حدّث أبو ذرّ التونسي قال: على وقع زيارة الرّئيس الفرنسي (ماكرون)، مرّت بنا هذه الأيّام الذّكرى الستّون لأحداث ساقية سيدي يوسف الدّموية الأليمة ـ باهتة باردة خجولة ـ في ظلّ لامبالاة رسميّة وذهول شعبي ونفاق نخبوي يكاد يتحسّر على الاستعمار ويترحّم على أيّامه ويستدعيه للعودة ويستعديه على البلاد وأهلها…فبتاريخ 08 فيفري 1958 عمد الطّيران الفرنسي المرابط بالمستعمرة الجزائريّة إلى الإغارة على قرية السّاقية الحدوديّة وقصفها بوحشيّة وهي في غمرة سوقها الأسبوعيّة المكتظة باللاّجئين الجزائريّين، مقترفًا مذبحة بشعة مشينة في حقّ المدنيّين العُزّل من الشّعبين الشّقيقين نساءً وأطفالاً وشيوخًا وعُجَّزًا…هذه الملحمة التّاريخيّة المشرّفة حَبَّر فيها الشّعب التونسي المجاهد بدمائه الطّاهرة الزّكية صفحة من أروع وأنصع صحائف التّكافل والتّآزر والتّضامن والنّصرة: فقد تعانقت خلالها جثث التّونسيّين والجزائريّين واختلطت أشلاؤهم وامتزجت دماؤهم مؤشِّرةً على وحدة الإرادة وتلازم المصير والقدر المشترك…ولسنا هنا في مقام المِنّة أو التّبجح أو الرّياء والسُّمعة، فهذا موقف مبدئي فرضته علينا العقيدة الإسلاميّة على سبيل الواجب، وهو ليس بجديد ولا غريب على تونس القيروان والزّيتونة، فلطالما مثّلت عبر تاريخها حضن المسلمين الدّافئ وأرض الرّباط والنّصرة ومنجم المجاهدين والشّهداء…وحسبنا فيما يلي أن نستنقذ أحداث السّاقية من الإطار الوطني العفن الذي حُشرت فيه وأن نقرأها قراءة سياسيّة تستنطق أحداثها الدّامية في غمرة الصّراع الدّولي على تركة فرنسا الاستعمارية بين القوّتين العُظميين بريطانيا والولايات المتّحدة،هذا الصّراع الشّرس الذي اتّخذ من الأراضي التّونسية حلبةً لهُ، ومن الشعب التونسي رصيدًا بشريًّا لتسديد فاتورته الدّموية الباهظة الثّقيلة .
السّياق السّياسي
إنّ أحداث ساقية سيدي يوسف لا يمكن أن تُفهم وتُبرّر بمعزل عن سياقها السّياسي: فقد مرّت منطقة شمال إفريقيا بعد الحرب العالميّة الثانية بمرحلة دقيقة وحرجة من تاريخها المتقلّب شهدت خلالها نقلة نوعيّة في أوضاعها السّياسية من حيث طبيعة العمالة وجهة الولاء في ظلّ إرساء قواعد جديدة للصّراع الدّولي وأشكال مستحدثة للاستعمار…فقد سعت الدّول المنتصرة في الحرب إلى وراثة مستعمرات الدّول المنهزمة واستبدال الاستعمار العسكري السّافر بآخر سياسي مقنّع، ولإرغام المحتلّ القديم على المغادرة والإخلاء سنّت تلك الدّول ترسانة تشريعيّة دوليّة (تصفية الإرث الاستعماري ـ حقّ الشعوب في تقرير مصيرها…) ودعّمتها بأجواء حربيّة عسكريّة ميدانيّة (افتعال الثّورات أو ركوبها وتسليحها وتوظيفها) كما طوّعت لها الهياكل الدّولية والإقليميّة (الأمم المتّحدة ـ الحلف الأطلسي ـ دول عدم الانحياز ـ جامعة الدّول العربيّة…) لدعمها ومساندتها ترويجًا وتجييشًا وشرعنةً…هذا الحراك العسكري السّياسي الدبلوماسي مثّل مناخًا ملائمًا لصراع دولي ظاهر سافر أو خفي مُقنّع حوّل تلك المستعمرات إلى ساحات حرب باردة أو فعليّة ترتع فيها الجيوش والمخابرات والعملاء وتتقاطع فيها المشاريع المسمومة المستهدفة للبلاد والعباد…كما اتّخذ من شعوبها ومقدّراتها وقود احتراب بالوكالة بين بريطانيا الامبراطوريّة العجوز الماكرة التي تقاتل إلى آخر جندي فرنسي، وأمريكا القوّة العظمى النّاشئة المغرورة العازمة على الاستفراد بالموقف الدّولي ومقدّرات الشّعوب عنوةً واقتدارًا، هذا دون أن ننسى المستعمر الأصلي الذي قد يتعنّت أو يُوظّف أو يشارك في نصيب من الكعكة…من هذا المنطلق فإنّ أمريكا و بريطانيا تشتركان في الضّغط على المستعمر القديم ولكن لكلّ أدواته وآليّاته وأساليبه ورجالاته ومشاريعه، وكلٌّ يطمع في أن يكون الوريث الشّرعي، فلمن ستكون الغلبة في شمال إفريقيا..؟؟
الصّراع على الجزائر
هذا على المستوى النّظري كتوجّه دولي عامّ وخطّ سياسي عريض ميّز مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية…أمّ على المستوى التطبيقي المترجم بأعمال ماديّة ميدانيّة في شمال إفريقيا، فقد أبدت فرنسا بعض اللّيونة في إخلاء جزء من مستعمراتها على غرار تونس والمغرب سنة 1956، وقد عاد امتياز وراثتها فيهما إلى الإمبراطوريّة التي لا تغيب عنها الشّمس صاحبة التّقاليد السّياسية العريقة في إخضاع الشّعوب والسّيطرة على مقدّراتها: فقد أرست في كلا البلدين حزبين سياسيّين كبيرين موالين لها (حزب الدّستور وحزب الاستقلال) وخاضت بهما معركة (الاستقلال) عن فرنسا، ثمّ جعلت الوسط السّياسي فيهما حكرًا عليها وأثّثته بطبقة سياسيّة من أخلص عملائها وبذلك أوصدته أمام (العمّ سام) بحيث فشل في إيجاد ثلمة يتسّلل من خلالها إلاّ من بعض المحاولات المحتشمة (بن يوسف في تونس)…. أمّا الوضع في الجزائر فيختلف كليًّا: فهي بيضة القبّان في شمال إفريقيا تمثّل ثقلاً مركّبًا ـ استراتيجيًّا وجغرافيًّا وبشريًّا واقتصاديًّا ـ بحيث أنّ من يسيطر عليها يتحكّم في المنطقة بأكملها ويستأثر بخيراتها ويرنو إلى جنوب الصّحراء بكلّ ثقة…لذلك فقد احتدم الصّراع حولها واتّخذ شكلاً أكثر تعقيدًا ودمويّةً: فتمسّكت بها فرنسا واستماتت في الدّفاع عن وجودها فيها لاسيما مع الضّغوطات الدّاخلية للجيش و (الأقدام السّود)…وقابلتها بريطانيا بكامل ثقلها السّياسي والدّبلوماسي والعسكري باعتبارها قاطرة نفوذها جنوب المتوسّط… كما أظهرت الولايات المتّحدة حيالها من الاهتمام والجديّة والندّية والحنكة في المناكفة ما يؤهّلها لأن تكون مدخلاً لها إلى القارّة الإفريقيّة…وبالمحصّلة فإنّ أطراف الصّراع حول الجزائر بعد الحرب العالميّة الثانية ثلاثة متّفقين في الغاية مختلفين في كيفيّة تحقيقها: أوّلاً: فرنسا بصفتها متحوّزة وصاحبة الأسبقيّة التّاريخيّة وهي تعتمد على القوّة العسكريّة الغاشمة في قمع الشّعب الجزائري مستخفّةً بالقرارات الأمميّة مستغلّة الدّعم الأمريكي دبلوماسيًّا (هيئة الأمم) وعسكريًّا (الحلف الأطلسي)… ثانيًا: الولايات المتّحدة بصفتها قوّةً عظمى مخلّصة للعالم من النّازية وحاميته من المدّ الشيوعي، وهي تتمترس خلف فرنسا تساندها ماديًّا ومعنويًّا وتدفع بها لمواجهة بريطانيا وعرقلتها حتّى يستوي مشروعها القومي النّاصري القادم على مهل من مصر…ثالثًا: بريطانيا بصفتها صاحبة الامتياز الأولى في شمال إفريقيا والمسيطرة على أوساطه السّياسية، وهي تعتمد على المواجهة العسكريّة المباشرة ضدّ فرنسا عن طريق صنيعتها جبهة التّحرير، وخاصّةً على القاعدتين الخلفيّتين المحرّرتين (تونس والمغرب) في توفير الدّعم اللّوجستي والقيادة والتّدريب، كما تعتمد أيضًا إلى تدويل القضيّة الجزائريّة لإخراجها من الكمّاشة الفرنسيّة الأمريكيّة والاستفراد بها…
إرهاصات العدوان
أمام وحشيّة القمع الفرنسي للثّورة الجزائريّة المزكّى بضوء أخضر أمريكي، يتأكّد الدّور الحيوي والأساسي للقواعد الخلفيّة المحرّرة الآمنة في فكّ الحصار المضروب على جبهة التّحرير في الدّاخل وتخفيف الضّغط على الثّورة والثوّار، لاسيّما وأنّها كانت مبثوثة على طول الحدود الغربيّة والشّرقيّة في تخوم القطرين المغربي والتّونسي…ومن أشهر القواعد على الأراضي التّونسية وأهمّها لوجستيًّا وأكثرها فعاليّةً في العمليّات القتاليّة نذكر منطقة ساقية سيدي يوسف الحدوديّة: إذ تقع السّاقية على الطّريق المؤدّية من مدينة سوق أهراس الجزائريّة إلى مدينة الكاف التّونسيّة وهي قريبة جدًّا من مدينة (الحدادة) الجزائريّة، وبذلك شكّلت منطقة استراتيجيّة لوحدات جيش التّحرير المتواجدة على الحدود الشّرقيّة يستخدمها كقاعدة خلفيّة للعلاج واستقبال الجرحى وملجأ للفارّين من الاضطهاد والمذابح…وكان يوجد قرب السّاقية منجم رصاص قديم مهجور اتّخذه المجاهدون مقرّ قيادة واستخدموه للتدرّب والاختباء وشنّ الغارات على وحدات الجيش الفرنسي…كما اعتُمدت السّاقية كقاعدة خلفيّة لتزويد جيش التّحرير بالذّخيرة والأسلحة وكثكنة لإيواء ما يزيد عن 15 ألف جندي فضلاً عن مئات الآلاف من المدنيّين اللاّجئين…وقد سدّد الثوّار الجزائريّون ضربات عديدة موجعة لجيش العدوّ من حصنهم المنيع بالسّاقية، ممّا اضطرّ السّلطات الاستعماريّة إلى تطويق الحدود الشّرقية بين البلدين بواسطة خطّي (شال وموريس)، لكنّهما عجزا عن كبح جماح الثوّار الأشاوس إلى أن كانت معركة (واسط) البطوليّة: ففي 11 جانفي 1958 شنّ الفيلق الثّالث المتكوّن من 300 مجاهد هجومًا دمويًّا على كتيبة من الجيش الفرنسي أدّى إلى مقتل 16 جنديًّا وأسر أربعة آخرين، فكان هذا آخر مسمار في نعش السّاقية الشّهيدة…
حيثيّات العدوان
مع تصاعد العمليّات العسكريّة من قاعدة السّاقية وعلى طول الحدود التّونسية وعجز الجيش الفرنسي وتحصيناته عن وضع حدّ لها، اضطرّت السّلطات الفرنسيّة تحت ضغط القيادات العسكريّة إلى اعتماد أسلوب جديد للقضاء على معاقل الثوّار الجزائريّين…فاستصدرت قيادة قطاع قسنطينة بتاريخ 10 جانفي 1957 قانون (حقّ الملاحقة) الذي يخوّل لقوّاتها مطاردة الثوّار بالتّراب التّونسي، وكان ذلك بمثابة الضّوء الأخضر لمذبحة السّاقية…لقد عمد الجيش الفرنسي مدفوعًا بحقده الأعمى وبرغبته الجامحة في الإيذاء والانتقام إلى تخيّر الظروف التي تضمن سقوط أكبر عدد ممكن من القتلى: فقد كان يوم السّبت 08 فيفري 1958 موعد السّوق الأسبوعيّة للقرية حيث يتجمّع الأهالي من الأرياف المجاورة لقضاء شؤونهم، كما كان ذلك اليوم أيضًا موعدًا لتوزيع المعونات على اللاّجئين الجزائريّين الذين تقاطروا من كلّ حدب وصوب…وكان التّوقيت أيضًا مدروسًا بدقّة: ففي الحادية عشرة تكون السّوق على أشدّها واللاّجئون في ذرة تجمّعهم والتّلاميذ محشورين في فصولهم والموظّفون خلف مكاتبهم والمصالح مكتظة بالنّاس…إلى هذا الحدّ اكتملت مقوّمات المذبحة، فداهم القرية سرب من 26 طائرة وأمطرها ـ بمن فيها وما عليها ـ بوابل من القنابل والحمم مستهدفًا المدارس والمنشآت العموميّة والمنازل، فيما كانت المطاردات تلاحق المدنيّين في شبه (هولوكوست) جماعي تواصل لساعة ونصف وحوّل القرية إلى خراب ودمار يفوح برائحة الموت: فحسب بيان سفارة فرنسا بلغ عدد القتلى 130 والجرحى 400 بينهم 11 إمرأة و20 طفلاً تلميذًا وعون جمارك إلى جانب تدمير كلّي لمختلف المرافق الحيويّة في القرية لم تسلم منه حتّى سيّارات الصّليب الأحمر والهلال الأحمر والعديد من المباني العموميّة والخاصّة (المعتمديّة ـ مركز الحرس ـ مركز الجمارك ـ إدارة البريد ـ مدرستان ابتدائيّتان ـ إدارة الغابات ـ إدارة المناجم ـ 130 مسكنًا ـ 85 متجرًا…) وهي كلُّها في عرف الجيش الفرنسي (أهداف عسكريّة مشروعة)…
تداعيات العدوان
هذه الضّريبة الدّموية الثقيلة التي سدّدها الشعبان الشقيقان التونسي والجزائري هي بالمنطق الاستعماري المتخشّب (ضروريّة لتلبية المطامع البريطانيّة في المنطقة): لذلك فقد استثمرتها بريطانيا لشيطنة المستعمر الفرنسي وإحراج أمريكا وتدويل القضيّة الجزائريّة وفكّ الطّوق الأمريكي الفرنسي عنها…كما اعتمدتها لتأجيج استنكار المجتمع الدّولي ضدّ الإجرام الفرنسي واستدرار عطفه على عملائها في جبهة التّحرير (الممثّل الشرعي والوحيد للشّعب الجزائري)…على هذا الأساس سعت الحكومة التونسيّة آنذاك إلى (إطلاع الرّأي العام الدّولي على فظاعة الكارثة) ودعت سفراء عديد الدّول العربيّة والأوروبيّة لمعاينة العدوان… كما طالبت بلجنة تحقيق دوليّة في الحادثة واتّخذت الإجراءات اللاّزمة لرفع شكوى ضدّ فرنسا أمام مجلس الأمن…أمّا بريطانيا فقد اعتبرت أنّ قصف السّاقية (يعطي لتونس دفعًا قويًّا في مساعيها لتدويل القضيّة الجزائريّة)…كما تجسّد (التّضامن المغاربي) بإنشاء (جبهة الدّفاع المشترك) المكوّنة من عملاء بريطانيا في المنطقة: جبهة التّحرير وحزب الاستقلال وحزب الدّستور للدفاع عن المصالح البريطانيّة ،وهكذا تُحقّق المشاريع الاستعماريّة بدماء الشعوب…