مشروع قانون المخدرات الجديد استثمار في الجريمة و تكريس للاستهلاك و إشاعة للفاحشة في اللذين آمنوا

مشروع قانون المخدرات الجديد استثمار في الجريمة و تكريس للاستهلاك و إشاعة للفاحشة في اللذين آمنوا

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: يبدو أنّنا على أبواب حرب أفيون ثالثة في تونس للإجهاز على بقايا الخيريّة و الثوريّة الكامنة في هذا الشعب المسلم الأبيّ، فالغاية الدّنيئة تبرّر الوسيلة الخسيسة لاسيما إذا كانت منبثقة عن فكرة منحطة كالرّأسمالية و مسخّرة من قبل دولة ماكرة مارقة عن الأعراف و القوانين مثل الإمبراطورية العجوز بريطانيا… فقد فجّر هذا الكيان الشيطانيّ الطاقة الإجراميّة الكامنة في المبدأ الرّأسمالي و ترجمها على أرض الواقع بأشكال مقزّزة طحنت إنسانية الإنسان و سامت البشرية ألوان الضنك و الشقاء و استباحت البلاد و العباد واستحلت المقدّرات و الحضارات بلا رادع و لا رقيب و لم تتورّع في سبيل ذلك عن الإبادة الجماعية لشعوب بأكملها (الهنود الحمر-الأربوريجنز…) و عن استهداف الخلايا النوعية الحيّة في المجتمعات و اغتيالها بالجملة تمهيدا لشلّ الأمم بالكامل و الانقضاض عليها… غير أن هذه التصفية ليست بالضرورة جسدية بل قد تكون معنوية عن طريق قتل تلك الخلايا و هي على قيد الحياة بإعاقتها و تخديرها و إعطابها و تحييدها و تعطيل طاقاتها و ملكاتها و شلّ قدراتها الذّهنية و الإبداعية و إقصائها من الدّورة الإنتاجيّة عموما… و هذا الموت المعنوي أفظع من الموت المادّي الفيزيائي يحوّل الشعوب من شعلة تتّقد حيوية و نشاطا و نفعا تقوّي الدولة و تسندها و تنهض بها، إلى جثث متنقّلة و هياكل مستهلكة عالة على مجتمعاتها ضغثا على إبالتها تضعف الدولة و تنحطّ بها و تجعلها فريسة سهلة و لقمة سائغة بين فكّي الاستعمار…
أسلوب وضيع
و لعلّ أنجع أسلوب اعتمد لإنجاز هذه المهمّة القذرة التي تعجز دونها الجيوش الجرّارة هي إغراق البلاد المستهدفة بآفة المخدّرات و الزّج بها و بشعبها في دوّامة مضاعفاتها السّلبيّة من قبيل الإدمان و الانتحار و الجنوح و العنف و الجريمة المنظّمة و المثلية و السّيدا… بما يفقدها مناعتها و دفاعاتها و يركّعها و يخضعها قسرا لنزوات الاستعمار و مخطّطاته، و هذا الأسلوب الجهنّمي هو إبداع بريطاني بامتياز لها فيه سابقة تاريخية شهيرة ألا و هي حرب الأفيون الأولى و الثانية التي شنّتها أواسط القرن 19م ضد الصين لإجبارها على فتح موانئها أمام آلاف الأطنان من مخدّر الأفيون المنتج في المستعمرة البريطانية بالهند (هكذا… )، و قد حوّلت تلك السموم الشعب الصيني إلى قطيع من المدمنين و المرضى و العجزة ما أدّى إلى تركيع الإمبراطورية الصينية على ضخامتها و قوّتها العسكريّة و الاقتصادية… هذا السيناريو بالذّات هو الذي تحاول بريطانيا أن تستنسخه هذه الأيام في تونس مدسوسا بين تلافيف مشروع قانون المخدرات الجديد مغلّفا بدسم الوقاية و العلاج و الإصلاح و إعادة الإدماج و ما إلى ذلك من المصروف اللّغوي والرداء الشفاف الذي يغطي عورة السم الزعاف…
مخطّط استعماري قديم
إن آفة المخدّرات ليست جديدة على تونس فقد استُهدفت سائر بلاد العالم الإسلامي منذ الحقبة الاستعمارية بالإغراق المتعمّد و الممنهج و المدروس بتلك السموم و قد تسارعت تلك العملية و تفاقمت بعد مرحلة (الاستقلال) مع تحول المشعل إلى العملاء ناهيك و أنّها تجاوزت الأحزمة الحمراء و الأحياء البورجوازية لتطال كافة شرائح المجتمع نساء و رجالا شيبا و شبابا و أطفالا (10سنوات) بجميع أنواعها و أشكالها: سجائر و أقراصا و حقنا، من الكوكايين و الهيروين إلى (المرهوجة) والبنزين و اللصق مرورا بالزطلة و أقراص (السوبيتاكس) و أخواتها…وإنّ النظرة السريعة على الأرقام المسجّلة تعطينا فكرة عن حجم الكارثة التي تتهدّد البلاد : فحسب تقارير طبّية و جمعيّاتية و حقوقية فإن نسبة استهلاك المخدّرات لدى شباب تونس بعد الثورة بلغت 10 بالمائة بحساب مائة ألف مستهلك لمادة الزطلة و 200 ألف مستهلك للحبوب المخدّرة منهم 20 ألفا في شكل حقن، و بلغت نسبة المتعاطين ضمن الشريحة العمرية 18/13 سنة 57 بالمائة مقابل 36 بالمائة ضمن الشريحة العمرية 25/18… و حسب نفس التقارير فإن نصف تلاميذ المؤسّسات التربويّة قد جرّبوا استهلاك المخدّرات و أنّ 12 تلميذا من بين 30 يتعاطون مخدّر الحشيش بتفوّق طفيف للذكور (60 بالمائة) على الإناث (40 بالمائة)، و الأخطر من كلّ ذلك أن 80 بالمائة منهم يرغبون في تعاطي المخدّرات رغم علمهم بمخاطرها الصّحية… أما عن قضايا المخدّرات فقد سُجّل خلال 2015 قرابة 4500 قضيّة مابين مسك و ترويج وتهريب و توسّط و استهلاك، وقد انعكس ذلك على نزلاء السّجون حيث أنّ ربع الموقوفين (8 آلاف من أصل 25 ألفا) تتعلّق بهم قضايا مخدّرات و أن قسما كبيرا منهم يستهلكون تلك السّموم داخل السّجون نفسها… فالإشكالية في تونس تجاوزت مجرّد الاستهلاك إلى وجود بيئة و نفسية حاضنة لتلك الآفة تطال الجنسين في جميع الشّرائح العمريّة و الاجتماعية والثّقافيّة وتنتعش في مؤسّسات محسوبة على الدّولة (المعاهد و السّجون و دور الثقافة…) وهذا مؤشّر على سياسة رسميّة منتهجة بتواطؤ من سلط الإشراف و تغاضيها ورعايتها، فلا يمكن عقلا ومنطقا أن يحصل مثل ذلك ويتفاقم ويخرج عن السّيطرة في ظل دولة ذات سيادة مهما بلغ منها الضّعف، وإنّما هو سياسة متعمّدة ممنهجة وجدت بأعين السّلطة ووحيها وتخطيطها وتنفيذها…
حرب الأفيون الثّالثة
بعد 14 جانفي 2011 سادت البلاد حالة ثورية و انكسر حاجز الصّمت و الخوف فانفلتت الألسن من عقالها و ازدان فراش الوسط السّياسي بمولود قديم/جديد (حزب التحرير) قلب موازين اللّعبة السياسية رأسا على عقب و أسقط جميع المحرّمات و المحظورات و حرّك الرّواكد و فتح ملفّات كانت تعدّ بمثابة التابوات و الخطوط الحمراء (الإرهاب – الثروات المنهوبة – الارتهان للأجنبي – الاستثمار – القروض…) وجرّ السلطة و سائر الفقاقيع الحزبيّة إلى الخوض فيها قسرا… فانكشف المستور و تفتّحت الأعين على الحقائق المفزعة والأرقام الناطقة و النسب المعبّرة و حجم التبعيّة و العمالة و التفريط في مقدّرات الشعب، وسرت موجة من الوعي أعقبتها حالة من الامتعاض و الغليان الشعبي اجتاحت بؤر التّوتّر التقليديّة و حقول الثروات (الحوض المنجمي – قبلي – بن قردان – قرقنة – فرنانة…) بما عكّر صفو الشّركات الاستعمارية وعطّل عمليّة النّهب و أقضّ مضاجع الكافر المستعمر و أحرج وكلاءه و دقّ ناقوس الخطر من وراء بحر المانش، لاسيما بعد انتفاضة أهالي قرقنة على شركة بتروفاك… إلى هذا الحدّ ما كان لبريطانيا صاحبة الامتياز الأولى و مرجع نظر (المسؤول الكبير) أن تبقى مكتوفة الأيدي : فهذه الحالة الثوريّة يجب أن تضمحلّ و هذا الوعي المتنامي يجب أن يخدّر و هذه الإرادة الصّلبة يجب أن تكسر و إلاّ فإن وجودها في البلاد و مصالحها الحيويّة فيها مهدّدان بشكل جدّي و خطير… ولتحقيق ذلك عاود بريطانيا الحنين إلى أكثر أساليبها قذارة و خسّة ، فشنّت حرب أفيون ثالثة على تونس أغرقت بمقتضاها جزيرة قرقنة بالإطارات المطّاطية المحشوّة بالمخدّرات بشكل متكرّر و متزامن مع انتفاضة الأهالي لإشغالهم بتلك السّموم و توريطهم في تجارتها و استهلاكها، ثمّ وسّعت جبهة الحرب واعتزمت تعديل القانون عدد 52 المتعلّق بالمخدّرات بما يخفّف من المحاذير و القيود و يشجّع على الاستهلاك و ييسّر الإدمان و يكرّس الآفة في المجتمع لتخدير هذا الشّعب الذي تجاوز وعيه النّسبة المسموح بها استعماريّا…
تسلسل إداري
وحتى يبدو هذا التعديل المريب المغرض مطلبا شعبيّا في خدمة الصّالح العامّ متلقّفا من أفواه أصحاب الشّأن و أهل الإختصاص، حرصت بريطانيا قبل كلّ شيء على شيطنة (القانون 52) و إيجاد رأي عامّ معاد له مساند لتنقيحه أو استبداله : فشنّ الإعلام المأجور منذ سنة 2014 حملة مسعورة على ذلك القانون مدعّمة بالأرقام و النّسب تتّهمه (بالقصور و العجز عن معالجة الآفة و بالتّسبّب في تفاقم الظاهرة و صناعة المدمنين)… ثمّ أوكلت أمر حملة التّنقيح إلى المنظّمات و الجمعيّات مع الحرص على احترام (التّسلسل الإداري الاستعماري) الذي يقتضي أن ضربة البداية تكون من المنظّمات العالميّة قبل أن تتسلّم عنها نظيرتها المحلّية المشعل ليجد الطّلب طريقه إلى مكتب وزير العدل ومنه إلى مجلس النّواب في شكل مشروع قانون… من هذا المنطلق وثّقت (هيومن رايتس ووتش) ما اعتبرته (انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان أثناء اعتقال و استجواب مستهلكي المخدّرات في تونس) كما تحدّث مكتب مفوّض الأمم المتحدة السّامي لحقوق الإنسان في تقريره الأخير حول تونس عن (اكتظاظ كبير في السّجون التونسية واحتكاك للمستهلكين المسالمين بالمجرمين الخطيرين)… ثم تلقّف الحدث الأطراف الحقوقيون المحلّيون و نشطاء في المجتمع المدني و تصاعدت دعواتهم لمراجعة القانون فيما سمّي بمبادرة (السّجين 52) ، ولم ينس الباجي قائد السّبسي أثناء حملته الإنتخابية أن يعد بإلغاء عقوبة السّجن للمستهلك أوّل مرّة… و بتاريخ 30/12/2015 و بعد أن استوت الطّبخة وافقت الحكومة على مشروع قانون جديد متعلّق بالمخدّرات سيعرض قريبا على البرلمان لمناقشته و التّصويت عليه… بهذه الكيفيّة (الدّيمقراطية) تصنع القرارات (الشّعبية) على المقاس الاستعماري…
السمّ في الدّسم
إن القانون يجب أن يحبط نيّة المخالفة في ذهن الإنسان قبل أن تسوّل له نفسه اقترافها وذلك بطابعه الزجري الرّدعيّ العقابيّ،وأنّه إذا فشل في تحقيق ذلك يجب سدّ ثغرة الاستسهال فيه بمضاعفة جرعة الزجر و الرّدع ، و هذا يفترض الترفيع في العقوبة البدنيّة السّالبة للحرّية حّتى يرتدع النّاس و ينزجروا عن استهلاك السموم المخدّرة… إلا أنّ فقهاء القانون في تونس و من ورائهم الكافر المستعمر تعاملوا مع الظاهرة بمنطق (وداوني بالتي كانت هي الدّاء) : إذ شخّصوا العلّة في الإفراط في الشّدة و الصّرامة و رأوا في “عام و فسبا” (قانونا قمعيّا يدمّر حياة المستهلك و يساهم في تنامي الظاهرة و لا يمنع من العودة إلى التّعاطي) ودعوا إلى اعتماد مقاربة جديدة في التّشريع قائمة على مبدأي الوقاية و العلاج (تعتبر المستهلكين مرضى يستحقّون المراقبة الطّبية و الإحاطة الاجتماعية و النّفسيّة) و تقطع مع السّياسة السّجنية العقابيّة (لصالح إجراءات سلميّة على غرار الإفراج المشروط بالخضوع للعلاج و الإسعاف في تنفيذ العقاب البدني و استبدال عقوبة السّجن بالعمل للصّالح العامّ)… من هذا المنطلق نصّ مشروع القانون الجديد على تخفيف العقوبات البدنيّة على مستهلكي الزطلة : إذ يقضي بتمتّع المستهلك بنظام علاجي و نفسي و اجتماعيّ قبل أيّ تتبّع قضائي مع إمكانية إيقاف المحاكمة في حال التّجاوب مع العلاج… وفي صورة العودة إلى الاستهلاك فإن العقوبة تصبح في المرّة الأولى خطيّة ماليّة بين الألف و الألفي دينار، و في المرّة الثانية ترفّع الخطيّة الماليّة إلى مابين الألفين و ال5 آلاف دينار، أمّا في المرّة الثالثة فينضاف إلى الخطيّة السّجن من ستّة أشهر إلى سنة… وإن هذا المنطق المادّي العلماني الذي يرى في الجرم مناط استثمار و ربح و يعتبر العقوبة مدخولا مادّيا ينعش خزينة الدّولة، لا يحقّق الوقاية و العلاج كما ادّعى له أصحابه بل يكرّس الاستهلاك و يشيع الفاحشة في اللّذين آمنوا كما أراد له الاستعمار: فهو يغري بالتجربة الأولى دون عقاب – وهي مفتاح الإدمان – ثمّ يشجّع على المواصلة باستسهال العقوبة الماليّة في العودة الأولى والثّانية ، و عندها يكون الإدمان من تحصيل الحاصل و لن يقف السجن بعد ذلك حائلا دون الاستهلاك… وبالمحصلة فهذا المشروع يكرّس الظاهرة و يغري بها و يستدرج إليها ويشجّع عليها و يأخذ بأيدي المبتدئين نحو شاطئ الإدمان ،و بذلك تُوأد الخلايا النّوعيّة في المجتمع إلى أن يُشلّ كلّيا و يخلو الجوّ للكافر المستعمر و شركاته النّاهبة…
بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This