حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال :هل حقّقت الشعوب الإسلاميّة أمجادا وملاحم تُذكر ويُعتدّ بها بعد سقوط الدّولة العثمانيّة..؟؟ هل هناك فعلا عزّة وكرامة وسؤدد ومنعة خارج إطار دولة الخلافة..؟؟ سؤال جدير بالطّرح في ظلّ هذا السيل الهادر من الأعياد والذكريات والمناسبات الوطنيّة والقوميّة الذي أمطرتنا به الكيانات الكرتونيّة المخسيّة النّابتة على أنقاض الدّولة الإسلاميّة…أمّا الإجابة عنه فهي من المعلوم من الدّين بالضّرورة ومن السياسة بالبداهة :فللّه العزّة ولرسوله وللمؤمنين ومن اعتزّ بغير الله ذلّ، كما أنّ إطار (سايكس ـ بيكو) الوطنيّ الكسيح غارق في حمأة العمالة والتبعيّة والاستعمار ومحاربة الله ورسوله بحيث لم يعد مظنّة للمجد والفخار بقدر ما أضحى موئلا للذلّ والهوان والصّغار والعار،وكلّ إناء بما فيه يرشح…فديدن الكافر المستعمر مع الشعوب المتخلّفة المنحطّة التي تنقاد بخطبة عصماء أو بزيارة فجئيّة لمسؤول أن يُجرّعها السمّ الزّعاف في الدّسم وأن يُدخلها جنّته الموهومة من باب ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب ،فتنساق له عن طواعيّة وطيب خاطر إمّا مضبوعة بثقافته الخادعة ومدنيّته الزّائفة الآسرة ،أو مُخدّرة بمسرحيّات سياسيّة مُحكمة الحبكة والإخراج تقلب لها الحقائق وتُمرّر لها المشاريع المسمومة المستهدفة لأرضها وعقيدتها ومقدّراتها في جبّة الإسلام وزحمة الحداثة والتطوّر والمصلحة الاقتصاديّة…كما تُخرج لها الهزائم المنكرة والجرائم البشعة المُقترفة في حقّها وحقّ أرضها وسيادتها وسلطانها مخرج الملاحم المُشرّفة والمحطّات التّاريخيّة الخالدة التي ترتقي إلى مصافّ المناسبات الوطنيّة والأعياد القوميّة ،فإذا بها في مفارقة عجيبة تستعمر نفسها ذاتيّا بالوكالة وتحتفي بنكساتها وانكساراتها وهزائمها وتُحييها وتتعهّدها فيما يُشبه جلد الذّات الطوعيّ…في هذا الإطار حيث تتقاطع السياسة بالتمثيل والدراما ،يحتفل النظام المصريّ هذه الأيّام مع سائر الأنظمة العربيّة المتهالكة بالذكرى الخامسة والأربعين لما اعتبروه بفخر واعتزاز (نصر 06 أكتوبر 1973 وحرب رمضان المجيدة والعبور التّاريخيّ وتحطيم خطّ بارليف…) فيما يُشبه جرعة الأكسجين للمشاعر الوطنيّة المنطفئة…وحتى لا نسقط في الأحكام المسبقة فإنّ هذه الحرب حدث تاريخيّ يقع عليه الحسّ ويمكن بالتّالي تحقيق مناطها والحكم لها أم عليها :فهل هي نصر مؤزّر للعرب والمسلمين أم هزيمة نكراء..؟؟
المأزق الإسرائيليّ
إنّ مشكلة كيان يهود ليست في القيام والوجود ـ فهذا متيسّر وقد تحقّق فعلا سنة 1948 ـ ولكنّ مأزقه الفعليّ يتمثّل في الثبات والاستمرار والدّيمومة :فالاستعمار إذا بقي جسما غريبا منبوذا لا يعترف به أصحاب الأرض فإنّ مصيره لا محالة إلى زوال مهما طال مكثه ،إذ لا يمكن أن يستقرّ له في الأرض قرار ما دام محافظا على صفته تلك ـ غازيا معتديا ـ بل يظلّ في صراع مرير مع أهلها وحروب طاحنة متواصلة فلا يتمكّن من الانتفاع حتّى يُطرد إلى حيث جاء ولو استوطن المنطقة أجيالا متعاقبة ،ودونك الصليبيوّن في المشرق…هذا الدّرس التّاريخيّ السياسيّ لم يكن ليغيب عن دهاقنة الامبرياليّة والصهيونيّة الذين فطنوا إلى أنّ المشروع الصهيونيّ على أرض فلسطين إذا تحقّق بالحديد والنّار فإنّ مآله الفشل الذّريع لأنّ المهمّ ليس اغتصاب الأرض بل الاستقرار فيها وخلق أجواء أمنيّة ملائمة للنهب والتهويد ،وإنّ الطريق الوحيدة لتحقيق ذلك هي أن تهضمهم المنطقة ويسلّم أهلها بهذا الاغتصاب ويزكّوه ويرضوا به…من هذه الزّاوية بالذّات يجب النظر إلى تاريخيّة الصّراع العربي/الصهيونيّ :زاوية ترويض الشعب الفلسطينيّ وتدجين الأمّة الإسلاميّة وإجبارهم على قبول ذاك الورم السرطانيّ المزروع في أرض المسرى والمعراج باعتماد غطرسة القوّة والأرض المحروقة المدعومة خارجيّا بالشرعيّة الدوليّة العرجاء والمُزكّاة داخليّا من طرف السماسرة والعملاء لتمرير الطبخات السياسيّة والعسكريّة وشرعنتها وتسهيل هضمها…وإنّ مُجمل الحراك بين اليهود والعرب ـ مجتمعين أو منفصلين ـ طيلة العقود السبعة المنصرمة يتنزّل بالضرورة في هذا الإطار…وعلى هذا الأساس فإنّ قرار التقسيم وتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين سنة 1948 لا يساوي المداد الذي حُبّر به ولا يُعدّ في حدّ ذاته نكبة ولا حتّى هزيمة ،لأنّ الأهمّ منه هو إمكانيّة تطبيقه على أرض الواقع أي انتزاع الاعتراف بشرعيّة ذلك الكيان من أفواه أصحاب الشأن كي يتحقّق هاجس الصهاينة المؤرّق ـ الأمن والأمان والاستقرار ـ بوصفها الأجواء الضروريّة التي ينتعش فيها المشروعان الصهيونيّ والاستعماريّ المستهدفان للمنطقة بشرا ومقدّرات ومقدّسات…
سياسة التيئيس
بعد حربي 1948 و1956 وما تخلّلهما من مجازر ومذابح وفظاعات في حقّ الشعب الفلسطينيّ الأعزل تقشعرّ منها الأبدان وتترفّع عن مثلها الوحوش في آجامها ،تبيّن ليهود بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ مسألة اندماجهم في المنطقة وقبول أهلها بهم وعيشها معهم في سلام أمر محال وحلم بعيد المنال :فجينات العرب والمسلمين قد اكتسبت مُورّثات الحقد الأعمى والبغض المقدّس للصهاينة ومن والاهم من المحلّيين والأجانب…لذلك قرّروا التخلّي مرحليّا عن (سياسة الحلاقة) كما يسمّيها سفّاح الرضّع شارون ،أي العصا الغليظة والأرض المحروقة والحرب الخاطفة المتمثّلة في الاجتياح فالتخريب والقتل الجماعيّ دون تمييز ثمّ طمس الوجود ومحو الآثار على شاكلة (دير ياسين ـ كفر قاسم..)..فهي ولئن كانت سياسة فعّالة على مستوى تحقيق المكاسب العسكريّة ميدانيّا إلاّ أنّها عقيمة على مستوى الشّرعنة والاعتراف والاستيعاب والقبول…لذلك كان من المفيد لمستقبل كيان يهود أن يستبدلها بسياية (نفساعسكريّة) مجدية في هذا الصدد وتتمثّل في إشاعة أجواء التيئيس وإحباط العزائم وتثبيط الهمم عبر إظهار إسرائيل في مظهر القوّة السّاحقة والقضاء المبرم الذي لا مهرب منه ولا فكاك ولا قدرة على مواجهته ـ لا فلسطينيّا أو مصريّا أو سوريّا فحسب ـ بل عربيّا مجتمعين ،وذلك سعيا منها إلى كسر إرادة الأمّة الإسلاميّة وفرض نفسها عليها كأمر واقع ولو على مضض…وفي الحقيقة فإنّ اليهود ومن ورائهم الكافر المستعمر قد انخرطوا في هذه السياسة جزئيّا وبالتوازي مع (الحلاقة) منذ نشأة كيانهم :فحربا 1948 و1956 كانتا أقرب إلى المسرحيّات الضعيفة الحبكة والإخراج منهما إلى الحروب الحقيقيّة ،وقعت فيهما خيانات تقشعرّ منها الأبدان (أسلحة تالفة ـ ضابط أنجليزيّ يقود الجيش الأردنيّ ـ تسليم المثلّث الجنوبيّ إلى يهود ـ قتال بين فلسطينيّين وجنود أردنيّين…)..ومن المفارقات العجيبة أنّ كلا الحربين قد جرّتا إلى تنازلات فظيعة وأوضاع أسوأ من السّابقة ،ورغم أنّ العرب قد خاضوهما متّحدين في أكثر من جيش إلاّ أنّهم انهزموا فيهما شرّ هزيمة بما نفخ في صورة الكيان اليهوديّ وأعطاه أضعاف حجمه الحقيقيّ وجعله يتبجّح بأنّ له جيشا لا يقهر…
جرعة زائدة
بعد نصر 1956 كان المطلوب إسرائيليّا هو الحفاظ على هذا المكسب الميدانيّ والمعنويّ وتدعيمه وتكريسه عبر تدويله وتوسيع نطاقه عربيّا وإسلاميّا علّه يُؤتي أكله وينتزع التركيع والتسليم والاعتراف الشعبيّ المطلوب…فكانت حرب 1967 التي خاضها العرب مجتمعين في سبعة جيوش مدفوعين بالمدّ القومي النّاصريّ المتناميّ في الشّارع العربيّ لا يخامرهم أدنى شكّ في أنّهم سيُلقون بإسرائيل في البحر قولا وفعلا ،فماذا كانت النتيجة..؟؟ نكسة وهزيمة منكرة وخيانات مقزّزة وتحطيم للطّائرات المصريّة في مرابضها وتحييد للجيوش عن المعركة قبل أن تنخرط فيها وإهانة وإذلال للجنديّ العربيّ ثمّ ابتلاع باقي فلسطين واحتلال سيناء والجولان في تهاو مدوّ للحلم القوميّ النّاصريّ الذي تشبّث العرب بتلابيبه كآخر طوق للنجاة…هذه المصيبة والكارثة والطامّة الكبرى يبدو أنّها تجاوزت في حدّتها الانتظارات الإسرائيليّة :فقد كانت لها نتائج عكسيّة في شكل جرعة زائدة (أووفر ـ دووز) من التيئيس والإحباط أدّت إلى جرح غائر في وجدان الأمّة واحتقان في الشّارع العربيّ والإسلاميّ يُنذر بفقدان السّيطرة عليه وانفجاره المدوّي الذي قد يعيد القضيّة إلى المربّع الأوّل ويرفع سقف مطالب الأمّة إلى خطّها الأحمر (الخلافة) ،فهذه المناورة العسكريّة عوض أن ترسّخ الاعتراف والقبول كرّست الرفض ووسّعته وأمدّته بشحنة عقائديّة هستيريّة خطيرة على كيان يهود وعلى الحكّام الرويبضات العملاء وعلى النفوذ الاستعماريّ عموما، فكان لا بدّ من مناورة ضديدة لامتصاصه واحتوائه وتصريفه…
وهم النّصر
كيف السبيل إلى احتواء غضب الأمّة الهادر وتصريفه وتوظيفه دون فقدان المكتسبات الميدانيّة العسكريّة والنفسيّة المعنويّة..؟؟ هذه المعادلة الصعبة لا بدّ لها من نصر مصطنع آنيّ محدود سهل الاحتواء في شكل مسرحيّة حربيّة ومناورة عسكريّة تُسوِّق وهم النصر للعرب وتُخدّر الأمّة فتنطفئ جذوتها ويخبو احتقانها وتستكين إلى الوضع المطلوب تضمّد على حسّه جراحاتها الماضية، وقد اضطلعت حرب 1973 بهذا الدّور على أحسن وجه :فقد صدّرت للعرب الإحساس بالنصر فحسب ،أمّا حيثيّات النصر وثماره فكانت من نصيب إسرائيل في مفارقة عجيبة…فقد اكتفى الصهاينة بمتابعة الهجوم على الجبهة المصريّة وتركوا الجيش المصريّ يعبر القناة ويخترق (خطّ بارليف) الذي لا يُمكن ـ نظريّا وعسكريّا ـ اختراقه بالقدرات المصريّة ،وذلك دون أن يُطلقوا رصاصة واحدة…وكان التقدّم المصريّ مدروسا لم يتجاوز النطاق المرسوم له (12 كلم) ،أمّا الفيالق التي لم تلتزم بذلك مأخوذة بنشوة الانتصار فقد قطعت عنها قيادة الجيش المدد والدعم اللّوجيستي وتخلّت عنها وتركتها لقمة سائغة للدبّابات الإسرائيليّة التي قضت عليها دهسا ودفنتها في رمال الصحراء…إلى هذا الحدّ سُوِّق وهم النصر وصُدِّر الإحساس بالنصر: فقد وقع العبور وسقطت أسطورتا (خطّ بارليف) والجندي الإسرائيليّ الذي لا يُقهر وانتشت الأمّة من المحيط إلى الخليج بخمرة هذا (الإنجاز العسكريّ العربيّ العظيم) وهذا هو المطلوب…إلى هذا الحدّ يتدخّل عملاء الأمريكان لإيقاف الزحف وقلب كفّة المعطيات لصالح اليهود وتحويل بوادر النصر إلى هزيمة منكرة :فيوم 11 أكتوبر 1967 طلب المقبور أنور السادات ووزيرُه للحربيّة أحمد إسماعيل من بطل العبور الفريق أوّل سعد الدّين الشّاذليّ تطوير الهجوم خارج منطقة حماية الدّفاع الجوّي المصريّ بما يعني تقديم الفيلقين الثّاني والثّالث هديّة للطيران الإسرائيليّ في خيانة موصوفة وجريمة نكراء…
الخيانة العظمى
ورغم رفض الفريق الشّاذلي لهذا الخطأ العسكريّ القاتل واستقالة قائديّ الجيشين الثّاني والثّالث إلاّ أنّ السّادات أصرّ على موقفه، فانقلبت الأوضاع على الجبهة المصريّة رأسًا على عقب وكانت ثغرة (الدفرسوار) بين الجيشين وقد استغلّها الجيش الإسرائيلي فحاصرهما وجعلهما تحت رحمته وتوغّل في العمق المصري إلى حدود منطقة العريش بما مكّنه من التّفاوض لوقف إطلاق النّار في موقف قوّة ليحوز على حيثيّات النّصر وثماره ويُبقي للجيش المصري ومن ورائه العرب والمسلمين وهم النّصر ومجرّد الإحساس بالنّصر…فقد أسفرت حرب أكتوبر 1973 التي تعتبرها الأنظمة العربيّة نصرًا مؤزّرًا على النّتائج التّالية ،أوّلاً: تحييد مصر قلب العرب النّابض عن الصّراع العربي الإسرائيلي بما يعنيه ذلك من ضعف واستفراد بالفلسطينيّين وسائر الأطراف العربيّة كلٌّ على حدة، ثانيًا: جعل سيناء منطقة عازلة منزوعة السّلاح ليس للمصريّين فيها أكثر ممّا لليهود، ثالثًا: تكبيل مصر بمعاهدة سلام مع إسرائيل (كامب دايفيد) بما يعنيه ذلك من اعتراف رسميّ بها كدولة قائمة الذّات، رابعًا: احتفاظ كيان يهود بهضبة الجولان ومحو مدينة القنيطرة السّورية من الوجود، خامسًا: اعتراف النّظام العربي بدولة إسرائيل على أراضي 1948 وحصر الحقّ العربي في ما احتُلَّ في 1967 فقط، سادسًا: فتح الباب على مصراعيه أمام مسارات التّسوية التّصفويّة للقضيّة الفلسطينيّة تحت غطاء (سلام الشّجعان)…وهكذا يجني المنهزم ثمار النّصر ويُكبَّلُ المنتصر بأغلال الهزيمة…