جذب انتباهي وأنا أتصفّح مشروع قانون المالية لسنة 2021م القادمة الذي أودعته الحكومة التونسية لدى مجلس النوّاب تركيزه على مفهوم الجباية؛ إذ ورد هذا اللفظ مئات المرّات في المشروع. وهذا يعني أنّ الحكومة التونسية، بأحزابها وساستها، ليس لها من نظرة اقتصادية سوى نظرة الجباية. فهمّ الدولة ليس رعاية شؤون النّاس بالنظر في معاشهم وأحوالهم وتوفير مواطن التشغيل وموارد الرزق، وإنّما نظرتها نظرة جباية تأخذ من المواطن ولا تعطيه، وإذا أعطته فتعطيه بيمناها فتات ما أخذته منه بيسراها.
ذكّرني هذا بما أورده ابن كثير في البداية والنهاية حيث قال: “وفي هذه السنة، في رمضان منها عزل عمر بن عبد العزيز الجراح بن عبد الله الحكمي عن إمرة خراسان بعد سنة وخمسة أشهر; وإنما عزله لأنه كان يأخذ الجزية ممن أسلم من الكفار ويقول: أنتم إنما تسلمون فرارا منها. فامتنعوا من الإسلام وثبتوا على دينهم وأدوا الجزية .فكتب إليه عمر: إن الله إنما بعث محمدا صلى الله عليه وسلم داعيا ولم يبعثه جابيا”. فدور الدولة ليس جمع الضرائب وأخذ المكس والإثقال على النّاس بالجباية بل دورها هو دور الرعاية؛ إذ الأصل فيها أن توفّر الحاجات الأساسية للنّاس، وتوجد لهم موارد رزق وشغل، وإذا وجب ولزم الأمر فإنّها تأخذ من غنيهم وتردّ على فقيرهم وليس العكس كما يحصل اليوم؛ إذ يتهرّب من الضريبة الأغنياء بحجج الاستثمار وغيرها ويلزم الفقراء بالمكوس.
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: “لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه”، وقال صلى الله عليه وسلم في المرأة الغامدية التي زنت ورجمت: “لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له”، وروي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: “لا يدخل الجنة صاحب مكس”.وقال النووي رحمه الله: “قال النووي رحمه الله:”المكس من أقبح المعاصي والذنوب الموبقات، وذلك لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده، وتكرر ذلك منه، وانتهاكه للناس وأخذ أموالهم بغير حقها، وصرفها في غير وجهها”. وقال ابن حزم: “واتفقوا أن المراصد الموضوعة للمغارم على الطرق وعند أبواب المدن ومايؤخذ في الأسواق من المكوس على السلع المجلوبة من المارة والتجار ظلم عظيموحرام وفسق”.
إنّ من أهمّ مظاهر صلاح الدولة والحكومة مدى اهتمامها برعاياها من حيث خلق فرص الشغل لهم، وتوفير الرفاه والازدهار الاقتصادي، وتوفير الخدمات المتعلّقة بحاجاتهم من صحة وتعليم، وإنّ من أهمّ وأبرز مظاهر الرعاية عدم إثقال كاهل الرعايا بالجباية وبخاصّة في زمن الفقر والبطالة والغلاء. وإنّ عمل الساسة هو إيجاد الحلول في الفترات والأزمنة الصعبة التي تمرّ بها البلاد؛ فإذا عجز الساسة عن ذلك لعدم امتلاكهم للمشاريع والحلول والمعالجات، أو لعدم قدرتهم على التفكير في إيجادها، فعليهم من باب الأمانة التنحي وفسح المجال لغيرهم. فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله، ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: “يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها”.