محنة البكّالوريا: من التسيّب والتّسريب إلى الغشّ الإلكترونيّ

محنة البكّالوريا: من التسيّب والتّسريب إلى الغشّ الإلكترونيّ

يعيش هذه الأيّام قرابة 138 ألف تلميذ تونسيّ على وقع مناظرة البكّالوريا التي انطلقت دورتها الرئيسيّة يوم الخميس 07 جوان لتتواصل على امتداد ستّة أيّام إلى حدود الرّابع عشر منه، وقد توزّع المترشّحون بكافّة شُعبهم على 584 مركزا كتابيّا، فيما سيتمّ إصلاح الاختبارات في 28 مركز إصلاح بكامل محافظات البلاد..وممّا لا شكّ فيه أنّ (الباك) محطّة مركزيّة في المسيرة التعليميّة لكلّ تلميذ، تتوّج مجهودات 13 سنة من التعلّم والتّحصيل، وتفتح الباب على مصراعيه أمام التدرّج في السلّم العلميّ، في بلد لا مندوحة للفقراء ومتوسّطيّ الحال عن التشبّث بتلابيب الشّهائد العلميّة لتحسين وضعيّتهم الماديّة والارتقاء بمرتبتهم الاجتماعيّة..لكن هل أنّ لؤلؤة الشّهائد العلميّة في تونس مازالت مظنّة تحقيق الأحلام التي تداعب مخيّلة كلّ تلميذ..؟؟ قطعا لا: فهذه العقليّة التواكليّة المتمثّلة في الرّبط الآليّ بين الدّراسة والوظيفة تحت شعار (العلم من أجل العمل) كانت ثمرة لسياسة مغلوطة كرّستها السّلطة في بداية الاستقلال، ثمّ أضحت تتخبّط للانفكاك منها دون جدوى: فقد كانت مجدية في مرحلة التّأسيس وقلّة الكوادر وندرة الكفاءات، إلاّ أنّها بمرور الزّمن وتحقيق الاكتفاء الذّاتيّ أضحت عبءا ثقيلا على كاهل الدّولة، حيث أثمرت جرعة زائدة من حملة الشّهائد الجوفاء في شتّى الاختصاصات فاقت احتياجات الدّولة، وضخّمت قائمة المعطّلين عن العمل وأثقلت كاهل الوظيفة العموميّة بالجرايات وأزّمت منظومة التّأمين..كما أسّست لظواهر مرضيّة في العمليّة التربويّة نفسها على غرار (طول المقرّر الدراسيّ ـ الدّروس الخصوصيّة ـ الغشّ ـ الفوسكة والفويت..) ما أزّم العلاقة بين التلميذ والمربّي وضاعف من قائمة الامتحانات والمناظرات وأفقد الشّهائد العلميّة قيمتها..هذا دون أن تحدث مؤشّرا واحدا للنّهضة، بل زادت المجتمع التونسيّ انحطاطا ومسخا وتبعيّة، وتلك هي المعضلة ومكمن المفارقة.. 

من الصّرامة إلى التسيّب

لقد فقدت مناظرة البكّالوريا هيبتها وناموسها و(الكاريزما) التي كانت تتمتّع بها منذ الاستقلال إلى أواسط ثمانينات القرن المنصرم، كما فقدت الشّهادة ذاتها قيمتها العلميّة ومصداقيّتها الأكاديميّة وحجيّتها القانونيّة داخليّا وخارجيّا: فبعد أن كانت الباك التونسيّة (حجرة) عصيّة على خطّاب ودّها، مفتاحا للوظيفة المريحة والرّاتب المغري محليّا، محترمة وقادرة على المنافسة دوليّا، أضحت جوهرة الشّهائد التونسيّة مستخفّا بها مطعونا في مصداقيّتها مشكوكا في قيمتها العلميّة، ممتهنة في عقر دارها مزدراة من طرف المؤسّسات الجامعيّة العالميّة المشهودة..ضربة البداية لمسار (التّشليك) هذا كانت سنة 1986 مع (دورة بورقيبة) الثّالثة التي أُضيفت إلى الدّورتين الرّئيسيّة والتّدارك لرفع نسبة النّجاح المتدنّية عمدا، في حركة بهلوانيّة مخجلة تفتّق عنها ذهن (المجاهد الأكبر) لتطويق رقاب الطّلبة الثّوريّين بمنّة ودين كسبا لودّهم وترويضا لهم (بدون تعليق ؟؟)..المحطّة الثّانية لهذا العدّ التنازليّ كانت سنة 1991 مع مهزلة إصلاح التّعليم التي أسّست لأجواء التسيّب شكلا ومضمونا: فقد نفخت في صورة التّلميذ وخلعت عليه (الحقوق)، وكبّلت الإطار التربويّ وأفقدته هيبته، وسمّمت أجواء التلقّي وسيّست العمليّة التربويّة ـ مسخا وتمييعا واستهدافا عقائديّا ـ على حساب المحتوى العلميّ..كما انتعش في ظلّها (استحقاق الغشّ) ولوبيّات الدّروس الخصوصيّة وبيع وشراء الأعداد والشّهائد، ما أضرّ بسمعة المؤسّسة العموميّة وفتح الباب على مصراعيه أمام خصخصة التّعليم..ثمّ كرّت المسبحة واستسلمت المناظرة برمّتها لمصيرها المحتوم: فبعد الصّرامة والشدّة والمقاييس الأوروبيّة، سرعان ما ارتخت قبضة المراقبة وتمتّعت الامتحانات بظروف تخفيف جعلتها شبيهة بالأسبوع المغلق حيث (التّنقيل والفوسكة) والمحاباة سيّدة الموقف، ثمّ طُعّمت بموادّ ثانويّة سهلة لسدّ النّقص على غرار التّربية التشكيليّة..كما ساهم التّنفيل بنسبة 25% في تضخيم الأعداد لاسيّما في المعاهد الحرّة حيث يخضع التّقييم لاقتصاد السّوق وقانون العرض والطّلب..بل إنّ التّضخيم طال المناظرة نفسها، ودونكم الباك سبور والباك أنفورماتيك.. 

من التسيّب إلى التّسريب 

لقد كان لأجواء التسيّب هذه مضاعفات سلبيّة قاتلة على الفعل التربويّ عموما وعلى مناظرة البكّالوريا خصوصا، فقد كرّست ظاهرتين خطيرتين أساءتا لسمعة الباك التونسيّة وأفقدتها مصداقيّتها وقيمتها العلميّة داخليّا محليّا وخارجيّا دوليّا: أولاهما ظاهرة تسريب الامتحانات أو ما يسمّى في الاصطلاح التلمذيّ والطلاّبي (الفويت)، وتتمثّل في إخراج نصّ الامتحان للعلن وتداوله بين التلاميذ خارج المؤسّسة التربويّة بما يمكّنهم من حلّه قبل تاريخ إجرائه بالرّجوع إلى الوثائق والمعلومات أو بالاستعانة بالكفاءات..وفي الواقع لا يمكن التّأريخ لهذه الظّاهرة بدقّة، ففي ظلّ هكذا أنظمة وساسة وعقليّات لايمكن تنزيه الامتحانات والمناظرات ـ مهما علا شأنها أو انخفض ـ من الغشّ والتّسريب، فلا شكّ في أنّها واكبت البكّالوريا منذ انطلاقها منحصرة في أوساط عليا لا يمكن ضبطها، ثمّ شيئا فشيئا اتّسعت دائرتها لتشمل الطّبقة المترفة وأبناء السّاسة والمتنفّذين والوسط السياسيّ..لكن الثّابت والأكيد أنّه منذ أواخر ثمانينات القرن المنصرم، انتعشت ظاهرة التّسريب في ظلّ أجواء التسيّب وفاحت رائحتها واستشرت بشكل لافت للنّظر بحيث لم تعد تخلو دورة واحدة من تسريب أو إشاعة تسريب تستند إلى معطيات ميدانيّة (والعظمة ما تقول طقّ..)..أمّا عن مرحلة الألفينات فحدّث عن البحر ولا حرج: فقد راجت سوق الفويت ـ لاسيّما الكاباس وسائر مناظرات التّشغيل ـ وأضحت (بضاعة ومادّة اقتصاديّة) لها نواميسها وسماسرتها ووسطاؤها وبورصة أثمانها التي ترتفع وتنخفض وفق الشّهادة والحالة الماديّة (للحريف)..بل إنّ أخبار التّسريبات أصبحت مستهلكة لا يُلقى لها بال ولا يُعتدّ بها لا وزاريّا ولا إعلاميّا ولا حتّى قضائيّا، ودونكم مثالا امتحانات التّحضير للجامعة لسنة 2014: فقد شاع خبر تسريب اختباراتها، وتطوّرت القضيّة في ظلّ لامبالاة الوزارة وامتعاض الطّلبة (القلالّة) لتصل إلى رحاب المحكمة الإداريّة..ورغم أنّ القضاء أنصفهم وأصدر حكما بإبطال النتائج، إلاّ أنّ الحكم ظلّ حبرا على ورق ولم يقع تفعيله من طرف وزارة التّعليم العالي التي احتسبت النّتائج المغشوشة والمطعون في مصداقيّتها قضائيّا، بما يشي بتواطؤ المشرفين على قطاع التّربية أنفسهم وتورّطهم في تكريس الظّاهرة (وحاميها حراميها).. 

من التّسريب إلى الغشّ

ثاني الظّواهر التي تنخر جسد مناظرة البكّالوريا التونسيّة هي ظاهرة الغشّ في الامتحانات، وهي ظاهرة مستفحلة بامتياز في الوسطين المدرسيّ والجامعيّ التونسيّ، لتلامذتنا فيها تقاليد عريقة ذات أصول وقواعد وأعراف ارتقت بهذا السّلوك المرضيّ الشّاذ إلى مصافّ القاعدة لا الاستثناء، والاستحقاق المكتسب لا الجرم المشهود: فحسب دراسة علميّة أنجِزت في 2018 فإنّ 25% من تلامذتنا معنيّون بالغشّ بتقدّم طفيف للذّكور (23%) على الإناث (20%)..أمّا إذا أخذنا بعين الاعتبار المشاركة السلبيّة فلا نكاد نستثني أيّ تلميذ، إن لم يكن ذلك عن طواعيّة فتحت طائلة التّهديد في ظلّ نماذج أقرب إلى (الخلايق) منها إلى التلاميذ..والمعضلة في هذه الظّاهرة المرضيّة أنّها في نموّ مطّرد: فمن 520 حالة غشّ سنة 2014 إلى قرابة ألف حالة سنة 2022، أمّا الدّورة الرئيسيّة الحاليّة فبوادرها (مشجّعة): ففي اليوم الأوّل فقط وفي مركز سيدي بوزيد وحده سُجّلت خمس حالات غشّ، ولكم أن تخمّنوا العدد المنتظر خلال دورتين من 06 أيّام في 584 مركزا كتابيّا (؟؟)..وكسائر الظّواهر الاجتماعيّة، تأثّرت ظاهرة الغشّ بالثّورة المعلوماتيّة وواكبت التطوّر التّكنولوجيّ وتأقلمت معه، فأحدثت نقلة نوعيّة في أساليبها قاطعة مع الارتجال والوسائل التقليديّة البدائيّة مستفيدة من المتاح السّمعيّ البصريّ في نقل الموادّ والمعلومات وإيجاد الحلول للمسائل الحسابيّة المعقّدة، على غرار الهواتف الجوّالة والحاسبات القابلة للبرمجة والكيت والأقلام الليزريّة والسّاعات الرقميّة..بحيث أصبحنا إزاء ظاهرة الغشّ الإلكترونيّ أو (التّكييت)، ويتمثّل في الاستعانة بطرف خارجيّ عن بعد باعتماد الكيت المربوط بغرف عمليّات تُكترى وتُجهّز للقيام بهذا الدّور: هذه النّقلة النوعيّة تقتضي تزويد (سوق الغشّ) بالأجهزة اللاّسلكيّة والسمّاعات المتطوّرة والبطّاريات الدّقيقة..كما تقتضي أيضا الاستعانة بالأطبّاء لزرعها في أذن المترشّح، وبالفنيّين لإنشاء محطّات الإرسال، وبالأساتذة وحملة الشّهائد العليا لحلّ المسائل، وبالتّلاميذ المنحرفين لاستقطاب الحرفاء، هذا فضلا عن المورّدين والمزوّدين والوسطاء.. 

إلّي يسرق… 

على هذا الأساس و منذ سنة 2014، ظهرت (عصابات الغشّ الالكترونيّ) وتعدّدت أوكارها وازدهر نشاطها لتزيد طين مناظرة البكّالوريا بلّة، ناهيك وأنّ وزارة التّربية رفعت السّنة الفارطة وحدها 25 قضيّة جزائيّة ضدّ هذه الشّبكات الإجراميّة، ما أجبر السّلطة على الانخراط في الإطاحة بها بالتنّسيق بين الوزارة المعنيّة وتكنولوجيا الاتّصال والدّاخليّة والدّيوانة..هذا التطوّر المافيوزيّ الإجراميّ الخطير في أشكال الغشّ اضطرّ وزارة التّربية إلى تكوين خليّة أزمة للتّفكير في تحديث وسائل وأساليب التصدّي للظّاهرة مواكبة لهذه المستجدّات، وقد تمخّضت جلساتها عن جملة من الإجراءات الوقائيّة الردعيّة من قبيل: عزل الشّبكة داخل المؤسّسات التربويّة بأجهزة التّشويش واستكشاف الهواتف والحاسبات المتطوّرة..منع استعمال الهواتف النقّالة والسّاعات الرقميّة والأقلام الإلكترونيّة داخل مراكز الامتحان يستوي في ذلك التّلاميذ وإطار الإشراف..تحجير اصطحاب أو استعمال الحوامل والأجهزة الإلكترونيّة والتّجهيزات الخصوصيّة المعتمدة في الغشّ الإلكترونيّ (كيت ـ سمّاعات ـ أسلاك..)..حرمان المتلبّس بفعل الغشّ من اجتياز المناظرة من سنة إلى خمس سنوات مع إمكانيّة رفع دعوى قضائيّة في حقّه..إلاّ أنّ هذه الإجراءات ـ على صرامتها وجذريّتها ـ لم تحل دون استمرار الظّاهرة وتكريسها: فقد ثبت أنّ أجهزة التّشويش داخل مراكز الامتحانات والحراسة المشدّدة المضروبة عليها فاعليّتها جزئيّة ومحدودة، ناهيك وأنّها لم تمنع من تسريب امتحان الفلسفة شعبة الآداب على الفايسبوك بعد 14 دقيقة فقط من انطلاقه (؟؟)، كما أنّ الوفاق الإجراميّ للغشّ قد توسّع وانتعش في كنف الحملة الأمنيّة والقضائيّة، ودونك الشبكة التي أطيح بها في قفصة نهاية ماي المنصرم، أي قبيل الدّورة الحاليّة بأيّام، (ولّي يسرق يغلب إلّي يحاحي).. 

تطبيع مع الغشّ 

إنّ الغشّ في مناظرة بحجم البكّالوريا جريمة مضاعفة مركّبة ظلمات بعضها فوق بعض: فهي تمكّن غير المؤهّلين علميّا من الالتحاق بالتّعليم العالي، وتحرم المؤهّلين من اختصاصات جامعيّة، وتُفقد الشّهائد العلميّة قيمتها، وتساهم في تردّي مستوى التّعليم في البلاد بما ينعكس سلبا على تكوين الكفاءات المستقبليّة في جميع الاختصاصات..هذه الظّاهرة الجريمة تتقاطع فيها عوامل عديدة تتعلّق بطبيعة المنظومة التربويّة والمنظومة الأخلاقيّة القيميّة للمجتمع التونسيّ ككلّ: فممّا لا شكّ فيه أنّ شعار (من طلب العُلى سهر الليالي) قد انهار وفسح المجال لثقافة الغشّ، كما فقد المعلّم هيبته ومكانته وفقد العلم قيمته الرمزيّة واستحال مجرّد وسيلة للحصول على وظيفة..فالتّطبيع مع الغش تجاوز التلاميذ بلامبالاتهم واستهتارهم، ليشقّ طريقه نحو العائلة التي أصبحت لا تتورّع عن توفير تكاليف الغشّ الإلكترونيّ لابنها (قرابة الألفي دينار)..وفي الواقع فإنّ هذا المستنقع الذي تردّت فيه مناظرة البكّالوريا هو ثمرة مسمومة لسياسة تربويّة خاطئة ـ أساسا وغاية ومنهجا ـ فُرضت على الأمّة من طرف الكافر المستعمر لمحاربة الثّقافة الإسلاميّة ومسخ النّاشئة وتغريبها وتكريس تبعيّتها وتعطيل قدراتها والحيلولة دون نهضتها..وطبيعيّ أن تكون المنظومة التربويّة برمّتها من جنس تلك الغاية الدّنيئة: فقد وُضعت البرامج على أساس فصل الدّين عن الحياة وخضع المحتوى الدراسيّ لعلمنة مشطّة محاربة لأدنى نفس إسلاميّ، أمّا المنهج فعقيم لا يُحدث نهضة ولا يصنع شخصيّة مبدئيّة، فهو قائم على التّلقين والاسترجاع دون إعمال عقل معزول عن السّند العقائديّ والنّاحية العمليّة..وهكذا منظومة لا تنمّي ملكة التّفكير ولا تنتج شخصيّات إسلاميّة مبدئيّة ولا تصنع رجال دولة، بل تكرّس شخصيّات انتهازيّة براغماتيّة مكيافليّة تقدّس القيمة الماديّة، ديدنها المنفعة والمصلحة والإغراق في المتع واللذّات، فلا ترى في الشّهادة العلميّة إلاّ جوازا نحو وظيفة مريحة ومرتّب سخيّ..فما ضرّ لو تحصّلنا عليها بالغشّ..؟؟ والغاية الدّنيئة تبرّر الوسيلة الوضيعة..

أ, بسام فرحات

CATEGORIES
Share This