مقدمة
لم تمض أشهر قليلة على تنصيب حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا برئاسة عبد الحميد الدبيبة، والتي قيل إنها جاءت لحقن دماء الليبيين والخروج بهم من واقع الاقتتال إلى بر الأمان، حتى عاد الهرج والمرج وعاد الصراع الدموي على السلطة ليخيم على المشهد السياسي بل وصل الأمر إلى محاولة اغتيال رئيس الحكومة نفسه، وكلّه على حساب أعراض وأرواح الأبرياء من المسلمين في ليبيا.
لم يكن التخلص من تبعات احتضان ليبيا للشركات الأمنية متعددة الجنسيات وما أنشأته من عصابات وجماعات مسلحة طيلة السنوات الماضية أمرا سهلا، وإلا من كان يتصور أن يكون لشركة “فاغنر” الروسية تواجد على الأراضي الليبية لولا الضوء الأخضر الأمريكي الذي يريد حسم الأمور على الطريقة السورية التي فُرض بها بقاء بشار الأسد. بل من كان يتصور أن يصل أمثال حفتروالدبيبة وباشاغا إلى واجهة المشهد السياسي في ليبيا بعد الثورة، لولا علاقتهم الوطيدة بالقوى الغربيّة المتصارعة على ليبيا؟
وبما أنها أزمة نظام فرضه المستعمر يتغذى من واقع الفساد وغياب سلطان الإسلام ويعالج الواقع بغير ما أنزل الله سبحانه لعباده، فإن الطبيعي أن تستمر الأزمات وتتفاقم وأن ترتفع أسعار الغذاء والدواء، وأن تدخل البلاد مجددا في نفق مظلم، مادام قادة ليبيا يحنون جباههم أمام المبعوثة الأممية “ستيفاني وليامز”…
فما الحلّ للخروج من واقع الأزمات المتراكمة، والحال أن ليبيا صارت تتجاذبها حكومة في طرابلس، وأخرى في سرت، لم تنجح كلتاهما في وضع حد لأزمة الغاز والكهرباء؟
فتحي باشاغا، وعرض الخدمات على الانجليز
ربما ظن الأمريكان لوهلة، أن الأمور ستستقر لهم بإيصالهم الدبيبة إلى رأس السلطة كحل سياسي، ومتابعة المبعوثة الأممية الأمريكيّة للملف الليبي. ولكن لم تمض فترة وجيزة، حتى بادر برلمان عقيلة صالح بتعيين حكومة موازية بقيادة فتحي باشاغا، بذريعة أنّ حكومة الدبيبة قد فقدت شرعيتها منذ تاريخ 24 ديسمبر 2021 الذي حدد لقعد انتخابات “حرّة ونزيهة”…
فمنذ ترتيب وصول فتحي باشاغا إلى رئاسة الوزراء عبر اختياره من قبل البرلمان يوم 9 فيفري 2022، لم يعد باشاغا يستحي من إخفاء علاقاته ببريطانيا واستجداء دعم حكومتها له من أجل مواجهة خصومه السياسيين، ليقدم نفسه كأذل وأقذر عميل للإنجليز عرفه تاريخ شمال افريقيا، كما لم تعد تنفع جهود المبعوثة الأممية في تهدئة الأجواء واحتوائها، رغم مسارعتها بالتوسط بين الطرفين المتنازعين على السلطة منذ الأسبوع الأول لصعود فتحي باشاغا وقبل مروره إلى تشكيل الحكومة.
• فقد طالب رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب الليبي، فتحي باشاغا، القادة البريطانيين بمساعدة ليبيا على إخراج عناصر مجموعة «فاغنر» الروسية من ليبيا، معلنًا رغبته في «شراكة استراتيجية» مع بريطانيا، تقوم على الأعمال والأمن والاستخبارات المشتركة. (أخبار ليبيا 04/05/2022)
كما أوضح باشاغا في مقال نشره في جريدة «تايمز» البريطانية (بتاريخ 03/05/2022) أن ليبيا بحاجة إلى دعم بريطانيا في مواجهة التدخل الروسي، مثلما هي حاجة أوكرانيا، وقال بهذا الخصوص: «بلادي تواجه اليوم واحدة من أصعب المعارك حتى الآن. وبينما تقاتل القوات الأوكرانية روسيا بالصواريخ البريطانية، فإننا في ليبيا نخوض المعركة نفسها». مضيفا “كرئيس للوزراء، وعدت بإعادة (فاغنر) إلى وطنهم، لكني بحاجة إلى مساعدة بريطانيا. وستكون المملكة المتحدة حليفًا لا يقدر بثمن في حرب ليبيا ضد المرتزقة الأجانب”. وتابع باشاغا موجها حديثة للمسؤولين في حكومة بوريس جونسون: “أصدقائي البريطانيين، إذا كنتم تريدون أن يقاوم شريك في أفريقيا روسيا، فإن حكومتي مستعدة للعمل معكم… إنها شريككم الوحيد القادر على ذلك”.
ولم يقف الأمر عند طلب التدخل البريطاني في ليبيا بذريعة مواجهة روسيا التي دخلت بضوء أخضر أمريكي، بل راح يعرض ثروات ليبيا للبيع ويجعلها على ذمّة الانجليز، حيث قال حرفيا: «بلدي لديه كثير من الإمكانات. لدينا أكبر احتياطيات نفطية مؤكدة في أفريقيا، وبمجرد أن نعيد تشغيل المضخات، سنساعد في إبعاد العالم عن النفط الروسي». مضيفا: “يمكن أن يساعد النفط والغاز الليبي في تعويض النقص العالمي، والمساعدة في خفض أسعار الوقود في بريطانيا”. (وكأنّ بريطانيا لا تسيطر على النّفط الليبي أصلا؟؟؟) إنّما هي العمالة لتُخرج الخيانة مخرج التّعاون ولتحوّل سرقة بريطانيا للنفط الليبي إلى ملكيّة “مشروعة”
• يوم 21/06/2022، كان لفتحي باشاغا، زيارة إلى العاصمة البريطانية لندن التقى فيها بعدد من أعضاء البرلمان البريطاني في مجلس العموم البريطاني، وناقش فيها خارطة الطريق التي سينتهجها في ليبيا، بحسب تغريدة له في نفس اليوم على تويتر (الأناضول 21/06/2022) قبل أن يعود إلى أرض بلاده ويحدث أتباعه زورا وبهتانا عن حل ليبي- ليبي. وقد جاءت هذه الزيارة الخاطفة بعد يوم فقط من إعلان المستشارة الأممية بشأن ليبيا، ستيفاني وليامز، انتهاء الجولة الثالثة والأخيرة من مفاوضات اللجنة الدستورية المشتركة من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، المتعلقة بالمسار الدستوري، من دون إحراز تقدم بشأن التوافق على إطار دستوري للانتخابات.
وقد ذكرت سفيرة بريطانيا لدى ليبيا “كارولين هوريندال” تعليقا على هذه الزيارة أنه يتمتع بعلاقات واسعة في المملكة المتحدة. كيف لا وهي من أشرفت على تنظيم هذه الزيارة إثر إعلان بريطانيا افتتاح سفارتها في ليبيا رسميا في 05/06/2022 بعد إغلاق دام نحو 8 سنوات بسبب التوتر الأمني في البلاد.جاء الإعلان على لسان هذه السفيرة التي اعتبرت أن إعادة افتتاح سفارة بلادها في ليبيا ” دليل على التزام المملكة المتحدة بتواصل العمل مع الليبيين، والأمم المتحدة بهدف التوصل إلى تسوية سياسية دائمة لليبيا”.
• في 12/07/2022 أطلّ فتحي باشاغا برأسه من سرت، ليلقي كلمة مباشرة عبر تطبيقة “الزوم” على مسامع أعضاء اللجنة الخارجية بالبرلمان البريطاني، ويناشدهم التدخل لصالح حكومته ومنحها القبول والدعم. حيث اتهم باشاغا رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، بتكريس حالة الانقسام السياسي والمؤسساتي، وبإفشال استحقاق الانتخابات، وبسيطرة حكومته على العاصمة والمؤسسات السيادية فيها ورفضها تسليم السلطة، حيث قال متحدثاً عن الدبيبة: “لدينا رئيس وزراء لا يملك سيطرة على الأرض، ومع ذلك تواصل الأمم المتحدة وبعض الجهات الدولية الأخرى الفاعلة دعمه”. ثم لفت من خلال هذه الكلمة التي تعمد تصويرها في مبنى شبه منهار (في محاولة للتعبير عن حالة البلد التي تتطلب إعادة الإعمار) “عدم قدرة ليبيا على القيام بكل هذا إلا بدعم ومساندة من المجتمع الدولي”، مبدياً تطلعه إلى أن يكون الدور الأبرز من قبل المملكة المتحدة، خاصة أن كل الدول لم تأخذ موقفاً رافضاً لحكومته، وأنه يحظى بقبول العديد من الدول العربية والأوروبية، وفق قوله، بل مضيفا بأن روسيا اعترفت بحكومته وأنّه تلقى دعوات من الحكومة الروسية لزيارتهم. وحديثه عن الدول العربية، يحيلنا مباشرة إلى زيارة المسؤول الكبير البريطاني اللورد طارق أحمد إلى كل من تونس والجزائر، وإشادته بدور الجزائر في لعب دور لإعادة صياغة المنطقة ككل.
• ولم يقف الاستجداء عند هذا الحد، بل راح باشاغا يتمسح علنا على أعتاب الانجليز، حيث قال: “كان لي علاقة ممتازة ببريطانيا منذ 2011 لكن بعد أن تم اختياري رئيسًا للوزراء لاحظت أنني أطلب صداقة بريطانيا لكنها لا تريد صداقتنا”. ثم مضى يؤكد أنّ حكومته “ستعمل على توفير فرص الاستثمار وإعادة الإعمار، وهي مستعدة للتعاون والعمل مع بريطانيا في سبيل تحقيق ذلك، من خلال اتفاقية أمن الطاقة وتجارة العبور والمساعدة في التقليل من تدفق المهاجرين غير الشرعيين الذين يعبرون إلى جنوب أوروبا عبر ليبيا، وكذلك من خلال العمل مع الحلفاء، لتكون ليبيا بمثابة الحصن الإقليمي ضد الإرهاب، ولإخراج المرتزقة والقوات الأجنبية”.
******
وهكذا، نسي باشاغا تاريخه وماضيه، فهو الضابط المبعد عن جيش الطيران منذ 1993، ليتفرغ لأعمال تجارية، وليعود في 2011 لقيادة المجلس العسكري في مصراتة، ثم لاختراق قوات فجر ليبيا. بل نسي حاضره في خوض حرب العصابات في ليبيا طيلة هذه السنوات… ليقوم بنفس الدّور الذي قام به خليفة حفتر لصالح أمريكا غير أنّ باشاغا كان “جنديّا” لصالح بريطانيا
هذا الجندي الفاشل، أقر بصلاته الوثيقة بالجماعات المسلحة في مدينة مصراتة، مسقط رأسه ضمن حوار مع الغارديان البريطانية بتاريخ 02/06/2022. حيث قال باشاغا في هذا الشأن “بالطبع أعرفهم جميعا لأن بعضهم أناس طيبون وفي الحقيقة كنا نقاتل معا”، مضيفا أن هؤلاء “ليس جميعهم أشرارا ولم ينظموا أبدا هجوما عدوانيا ضد الدولة. صحيح أنهم يمتلكون أسلحة لكنهم يستخدمون السلاح حين تطلبهم الحكومة عند محاربة الإرهاب. بطبيعة الحال، لدي علاقات جيدة معهم. لأنهم دائما على استعداد للطاعة. لكن أولئك الذين يستخدمون أسلحتهم ضد الدولة لا يمكنهم الاعتماد على صداقتي”.
هذه التصريحات تعكس جوده وكرمه مع الانجليز، واستعداده لتقديم كل خدماته، في تسخير جنود ليبيا وشبابها، ولتأكيد قدرته على خدمة بريطانيا هوّن من شأن خصمه عبد الحميد الدبيبة خلال كلمته المصورة مع البرلمان البريطاني، حيث جاء فيها: “إن الدبيبة يجلس الآن في طرابلس محمياً من قبل عدد محدود من المليشيات التي يعتقد أن بعضها على صلة بجماعات إرهابية دولية، مع عودة نشاط الجماعات الإرهابية، وخاصة في الجنوب الليبي، ووجود انفلات أمني، وعودة سطوة المليشيات وابتزازها لمؤسسات الدولة واستحواذها على سلطة القرار وارتفاع مؤشر انتهاكات حقوق الإنسان”.
خاتمة
إنه قد بات واضحا بما لا يدع مجالا للشك، أن ليبيا الغنية بالثروات الطبيعية والطاقيّة تتنازعها أطراف دولية تستأجر مرتزقة للقيام بالمهام القذرة، سواء منها السياسية أو العسكرية، وأن هذا التمشي جعل من أهل ليبيا وقودا لحرب طاحنة، بل جعل من أراذل الناس ومجرمي الحرب وقادة العصابات مقدّمين على غيرهم في تزعم المشهد السياسي بما يخفيه من جرائم دمويّة بشعة، فبينما تراهن أمريكا على أمثال خليفة حفتر وعبد الحميد الدبيبة، تراهن بريطانيا على أمثال عقيلة صالح وفتحي باشاغا، لفرض ديمقراطية عرجاء باسم الحل الليبي-الليبي الذي يقوم على التوافقات المغشوشة المسمومة، لتبقى ليبيا بلد المليون حافظ لكتاب الله بين فكّي كماشة، وتغرق في مستنقع الاستقواء بالكافر المستعمر، كلّ حسب جهة عمالته، مع أن ملّة الكفر واحدة. قال سبحانه وتعالى: ” ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا “.النساء-141.
إنه لا سبيل لإنقاذ ليبيا إلا بإعادتها إلى حضن الأمة الإسلامية باستعادة سلطان الإسلام، وإخراجها من حضيرة الاستعمار، ومن التبعيّة المذلة لنفاق المجتمع الدولي ومنظماته وهيئاته الكافرة الفاجرة، تحقيقا لوعد الله وبشرى نبيّه صلى الله عليه وسلم بخلافة راشدة على منهاج النبوة.