مدخل لفهم ما يجري في لبنان
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
هذا فصل من كتاب صدر بتاريخ 02/2020م عنوانه: “دولة الفلك: دراسة مقارنة بين النموذج التركي والنموذج الإيراني”، ننشره كمدخل لفهم الأحداث الجارية الآن في لبنان بعد الانفجار الضخم الذي حصل في بيروت:
مستقبل العلاقات الأمريكية/الإيرانية
إذا أردنا الحديث عن مستقبل العلاقات الأمريكية الإيرانية، فعلينا البدء بسؤال يتعلّق بالشأن الداخلي الإيراني، وهو: ما هي المصلحة القومية الحيوية أو العليا أو الرئيسية التي حدّدها النظام؟
أجبنا من قبل على هذا السؤال ببيان أنّ المصلحة القومية الحيوية لإيران أيديولوجية واقتصادية، ولكنّنا قيّدنا ذلك بقولنا: “بناء على الواقع الحالي”، وهذا يفتح المجال لاحتمال تغيّر المصلحة مستقبلا؛ وهو أمر يتوقف على نتيجة الصراع الداخلي في أجهزة السلطة والحكم والسياسة في إيران، كما يتوقّف على موقف الدولة التي تدور إيران في فلكها أي أمريكا.
بالنسبة للواقع الداخلي لإيران، فقد بدأ الصراع منذ سقوط الشاه وانغماس إيران في حربها مع العراق؛ “فقد زاد اعتداء صدام وعزلة إيران من حدّة التحولات في السياسة الخارجية الإيرانية – في سلوكها وليس في خطابها – بعيدا عن الأيديولوجية ونحو النهج العملي والمنفعة الذاتية…”.(1) ثمّ برز الصراع بشكل آخر حين أثيرت مسألة خلافة الخميني؛ فكان الصدام بين تيّارين (2): “تيار الثورة” بزعامة آية الله العظمى حسين علي منتظري (ت 2009م) الذي كان يتبنى فكرة تصدير الثورة، و”تيار الدولة” بزعامة علي أكبر هاشمي رافسنجاني (ت 2017م) الذي كان يعارض الفكرة، وانتهى الصراع بإقصاء منتظري.
وبعد انتهاء الحرب مع العراق التي أنهكت إيران، “أدرك النظام الإيراني أنّ سياسته فشلت؛ أدّى الجدال الدائر إلى انقسام إيران بين معسكرين: فمن ناحية، جادل الثوريون المتشدّدون بأنّ إيران ضعيفة وبحاجة إلى تسليح نفسها من جديد للدفاع عن الثورة. وجادل المعسكر الثاني، بقيادة هاشمي رفسنجاني الذي أصبح رئيسا للبلاد في العام 1989 بأنه يتعيّن على إيران الخروج من عزلتها الدولية وأنه ينبغي إعطاء الأولوية لإعادة بناء اقتصادها على أن يعاد بناء الجيش بالتدريج”.(3) وقد قال رفسنجاني سنة 1989 بمناسبة توليه منصبه: “أن الزمن القادم هو زمن التنمية والإصلاح الاقتصادي، وبناء الدولة العصرية، زمن العمل الدؤوب الذي لا يكتفي بالشعارات”. وقابله علي خامنئي بموقف مخالف في بيان له بعد تولي منصب المرشد الأعلى “في 8 حزيران/يونيو 1989 والذي أكّد فيه استمراره على نهج وخطى السيد الخميني وتعاليمه وتعهد بتطبيقها بحذافيرها”(4)، ليستمّر صراع بين المؤسستين لفترة من الزمن.
وفي الواقع الحالي، لازلنا نشهد هذا الصراع بين تيّارين أو مؤسستين؛ تيّار/مؤسسة مرشد الثورة علي خامنئي، وتيّار/مؤسسة الرئيس حسن روحاني. ويبرز هذا الصراع في أشكال مختلفة منها شكل مقترحات إعادة هندسة العلاقة بين مؤسستي المرشد والرئاسة لتحديد الصلاحيات وإعادة النظر في هيكلية نظام الحكم الإيراني. فـ”بعدما فشل روحاني في انتزاع صلاحيات تمكّنه من مواجهة الأزمة [الاقتصادية والسياسية التي تمرّ بها إيران حاليا]، اقترح على المرشد أن يدير الحرب الاقتصادية التي تتعرّض لها إيران بنفسه، وأضاف: (لقد قلت للمرشد علي خامنئي إنّ الوضع الذي تعيشه إيران شبيه بظروف الحرب، ولأن البلاد تحتاج إلى قائد يقود هذه الحرب فإنني أقترح أن تقودها أنت؛ كونك قائدا للنظام والثورة، وإنّ كلّ المسؤولين سيكونون تحت قيادتك….). هذه الدعوة تحمل في طيّاتها اعتراضا غير مباشر من جانب الرئيس روحاني على المرشد الذي يستأثر بصلاحيات تحدّ من حركة الرئيس… جدّد الرئيس روحاني في مايو 2019 مطالبه للمرشد بمنحه قدرا من الصلاحيات… عقب مطالبة روحاني بزيادة صلاحياته وجّه 14 ناشطا بيانا طالبوا فيه باستقالة المرشد وتغيير الدستور…”.(5)
ومن المعلوم المتفق عليه بين المعتنين بالشأن السياسي الإيراني أنّ خامنئي يصنّف كمتشدّد، وروحاني يصنّف كمعتدل. ومعنى التشدّد والاعتدال لا يتعلّق بالتعامل مع أمريكا، فكلاهما يقول بذلك، وإن أسماه خامنئي بـ”المرونة البطولية”، وإنّما يتعلّق مفهوم التشدّد والاعتدال بمسألة التركيز على أيديولوجيا الدولة الشيعية/الفارسية أي إظهار تشيّعها والعمل على نشر المذهب (وفق فكرة ولاية الفقيه) وتثبيته في مناطق النفوذ كهدف من أهداف السياسة الخارجية الإيرانية، الأمر الذي يخلق لها مشاكل مع أمريكا نفسها التي سمحت لها بالعمل في مناطق نفوذها كالعراق، بل مع المنتمين إلى الطائفة الشيعة نفسها ممن يرفضون ولاية الفقيه كأتباع مدرسة السيستاني في العراق، وكذلك مع أغلب الدول التي في إقليمها؛ إذ إنّ الصورة الطائفية عن إيران الفارسية/الشيعية التي تأكّدت بسلوكها في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن استقرت في الأذهان وأصبحت علامة مميّزة لها ساهمت بشكل كبير في توتّر علاقاتها مع الدول “السنّية” خاصة، وعزلها إقليميا وإضعافها اقتصاديا، مما انعكس على داخلها فأفرز قلقا فجّر احتجاجات في آخر سنة 2019م (استمرت بعد مقتل سليماني) رفعت فيها شعارات ضدّ مرشد الثورة علي خامنئي.
وللعلم، فقد كانت إيران بإذن من المرشد نفسه علي خامنئي على وشك التخلّي عن أهدافها الأيديولوجية في سياستها الخارجية حفاظا على نظام الملالي أو نظام ولاية الفقيه، ولكنّ العنجهية والنفعية الأمريكية مكّنتاها من الاستمرار في نهجها بل في زيادة عنفوانه وتحقيق أهدافها. فقد كانت خطّة إدارة بوش الابن (وأقطابها هم: بول وولفوفيتز ودونالد رامسفيلد وديك تشيني) قائمة على مشروع “القرن الأمريكي الجديد” الذي يهدف إلى تفرّد أمريكا بقيادة العالم ولو بالقوة العسكرية، مما يعني أنها ستعمل على “تغيير الأنظمة غير المرغوب فيها”. وهكذا أسقطت نظام طالبان في أفغانستان (سنة 2001م)، ثمّ نظام صدام في العراق (سنة 2003م) الذي تهاوى بسرعة عجيبة بثّت الرعب في ساسة إيران. “فبعد أن رأى الإيرانيون أنّ بقاء النظام الإيراني نفسه بات على المحك، وضعوا كلّ شيء على الطاولة، حزب الله، والصراع الإسرائيلي الفلسطيني بما في ذلك حماس والجهاد الإسلامي، والبرنامج النووي الإيراني. أعدّ الإيرانيون اقتراحا شاملا بيّن حدود صفقة ضخمة محتملة بين البلدين تعالج كافة نقاط النزاع بينهما. كتب صادق خرازي، نجل شقيق وزير الخارجية الإيراني وسفير إيران لدى فرنسا، المسودة الأولى للاقتراح، ثم رفعت المسودة إلى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية للمصادقة عليها، والذي طلب بدوره من ظريف – السفير لدى الأمم المتحدة – مراجعتها قبل إرسالها إلى الأمريكيين، ووضع اللمسات الأخيرة عليها. لم يكن على علم بهذا الاقتراح ويشارك في إعداده سوى دائرة مغلقة من صنّاع القرار بطهران؛ وزير الخارجية كمال خرازي، والرئيس محمد خاتمي، والسفير لدى الأمم المتحدة ظريف، والسفير لدى فرنسا خرازي، والمرشد الأعلى للثورة علي خامنئي، بالإضافة إلى ذلك أجرى الإيرانيون مشاورات مع تيم غالديمان السفير السويسري لدى إيران، والذي كان سيسلم الاقتراح في النهاية إلى واشنطن. أذهل الاقتراح الأمريكيين، فهو لم يكن اقتراحا رسميا وحسب – على اعتبار أنه حصل على موافقة المرشد الأعلى – بل إنّ ما تضمنه من بنود كان مدهشا أيضا. يقول فينت ليفريت الذي خدم كمدير رفيع في شؤون الشرق الأوسط لدى مجلس الأمن القومي حينها: (اعترف الإيرانيون بان أسلحة الدمار الشامل ودعم الإرهاب قضيتان هامتان بالنسبة لهم، وأنهم على استعداد للتفاوض عليهما. لقد حظيت الرسالة بموافقة كافة المستويات العليا للسلطة)… في حوار حول الاحترام المتبادل، عرض الإيرانيون وقف دعمهم لحماس والجهاد الإسلامي… والضغط على المجموعتين لكي توقفا هجماتهما على إسرائيل، وفيما يتعلّق بحزب الله وليد أفكار إيران وشريكها الأكثر جدارة بالاعتماد عليه في العالم العربي، عرض رجال الدين دعم عملية نزع سلاحه وتحويله إلى حزب سياسي صرف. وفي الموضوع النووي عرض الاقتراح فتح البرنامج النووي الإيراني بالكامل أمام عمليات تفتيش دولية غير مقيدة من أجل إزالة أية مخاوف من برامج التسلح الإيرانية… في الموضوع العراقي، ستعمل إيران بنشاط مع الولايات المتحدة على دعم الاستقرار السياسي وإقامة مؤسسة ديمقراطية، والأهم من ذلك تشكيل حكومة غير دينية. ربما كان البند الأكثر إثارة للدهشة، ذلك المتعلق بعرض إيران القبول بإعلان بيروت الصادر عن القمة العربية؛ أي خطة السلام التي أعلنها ولي العهد السعودي في مارس/آذار 2002 والتي عرض العرب بموجبها إبرام سلام جماعي مع إسرائيل، مقابل موافقة إسرائيل على الانسحاب من كافة الأراضي المحتلة والقبول بدولة فلسطينية بالكامل، والتوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين. من خلال هذه الخطوة، ستعترف إيران رسميا بالحل القائم على دولتين…”.(6)
هذه هي دولة إيران على حقيقتها، فهي مستعدّة لبيع كلّ شيء من أجل المحافظة على “نظام الملالي”. والسؤال الآن كيف كان ردّ أمريكا على عرض إيران؟