مذبحة سربرينيتشا: عيّنة دمويّة لكيفيّة تعاطي الأمم المتحدة مع قضايا المسلمين

مذبحة سربرينيتشا: عيّنة دمويّة لكيفيّة تعاطي الأمم المتحدة مع قضايا المسلمين

ممّا لا شكّ فيه أنّ الأسرة الدولية أو الجماعة الدّولية بما انبثق عنها من قانون دولي وبما تمخّض عنها من منظّمات أمميّة وإقليميّة، إنّما أُنشئت ابتداءً للمّ شمل أوروبّا النّصرانية وإيقاف الزّحف العثماني الذي أضحى يهدّد قلب القارّة العجوز (أسوار فيينّا) بما ينذر بفناء العالم المسيحي.. ومع تحقّق هذا الهدف بامتياز بسقوط الدّولة العثمانية سنة 1924، وقع توظيف ذلك النادي الأوروبي النصراني لإخضاع أيتام الدّولة الإسلاميّة وتمزيقهم ومسخهم ومحاربة عقيدتهم واستنزاف مقدّراتهم والحيلولة دون اتّحادهم مجدّدًا في كيان سياسي قائم على أساس الإسلام.. فكلّما تعلّق الأمر بقضايا المسلمين فإنّ الأسرة الدوليّة ـ دولاً ومنظّمات وقوانين ـ تنحاز غريزيًّا للطرف المقابل بصرف النّظر عن الحقّ والصّواب وسواءٌ أكان هذا الطّرف أوروبيًّا نصرانيًّا أم ما دونه من سائر الملل والنّحل، المهم ألاّ يكون القرار في صالح الإسلام والمسلمين ـ كيانات وشعوبًا وأقليّات ـ لم يشذّ عن ذلك قرار أممي واحد منذ تأسيس عصبة الأمم سنة 1919م..أمّا عسكريًّا فإنّ المنتظم الأمميّ أثناء إدارته وفضّه للنّزاعات يقوم بدور (المعدّل للتّوازن) بعقليّة (حزّة باجيّة): فإن كانت كفّة الصّراع ميدانيًّا راجحة لصالح الطّرف الإسلامي يتدخّل بكامل قوّته لفرض (الشرعيّة الدّولية) ووقف إطلاق النّار، وحظر الأسلحة والحصار الاقتصادي والمفاوضات والحلول السلميّة حتى يستعيد الطّرف المقابل أنفاسه وتنقلب الأوضاع لصالحه..أمّا إذا كانت الدّوائر دائرة على المسلمين فإنّ يده الطّولى تصاب بالشّلل وعينه الثّاقبة تصاب بالعمى ولسانه السّليط يصاب بالخرس، فيكتفي بالدّعوات الخجولة لضبط النّفس ويُسخّر نفسه لتهجير المسلمين من مناطق النّزاع بتعلّة غوثهم و إيوائهم وحمايتهم حتّى يخلو المكان للطرف الآخر كما حصل في فلسطين ،ثمّ ينتصب شاهد زور يزيّف الحقائق ويطمس معالم الجرائم ـ وقد يشارك فيها عمليًّا ـ بما يُنصف الجلاّد على الضحيّة ويشرعن له ما اغتصبه بالحديد والنار والمذابح المروّعة، ودونك ما حصل في البوسنة في تسعينات القرن المنصرم ونحن على أطلال الذكرى (25) لمذبحة سربرينيتشا الرهيبة..

صليبيّة القرن العشرين

بهذه الخلفية العقائديّة السياسية الصليبية وُجدت الأعمال الدوليّة الجماعيّة، وعلى هذا الأساس تدخّلت الأمم المتّحدة والعالم الحرّ في الصراع الدّائر في البلقان بعد تفكّك يوغوسلافيا السابقة مطلع تسعينات القرن المنصرم :فالإطار السياسي برمّته بعيد عن منطق حلّ المشاكل وليس ـ ابتداءً ـ مظنّة الحق والعدل والإنصاف والحماية لمسلمي البلقان..لقد اندلعت الحرب في البوسنة والهرسك في 17 أفريل 1992 وتواصلت إلى أواخر سنة 1995 بعد توقيع اتفاقيّة (دايتون) للسلام مسفرة عن إبادة أكثر من 350 ألف مسلم وتشريد الملايين واغتصاب آلاف الحرائر وتدمير كافّة المساجد الإسلاميّة والمعالم التاريخيّة العثمانيّة..وقد خيضت هذه الحرب ـ أهدافًا وأساليب ـ بروح صليبيّة مقيتة تؤجّجها حالة متقدّمة من الإسلاموفوبيا والكراهية الدينيّة العمياء: فعلى المستوى الشعبي اعتُبرت الحرب (ثأرًا من الغزاة الأتراك واستردادًا لأرض الأجداد)، وعلى مستوى الكنيسة الأرتدوكسية اعتُبِرت حرْبًا مقدّسة ضدّ الإسلام بوصفه (دينًا غازيًا غريبًا أجنبيًّا وافدًا لا ينتمي لا إلى البلقان ولا إلى أوروبا)، أمّا دوليًّا فقد اعتُبرت الحرب (حائلاً دون قيام دولة إسلاميّة في قلب أوروبا): ذكر الرّئيس الأمريكي الأسبق (بيل كلينتون) في مذكّراته أنّ الحلفاء الأوروبيّين يعتبرون الدّولة البوسنيّة المستقلّة (غير طبيعيّة ولا مقبولة باعتبارها دولة لشعب مسلم في قلب أوروبّا)، وأضاف أنّ البريطانيّين يتحدّثون عن (واقعيّة إقامة دولة مسيحيّة أوروبيّة من جديد في البوسنة رغم الألم المصاحب لذلك)..فلا غرابة إذن أن استجابت اتّفاقيّة (دايتون) لهذه الأضغان الصّليبيّة وكرّستها على أرض الواقع..

النّموذج الأندلسي

ولتحقيق هذا الهدف الصّليبي الوضيع من الطّبيعي أن تكون الوسائل والأساليب المعتمدة من جنسه ـ جبْنًا وخسّة وإجرامًا ـ وعلى كثرة النّماذج في تاريخه الحافل بالمذابح والمجازر، فإنّ الكافر المستعمر تخيّر أشدّها نجاعة مع الإسلام والمسلمين ألا وهو النّموذج الأندلسي هذا الذي أثمر طمس  أعظم حضارة عرفتها أوروبا في العصور الوسطى ومحو ثمانية قرون من الوجود الإسلامي فيها حتّى وكأنّه لم يكن.. أمّا آليّاته فتتمثّل في القضاء على البنية التحتيّة البشريّة والثقافيّة للكيان الإسلامي عبر المذابح الجماعيّة والقتل بالجملة على الهويّة وهدم البنى التحتيّة والمعالم والهرسلة والترويع المتواصل ثمّ التهجير الجماعي القسري بما يُفضي عمليًّا إلى تغيير الواقع العرقي والإثني والدّيموغرافي والحضاري للمنطقة..ولقد انطلق الكافر المستعمر في تنفيذ هذا النّموذج الإجرامي في البلقان المسلمة منذ أواسط القرن (19م) مع بوادر ضعف الرّجل المريض وانحلاله وتفكّكه، إذ أشعلت كلٌّ من بريطانيا وروسيا حروبًا طاحنة مدمّرة ضدّ الدّولة العثمانيّة وأثارت ضدّها شعوب البلقان ودعمتهم بالعتاد والسّلاح لطرد (المستعمر التركي)، وانطلق هذا السّيناريو الدّموي مع اليونان ثمّ توسّع ليشمل (رومانيا ـ ألبانيا ـ الجبل الأسود ـ بلغاريا ـ النمسا ـ المجرّ ـ صربيا ـ كرواتيا)..وما إن ينحسر النّفوذ العثماني عن مقاطعة حتّى تتحرّك ماكنة (الحلاقة) لتأتي على أخضر الإسلام والثقافة الإسلاميّة ويابسها بالطّمس والمحو والإلغاء، ناهيك وأنّ اليونان تحتفل سنويًّا بذكرى هدم آخر مسجد في البلاد كما أنّها أنشأت لجنة أكاديميّة لتنقية المعجم اليوناني من شوائب الألفاظ التركيّة والإسلاميّة.. أمّا من نجا من المسلمين من المذابح والمجازر فكان مصيرهم الطّرد والتهجير نحو تركيا أو الشرق الأوسط.. وهكذا مع مطلع القرن العشرين انحسر الوجود الإسلامي في البلقان وأصبح مجرّد أقليّات في البوسنة وكوسوفو فيما أوكِل أمر الألبان إلى (الرفيق أنور خوجا) ونظامه الشيوعي الاستئصالي للقضاء على آخر نفس إسلامي فيه..

سربرينيتشا الثّكلى

لقد مثّلت حرب البوسنة القذرة نموذجًا معبّرًا عن كيفيّة حلّ قضايا المسلمين من وجهة نظر المنتظم الأممي والعالم الحرّ: إخراج أضغان اليمين المتطرّف في أوروبا من الوجود بالقوّة إلى الوجود بالفعل وتحويلها إلى حقيقة ميدانيّة نهائيّة مع شرعنتها بالقانون الدولي..فلم يكتف الصّرب بنصيبهم من التركة اليوغوسلافية وطالبوا بالبوسنة والهرسك رغم أنّهم أقليّة ميكروسكوبيّة فيها، وكذلك فعل الكروات..وإزاء تمسّك المسلمين البوشناق بأرضهم وهويّتهم شنّ الصّرب حملة تطهير عرقي مسعورة كُلّلت بأفظع المجازر الجماعيّة التي عرفتها أوروبا منذ الحرب العالميّة الثانية..أمّا مسرحها الأكثر دمويّة فهو (مدينة الفضّة) سربرينيتشا وهي مدينة تقع في وادي (درينا) شمال شرق البوسنة وقد استولى الصّرب على العديد من القرى والبلدات التي تحيط بها منذ بداية الصّراع، فلجأ إليها السكّان الفارّون من البطش الصّربي ما ضاعف من عدد سكّانها من 7 آلاف إلى 37 ألفًا..حُوصرت المدينة سنتي (1993/1995) قبل أن تسقط وعانى لاجئوها الجوع والصّقيع والقصف والاعتداءات المتكرّرة إلى حدود شهر جويلية 1995: ففي الحادي عشر منه حدث المشهد الأكثر دمويّة وسوداويّة في الحرب البوسنيّة، إذ قامت قوّات صرب البوسنة بقيادة (راتكو ملاديتش) بعمليّات تطهير عرقي واسعة وممنهجة ضدّ سكّانها المسلمين تواصلت لعشرة أيّام كاملة، جرى فيها إعدام الذّكور المسلمين من كلّ الأعمار ـ أطفالاً وكهولاً وشيوخًا ـ لتجفيف منابع العرق، كما اغتُصبت النّساء المسلمات بشكل مدروس ومقصود لتغيير النسيج السكّاني للمدينة لصالح الصّرب، وقد أدّى الاغتصاب الجماعي الوحشي المتكرّر بالعديد منهنّ إلى الموت تحت نظر القوّات الأمميّة التي لم تحرّك ساكنًا لنجدتهنّ..وبالمحصّلة جرى عمليًّا تصفية كلّ الذكور فيما بين 12 إلى 77 سنة ودفنهم في مقابر جماعيّة، وتهجير جميع النّساء بعد اغتصابهنّ إلى المناطق البوشناقيّة، وقد أسفرت هذه المجزرة المروّعة عن ثمانية آلاف و372 شهيدًا مسلمًا منهم ألف جثّة غير مكتملة لم يكتف الجناة بقتل أصحابها بل قطّعوها إربًا وفرّقوا أعضاءها على مقابر جماعيّة عديدة إمعانًا في التمثيل والتّنكيل والتشفّي..

(حاميها حراميها)

نعم, يحدث هذا في قلب أوروبا في القرن العشرين وعلى مرأى ومسمع من الأمم المتّحدة والدّولة الأولى في العالم وبغطاء القانون الدولي للعالم الحرّ..فالمنتظم الأممي الذي من المفترض أن يحمي الشعوب المستضعفة ويضمن لها حقوقها تواطأ عمليًّا مع القتلة الصّرب وشاركهم في الجريمة وأعانهم على اقترافها ثمّ انتصب شاهد زور يطمس المعالم ويزيّف الحقائق وينصف الجلاّد ويزوّد جرائمه بالغطاء القانوني الشرعي: ففي أفريل 1993 وبعد أن استعصت سربرنيتشا عن القوّات الصربيّة أكثر من سنتين أعلنت الأمم المتّحدة المدينة (منطقة آمنة) تحت حماية عناصر الكتيبة الهولنديّة لقوّات حفظ السّلام المتكوّنة من 400 عنصر، وقد طلب قائد هذه الكتيبة (كيرمنس) من المدافعين المسلمين تسليم أسلحتهم مقابل ضمان أمن السكّان فانصاعوا له ولما يمثّله من (أسرة دوليّة)، إلاّ أنّه غدر بهم وأدخل الذّئاب إلى زريبتهم وسلّمهم إلى عدوّهم وتركهم يواجهون الإبادة عُزّلاً ،فلا كتيبته دافعت عنهم ولا تركتهم يدافعون عن أنفسهم :ليلة المذبحة التقى (كيرمنس) بالمجرم (راتكو ملاديتش) في مقرّ الكتيبة ،وعلى نخب كؤوس الخمر عُقِدت صفقة الجريمة (موثّقة بالصّوت والصّورة) وفجر الغد (11 جويلية 1995) بدأ التّنفيذ..فقد دخلت القوّات الصربيّة المدينة دون مقاومة وقامت بعزل الذكورعن الإناث وارتكبت المجزرة المروّعة في حقّهم دون أن تحرّك الكتيبة الهولنديّة المكلّفة نظريّا بحماية المدنيّين ساكنًا.. بل إنّ قرابة الخمسة آلاف مسلم كانوا قد التجأوا  إلى قاعدة الأمم المتّحدة في (بوتوكاري) للاحتماء بها، فقامت تلك الكتيبة بتسليمهم إلى الميليشيات الصربيّة وقايضتهم بـ (14) جنديًّا هولنديًّا من قوات حفظ السّلام كانوا أسرى لدى الصّرب، وتمّت تصفيتهم بدم بارد ،فالجندي النصراني يساوي بالمنطق الأمميّ 358 جثّة مسلمة..هذا وقد التزم (العالم الحرّ) حياد التّواطؤ والتشفّي فلم تحرّك أيّ دولة أوروبية ساكنًا بل زوّدت الصّرب بالعتاد والمحروقات والغطاء الإعلاميّ والأمميّ طيلة سنوات الحرب (لاسيما روسيا وفرنسا).. أمّا الدّولة الأولى في العالم فقد حاولت التغطية على المذبحة ومغالطة المجتمع الدّولي وصرف انتباه العالم عن مكان المجزرة والعدد الحقيقي للقتلى ،فعرضت صورًا ملتقطة بالأقمار الصّناعية تُظهر ما ادّعت أنّه مكان دفن الضّحايا حيث لم يُستخرج منه إلاّ 33 جثّة فقط..

قانون دولي (صليبي)

هذا عسكريًّا ميدانيًّا، أمّا على المستوى القانوني السياسي فقد أقرّت اتّفاقية (دايتون) للسلام بأن يحتفظ كلّ طرف بما سيطر عليه من أراض ولو بالحديد والنّار والمجازر، فكانت سربرينيتشا الشهيدة من نصيب المجرمين الصّرب.. كما تفتّق اتّفاق السلام هذا عن أغرب كيان سياسي في تاريخ البشريّة: دويلة يرأسها مجلس يتناوب على رئاسته ثلاث عرقيّات (البوشناق والكروات والصّرب) ينتخب كلٌّ منهم رئيسًا لمدّة ثمانية أشهر، كلّ هذا من أجل تذويب الهوية البوسنية الإسلاميّة والحيلولة دون وجود كيان إسلامي داخل قلعة النّصرانيّة (أوروبا).. ورغم أنّ محكمة جرائم الحرب في يوغوسلافيا ومحكمة العدل الدّولية قد أقرّتا سنة 2007 أنّ ما وقع في سربرينيتشا هو (تطهير عرقي وإبادة جماعيّة) إلاّ أنّ ذلك ظلّ حبرًا على ورق: فقد استخدمت روسيا حقّ الفيتو ضدّه وبُرّئت ساحة الدّولة الصربيّة باعتبارها (غير ضالعة ولا متواطئة ولا مساعدة في تنفيذ المجزرة ..؟؟؟) رغم أن وحدة (العقرب) التي نفّذت العمليّة كانت إلى حدود 1991 جزءًا من وزارة الداخليّة الصربيّة..أمّا جمهوريّة صرب البوسنة فقد تجاهلت القرار وأنكرت المذبحة وروّجت لروايات مغلوطة تهوّن من الحدث وتعتبر ما حصل مجرّد (جريمة) لا ترتقي إلى الإبادة أو التّطهير العرقي..كما بُرّئت ساحة الكتيبة الهولنديّة ولم تُدَن إلاّ بمقتل 300 بوسني من مجموع 08 آلاف..وفي الأثناء عمدت الولايات المتّحدة إلى الالتفاف  على قرار عودة المهجّرين البوسنيّين إلى ديارهم بأن فتحت لهم أبواب الهجرة إلى أمريكا وأوروبا فبلغ حجم النّزيف البشري السنوي قرابة 35 ألف مهاجر، وبذلك يكون جزءٌ كبير من المكوّن الدّيموغرافي للمدينة المسلمة قد ضاع إلى الأبد، ويكون قد تحقّق للعصابات الإجراميّة الصّربية ما خطّطت له وذلك بغطاء أممي وشرعية قانونيّة ومباركة دوليّة.. ولا عزاء للمسلمين..

أبو ذرّ التونسيّ (بسّام فرحات)

CATEGORIES
TAGS
Share This