدة الأمّة وسيادتها ومقدّراتها في آن، استجاب له العبث التّشريعي في تونس وانساق وراءه وأسّس له وكرّسه ودستره، ولا غرابة في ذلك: فدستور أشرف عليه الغرب الاستعماري تصوُّرًا وتصميمًا وتمويلاً وتوجيهًا، ووضع بنوده الخبير اليهودي الأمريكي نوح فيلدمان واضع دستور أفغانستان والعراق ومصر، لا بدّ أن يحمل في طيّاته بذور الانشطار والتشظّي ويكرّس المنطقة لمشروع التّجزئة والتّقسيم ونهب الثّروات وشفط المقدّرات والشّيء من مأتاه لا يستغرب: فنظرة سريعة في باب (السّلطة المحليّة) تجعلنا نقف على حقل ألغام يقطر خبثًا ومكرًا، فصياغة فصوله جاءت عامّة فضفاضة مائعة تفتقد الدقّة والضّبط قابلة لشتّى التّأويلات والقراءات بما يمكّن الكافر المستعمر من أن يدسّ عبر سطورها مشاريعه المسمومة…أمّا من حيث محتواها ومنطوقها فإنّ هذه الفصول تنصّ صراحةً على خيار اللاّمركزية والجهويّة والإقليميّة (فصل 131) وتعطي الجماعات المحليّة ومجالسها صلاحيّات ذاتيّة موسّعة وأخرى مشتركة مع السّلطة المركزيّة أو منقولة عنها (134) وتمكّنها من موارد ذاتيّة وأخرى محالة من السّلطة المركزيّة مناسبة لحجم صلاحيّاتها (135) كما تنصّ صراحة على حرّية تصرّف الجماعات المحليّة في مواردها (137) وتفوّض لها مهمّة إعداد برامج التّنمية والتّهيئة التّرابيّة ومتابعة تنفيذها (139) وتجيز لها أن تُنشئ شراكات فيما بينها بل تجيز لها صراحة أن تربط علاقات خارجيّة مع أطراف أجنبيّة للشّراكة والتّعاون اللاّمركزي (140)…وفي كلّ هذا ما فيه من تأسيس وتقنين للفدراليّة والاستقلال الذاتي وصولاً للتّقسيم والانفصال…
الحكم المحلّي
بمقتضى هذا الدّستور وما أسنده من صلاحيّات موسّعة للسّلطة المحليّة (افتكّ) رئيس البلديّة صراحةً صلاحيّات الوالي وأصبح حاكمًا بأمره مصغّرًا في دائرته البلديّة: فقد اكتسب صلاحيّات ذاتيّة وأخرى منقولة من الوزارات ونحوها وأخرى مشتركة مع السّلطة المركزيّة…وقد مكّنته هذه الصّلاحيّة (المكعّبة) من إعداد الميزانيّة والمصادقة عليها والتخلّص من كلّ أشكال المراقبة المسبقة التي كرّسها قانون 1975 حيث لم يعد لسلطة الوالي دخل فيها سوى عبر الطّعن أمام المحكمة الإداريّة…كما مكّنته من التمتّع بالتفرّغ الذي لم تتمتّع به في العهد السّابق إلاّ 35 بلديّة كبرى يتجاوز عدد سكّانها 100 ألف نسمة، وبموجب هذا التفرّغ يتقاضى رئيس البلديّة منحة شهريّة وحوافز مختلفة وامتيازات عينيّة (سيّارة وظيفيّة ـ سائق ـ 500 لتر وقود شهريًّا ـ خدمات هاتفيّة)…كما ينصّ الحكم المحلّي على أن للبلديّة صلاحيّة إدارة الشّؤون المحليّة بما في ذلك فرض الضّرائب والاستقلال المالي وتنظيم الاستفتاء حول برامج التنمية والتّهيئة الترابيّة وإبرام اتّفاقيّات تعاون وإنجاز مشاريع تنمويّة مع أطراف أجنبيّة ومنظّمات حكوميّة وغير حكوميّة دون الرّجوع إلى السّلطة المركزيّة بما يفتح الباب على مصراعيه أمام الكافر المستعمر المترصّد للتدخّل في شؤون البلديّات الدّاخلية دون أن يكون للدّولة الحقّ في منعه من ذلك…ويبدو أنّ البلديّات التونسيّة قد استبقت مجلّة الجماعات المحليّة الجديدة وأصبحت أوكارا لنشاطات مشبوهة تنهال عليها الهبات المشروطة على غرار الهبة الأخيرة المقدّرة بحولي 50 مليون دولار لـ 11 بلديّة تونسيّة من طرف الوكالة الأمريكيّة للتنمية الدّولية لغاية في نفس العمّ سام… وهكذا يتّضح بجلاء أنّ مجلّة الجماعات المحليّة في نسختها الجديدة تسند للبلديّات صلاحيّات ذاتيّة تتجاوز أحيانًا صلاحيّات الحكومة المركزيّة بما يجعل منها شبه دويلات مستقلّة داخل الدّولة بشكل يضع البلاد مستقبلاً على شفير الانفجار والانشطار والتقاتل والتناحر وعندها يصبح تدخّل الغرب الاستعماري (ضرورة ديمقراطيّة إنسانيّة)…