مسار التصحيح: تمسح بالثورة لإخماد جذوتها
مقدمة
وصل الأستاذ قيس سعيد إلى رئاسة تونس، عبر شعار “الشعب يريد”. ظل الرئيس يتمسح بالثورة في جل خطاباته، ويذكر بأنه جاء ليحقق أهداف هذه الثورة، وأن ما حصل كان انفجارا ثوريا غير مسبوق وصعودا شاهقا في التاريخ يجب تدريسه في كبرى الجامعات… وأن فوزه بالرئاسة كان تعبيرة صادقة من تعبيرات هذه الثورة، وهذا المسار الثوري…
في المقابل، ظل نفس الرئيس يحذر من تآمر الغرف المغلقة في جنح الظلام ومن مكر الماكرين وكيد الكائدين، حتى ليظن السامع أحيانا بأنه يصارع الأشباح وخفافيش الظلام أو أنّه “دونكشوت” زمانه. إلى أن أتيحت له فرصة إطلاق مسار 25 جويلية، الذي استغل وضعية الاحتقان الشعبي ضد كامل الوسط السياسي وما سببته الحكومات السابقة من أزمات سياسية خانقة وما ميّز البرلمان من آداء عبثي هو أشبه بالتهريج السياسي.
هذه الرجّة التي عصفت بكامل المشهد السياسي السابق، والذي لفظه الشعب لفظ النواة، شكلت فرصة حقيقية ليثبت فيها الرئيس قيس سعيد، علاقته بالثورة وبأهداف الثورة وبتطلعات الثورة… ولينزل مما اعتبره في السابق كوكبا آخرا، ليعيش أخيرا بين أبناء شعبه ويستجيب لمطالبهم بعد أن أزاح الحاجز الذي كان يعترضه على ما يبدو، وهي الأحزاب السياسية المؤثثة للبرلمان.
إلا أن الإجراءات التي عقبت الإعلان عما أسماه بمسار “التصحيح” تبدو غريبة في علاقة بالثورة ومطالبها، وبسلّم أولويات الثورة، حيث تم اعتقال النائب ياسين العياري وسجنه على وجه السرعة وهرسلة نواب ائتلاف الكرامة وخاصة النائب محمد العفاس وعائلته، وتم استعمال المحكمة العسكرية في محاكمة مدنيين، وتم سجن المحامي مهدي زرقوبة أيضا بحكم قضائي من المحكمة العسكرية في قضية ما عرف بـ”غزوة المطار”، كما تعيين قيادات أمنية في وزارة الداخلية عرفت بمشاركتها في الاعتداءات على أبناء الشعب سواء في أحداث الحوض المنجمي أو في أيام الثورة، هذا فضلا عن عمليات مداهمة للبيوت وهرسلة واعتداء على صحفيين، واعتقال لشباب حزب التحرير إثر بيان للحزب يرفض التدخل الأجنبي في البلاد ويعتبره سبب كل بليّة.
وهكذا، بدأت الإجراءات تأخذ منحى هو أقرب للثأر منه إلى الثورة، وصارت البوصلة تتجه إلى أطراف بعينها، وصار استهداف الفساد انتقائيا، مقابل طمأنة رجال الأعمال وإعلان صلح جزائي معهم دون استثناء، بل تم استدعاء رئيس الجمعية المهنية التونسية للبنوك والمؤسسات المالية “محمد العقربي” ليعلن بنفسه من قصر قرطاج بأن الرئيس طمأنه فيما يتعلق برجال المال والأعمال بشكل مطلق. وإذا ما استثنينا المسرحيات الشعبوية التي استهدفت مخازن البطاطا والحديد، بدعوى محاربة الاحتكار وارتفاع الأسعار، أو سجن النائب المتورط في فساد في عقود نقل الفسفاط “لطفي علي”، فإننا لا نكاد نجد في الإجراءات التي أعلن عنها الرئيس ما له علاقة بالمطالب الشعبية اليومية فضلا عن المطالب الثورية، ما جعل الوقفات الاحتجاجية لا تتوقف حتى في ظل هذا العهد “التصحيحي”…
العناوين الثورية سر الاستمرارية
إن المتتبع لخطابات الرئيس قيس سعيد، والتي يؤكدفيها بشكل دائم ومتجدد على حرصه الشديد على تحقيق إرادة الشعب، وعلى تفانيه في خدمة الشعب والاستجابة لمطالبه، حتى لا يكاد يخلو خطاب من التذكير بذلك، ثم لمسار الأفعال والإنجازات التي يعتبر بنفسه أن أهمها على الإطلاق هو فرض التلقيح الإجباري على الناس (وهي المهمة التي فشلت فيها بقية الأحزاب السياسية)، يدرك أن تمسحه بالإرادة الشعبية وبالعناوين الثورية هو سلاح الاستمرارية، وأنه لا سبيل له للبقاء في الحكم والحفاظ على الرصيد الشعبي الذي حصل عليه، سوى بمزيد التمسح بالثورة، في استنساخ لدور جمال عبد الناصر مع شعب مصر أو معمر القذافي مع شعب ليبيا. هذا على مستوى الخطاب، أما على مستوى الفعل، فهي مسايرة لما يمليه المستعمر الفرنسي الذي ارتمى في حضنه قيس سعيد من أجل حكم بلاده وإنقاذ النظام الجمهوري العلماني وإرساء جمهورية ثالثة تقطع مع المسار وتؤسس إلى دستور وضعي جديد، وتبقي وضعية التبعية الفكرية والسياسية والاقتصادية للاستعمار الذي يعتبر “حماية” في نظر قيس سعيد…
إن ما كتبه النائب ياسين العياري إثر إطلاق هذا المسار “التصحيحي” وتأكيده على وقوف فرنسا وراء “انقلاب” قيس سعيد، كاف لاعتقاله ولفهم اتجاه بوصلة هذا المسار، حيث جاء عبر صفحته الرسمية ما يلي:
” إسمهإنقلاب عسكري ألغى الدستور، بتخطيط و تنسيق أجنبي، هدفه استباق تنامي الغضب وتوجيهه ضد جزء من السيستام الي تهرى (النهضة و باراشوكاتها الي عافتهم العباد) تدخل به تونس رسميا المحور الإماراتي مما سيسمح لفرنسا المقصاة من ليبيا بالمشاركة في كعكة إعادة الإعمار ولاستعمال شرعية الرئيس للقيام برفع الدعم و بقية “الإصلاحات الموجعة” عبر كوميسيون مالي و “حماية” غير معلنة و يجب أن لا تتم لا اعتقالات ولا محاسبات و لا تغيير يتجاوز جماعة الكرامة و عبير : إدارة بايدن لا تريد دماء و غلق التلافز و المحاكمات يحرجها و رأس المال ” الوطني” هو كمبرادور محمي”. انتهى.
يبدو إذن، أن المقيم العام الفرنسي، هو من يضع أولويات المرحلة، حيث تم وضع أعداء فرنسا في تونس على رأس قائمة المطلوبين لدى “العدالة” الجديدة المتسلحة بقوة الجندي وصرامة القانون وحزم قضاة المحكمة العسكرية… وهذا ما يفسر أيضا استهداف نواب ائتلاف الكرامة، وعلى رأسهم الدكتور محمد العفاس، لأن حملتهم الانتخابية قامت على استهداف النفوذ الفرنسي في تونس، وقد عمدوا إلى إحراج الرئيس عبر تقديم لائحة اعتذار لفرنسا، فاعتبر قيس سعيد أنها لائحة غير بريئة (طبعا لأنها كشفت الجهة التي ارتمى في حضنها)، وأن من يعتذر يدين نفسه، وأنه يمكن البحث عن اعتذار لكن عبر وسائل أخرى لا من خلال لائحة، مؤكدا على وجود ترابط فكري مع فرنسي وحديث عن مراجعة بعض المقاربات…
وهكذا، يمكن أن نستنتجبأن من يحرك مسار “التصحيح” من وراء ستار، هو المقيم العام الفرنسي، الذي التقى بقيادات الاتحاد ومنظمة الأعراف، وكان أول سفير يقتحم مقر وزارة الداخلية في ظل هذا المسار الجديد، الذي يرتدي عباءة الثورة ليضرب الثورة في مقتل، ويخمد كل نفس ثوري استجابة لإرادة فرنسا الاستعمارية لا إرادة الشعب التونسي، ومن كان ينتظر أن يكون للنقابات الأمنية دور وشأن يذكر، لولا حرص فرنسا على استعادة القبضة الأمنية من أجل حكم البلاد، ولذلك سارعت هذه النقابات بالثأر لنفسها، كاشفة عن وجهها، فلم تقدر على إخفاء رغبتها في الانتقام، وكانت البداية مع المحامي مهدي زرقوبة فك الله أسره.
هذا المسار الذي تباركه السعودية والإمارات ومصر، ويفتح الباب لتدخل القوى الاستعمارية الكبرى، ويجرّأ علينا أمثال وزير الخارجية اليوناني ليمارس وصايته نيابة عن دول الغرب الصليبي، ويطلب بشكل مباشر من قصر قرطاج إقصاء الدين من الحكم، هو مسار تلاعب بالثورة بل إجهاض لها، ولا يمكن مطلقا أن يكون استكمالا للثورة التي قامت ضد نظام العمالة بقيادة بن علي. ولذلك هو حريص على التخفي عبر شعارات ثورية رنانة، تبحث لمن يتغنى بها عن شرعية ضمن هذا المسار المتربص بأهل البلد وبثورتهم وثروتهم وعقيدتهم ودينهم…
إنه لا سبيل لإنهاء مسار تحكم الاستعمار في بلادنا أيا كانت جهته، إلا باتخاذ الإسلام أساسا للتغيير، وعنوانا للعمل السياسي المبدئي، فهو الوحيد القادر على دحر الأعداء وإنهاء كل أشكال التدخل الخارجي واسترجاع السيادة المفقودة واستعادة الإرادة المسلوبة، بإقامة دولة الخلافة الراشدة الموعودة. أما النظام الرئاسي والنظام البرلماني الذي يتصارع حولهما الجمعان خدمة لأسيادهم، فإنهما وجهان لعملة واحدة، هي عملة النظام الجمهوري العلماني الذي أقامه بورقيبة وحافظ عليه بن علي خدمة لمصالح النظام الرأسمالي العالمي، ضمن مسار من العمالة لا يقل خزيا وذلا ومهانة عما انخرط فيه اليوم الرئيس قيس سعيد…
إن نظام الإسلام العادل، هو الوحيد القادر على محاسبة الفاسدين قولا لا فعلا، وعلى الحكم بين المتخاصمين، دون ثأر أو ضغينة، بل بأحكام ربانية عادلة، تنصف هذا وذاك، فالعقوبات زواجر وجوابر في الإسلام. أما النظام الجمهوري، فهو أداة لانتصار وهمي قوامه الظلم، لعميل على حساب آخر، وإبقاء لحالة التبعية والارتهان وفتح الباب على مصراعيه للاستعمار. فهلا سارع العقلاء في تونس إلى الخروج من هذه الدوّامة؟
قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖوَاعْلَمُواأَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ”. صدق الله العظيم.
المهندس وسام الأطرش
CATEGORIES الجريدة الورقية