معركة طرابلس وتحريك الصراع الدولي

معركة طرابلس وتحريك الصراع الدولي

حرّكت معركة طرابلس بين  قوات خليفة حفتر وقوات حكومة الوفاق، الصراع الدولي على النفوذ في ليبيا، فقد اتهمت روما باريس، بالتورط في المواجهات العسكرية التي تشهدها ليبيا، من أجل مصالحها الاقتصادية، في أحدث مواجهة بين البلدين، كما ظهر إلى العلن الصراع البريطاني الأمريكي بعد رفض هذه الأخيرة مشروع قرار بريطاني عرض على مجلس الأمن يوم الخميس الماضي يقضي بإيقاف الأعمال العسكرية في ليبيا.

نبذة تاريخية

لا يمكن فهم تعقيدات المشهد قبل أن نلقي نبذة تاريخية قصيرة تحيلنا إلى الأطراف الدولية و أدواتها المحلية التي تتصارع على السيطرة و النفوذ في ليبيا.

لما قامت الحرب العالكية الثانية في عام 1939، عقد الأمير إدريس السنوسي اتفاقا مع البريطانيين. ودخل إلى ليبيا بجيش أسسه في المنفى في أوت 1940 متحالفاً مع البريطانيين لطرد الغزاة الإيطاليين. ولما انتهت الحرب بهزيمة إيطاليا، وخروجها من ليبيا، عاد إدريس السنوسي إلى ليبيا في 1944 وأصبحت ليبيا منذ ذلك التاريخ تحت حكم الإدارة البريطانيّة والفرنسية، أي الحلفاء، ثم انتقلت سلطات الإدارة العسكريّة البريطانية إلى حكومة برقة في أكتوبر 1949، مع بقاء القوات البريطانية في ليبيا التي كانت تشرف على تدريب الجيش الليبي.

بريطانيا تصنع القذافي

لفتت شخصية معمر القذافي الذي التحق بالجيش سنة 1964 انتباه أحد الضباط البريطانيين اللذين كانوا يشرفون على تدريب الجيش الليبي زمن الملك السنوسي، حيث كان القذافي ضابطا ذو ميول قومية ويتملكه حب الزعامة وذو شخصية تميزه عن أقرانه. فوجدت بريطانيا فيه ضالتها لمواجهة جمال عبد الناصر عميل أمريكا في المنطقة، فانتدبته المملكة المتحدة للمزيد من التدريب في بريطانيا، ليصنع على عين بصيرة، حيث أجرى دورات تدريبية طيلة تسعة أشهر في سلاح الجو الملكي البريطاني وسلاح المشاة في في هايث، كينت، ثم رجع إلى ليبيا أواخر 1967 وقام بانقلابه على السنوسي وهو برتبة ملازم في الفاتح من سبتمبر من سنة 1969 وطرد القوات البريطانية وأزال قواعدها العسكرية من ليبيا، في مسرحية تلميعية مفضوحة تذكرنا بانسحاب الأسطول البريطاني من قونية سنة 1919 دون اشتباكات أمام مائة جندي عثماني يقودهم مصطفى كمال أتاتورك، الذي صنعته بريطانيا لإسقاط الخلافة العثمانية.

ولم يكن وصول القذافي للحكم الا بترتيب بريطاني مسبق وفقا لتوصيات السفير البريطاني في بنغازي سنة 1964 في(الوثيقة رقم 8) التي رفعها لحكومته يحثها فيه على “وجوب إعادة النظر في مخططاتها بعيدة المدى في ليبيا”، وهو بذلك يعلن صراحة ببداية العد التنازلي لنظام الحكم الملكي في البلاد.

ثورة فبراير 2011 وتخلي بريطانيا عن القذافي

عندما اندلعت الثورات العربية وهرب المخلوع بن على إلى السعودية و أطيح بمبارك في مصر، أدركت بريطانيا أن ثورة فبراير 2011 للشعب الليبي يمكن أن تطيح بعميلها القذافي فأرادت امتصاص غضب الجماهير الثائرة ببعض الإصلاحات السياسية، حيث أكد إدوين صمويل، المتحدث باسم الخارجية البريطانية فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تصريح له على قناة الجزيرة القطرية، أن بريطانيا اتصلت بسيف الإسلام القذافي وطلبت منه أن يتفاوض مع الشرق الليبي الثائر، إلا أن سيف الإسلام تمرد على ولية أمره بريطانيا وقال في خطابه الشهير، فبراير 2011، بأن معمر القذافي خط أحمر وأن من يخرج عليه فسيداس بالأقدام.

عندها قررت بريطانيا الإطاحة بالقذافي، فتوجه السفير البريطاني من طرابلس العاصمة إلى مدينة بنغازي بطائرة عمودية، رفقة فرقة من الكموندوس البريطاني والتقوا بقادة الثوار من بينهم مصطفى عبد الجليل وعبد الفتاح يونس وغيرهم ثم غادروا إلى أوروبا.

تحالف فرنسي بريطاني للالتفاف على ثورة فبراير 2011

منذ ذلك الحين بدأت المخابرات البريطانية -ام اي 5- تعمل على تشجيع المحيطين بالقذافي بالانشقاق عنه، فضلا عن الدعم اللوجستي و العسكري، تحت مضلة حلف الناتو.

ولأن بريطانيا أصابها الضعف والهزال ولم تعد تستطيع الحفاظ بمفردها على نفوذها أمام أمريكا التي تتحين الفرص لتصفية الاستعمار الاوروبي لتحل محله، فقد أشركت بريطانيا فرنسا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في ليبيا، فتم اللقاء الشهير بين مسؤولي البلدين كامرون وساركوزي، اللذان أعلنا استجابتهم لمناشدة الليبين لمساعدتهم في الإطاحة بنظام القذافي، حيث قال الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي حينها: ” يجب أن يرحل القذافي!”، وهذا طبعا شريطة أن تحصل فرنسا على جزء من النفط الليبي في المستقبل. ثم وقع تشكيل المجلس الوطني الانتقالي السابق والاعتراف الفوري به من طرف بريطانيا وفرنسا وبدأت الأموال والأسلحة تتدفق للثوار.

وبرغم حرص أمريكا  على إطالة زمن الحرب لكسب الوقت و خلق أوضاع تمكنها من النفاذ إلى ليبيا ذات النفوذ البريطاني العريق، إلا أن فرنسا وبريطانيا حسما المعركة لصالح الثوار من خلال الدعم والتوجيه وأطيح بنظام القذافي.

وكان هذا الدعم السياسي والعسكري المسموم هو الاختراق الكبير لثورة فبراير وهو سبب البلاء الذي جعل مصير ليبيا بيد القوى الغربية.

دخول حفتر على المشهد الليبي

بدأت أمريكا بالتحرك في ليبيا عن طريق عميلها اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي أطلق في منتصف مايو/ أيار 2014 عملية عسكرية تدعى “كرامة ليبيا” ضد مجموعات وصفها بـ “الإرهابية” في بنغازي، وانتقلت العملية لاحقا إلى العاصمة طرابلس, فأسفرت عن مقتل العشرات وجرح المئات، وقدم حفتر نفسه باعتباره قائد “الجيش الوطني” و”منقذ” ليبيا من الجماعات الإسلامية التي يتهمها بـ “الإرهاب” وزرع الفوضى، وقد دعمته أمريكا بالمال والسلاح عن طريق عميلها الرخيص السيسي،  ثم انتخب مجلس النواب في 25 يونيو/حزيران 2014 ليتسلم السلطة التشريعية في مدينة طبرق من المؤتمر الوطني العام المنتخب في يوليو/تموز 2012 والمدعوم من طرف قوات “فجر ليبيا”، إلا أن المحكمة العليا بطرابلس نزعت عنه الشرعية واعتبرت كل قراراته ومنها تشكيل حكومة الثني لاغيا، ثم شهدت مدينة الصخيرات المغربية يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2015 توقيع اتفاق بين أطراف ليبية تحت رعاية بريطانيا وعملائها، نصّ على تشكيل حكومة وحدة وطنية، غير أن الاتفاق لم يحظ بموافقة عملاء أمريكا وعلى رأسهم حفتر والبرلمان  والحكومة الموازية المنبثقة منه.

أطراف الصراع

وهكذا أصبح المشهد السياسي في ليبيا منقسما بين حكومة الوفاق الوطني المنبثقة من اتفاق الصخيرات والمدعومة من بريطانيا، وتسيطر على بعض مناطق الغرب الليبي بما فيها العاصمة طرابلس، يقودها فائظ السراج، ومن جهة ثانية الحكومة المؤقتة المنبثقة عن برلمان طبرق، وتوجد بمدينة البيضاء شرقي البلاد، ويترأسها عبد الله الثني، ويدعمها حفتر عميل أمريكا، وهكذا منذ سنة 2014 إلى اليوم والصراع الدولي مشتد بين قطبين رئيسيين هما أمريكا وبريطانيا مع وجود دول أخرى تتقلب بين القطبين حسب مصالحهم.

فرنسا تدعم عميل أمريكا حفتر

ففرنسا التي كان لها دور بارز في إسقاط نظام القذافي، كانت في المرحلة الأولى إلى جانب بريطانيا تدعم المؤتمر الوطني، ثم راهنت في وقت لاحق على عملية الكرامة ورأت في عميل أمريكا خليفة حفتر الحليف القادر على تحقيق أهدافها الإستراتيجية، فدعمته بقوة لوجستيا واستخباريا عبر مجموعات عسكرية فرنسية في الشرق الليبي ثم بعدما استتبت له الأمور في الشرق، دعمته في معركة طرابلس الأخيرة، حيث ترجح أوساط ليبية أن المجموعة الفرنسية المسلحة التي وصلت إلى تونس من ليبيا عبر معبر رأس جدير الحدودي يوم الأحد 15 أفريل، لم تكن سوى الفريق الفني العسكري الفرنسي الذي يدعم قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر انطلاقا من مدينة غريان، نظرا لطبيعة الأجهزة التي كانت في حوزتهم.

فيتو أمريكي على القرار البريطاني

وعلى إثر هجوم حفتر على طرابلس تقدمت بريطانيا بمشروعي قرار لمجلس الامن يومي 15 و18 من أفريل الجاري، ويدعو المشروع الثاني الأطراف المتحاربة إلى الالتزام بوقفٍ لإطلاق النار، والانخراط مع جهود الأمم المتحدة للتوصل إلى وقف شامل للأعمال القتالية في كل أنحاء البلاد. وتسعى بريطانيا إلى حل سياسي من خلال الانتخابات لإيجاد شرعية محلية ودولية لحكومة الوفاق تحت غطاء الامم المتحدة ما يمكنها من الصمود في وجه المخططات الأمريكية.

إلا أن الولايات المتحدة وروسيا قالتا إنهما لا يمكنهما تأييد قرار مجلس الأمن الداعي إلى وقف إطلاق النار في ليبيا في الوقت الحالي. ثم أعلن البيت الأبيض يوم الجمعة 19 أفريل 2019 أن ترامب أجرى اتصالا هاتفيا بخليفة حفتر يوم الإثنين 15 أفريل 2019 “يمتدح فيه دوره في محاربة الإرهاب” وذكر بيان البيت الأبيض أن ترامب: “اعترف بدور القائد العسكري حفتر في محاربة الإرهاب وتأمين حقول النفط الليبية”.

وقد استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية في وقت سابق من كسب الموقف الايطالي إلى جانبها، الذي تبلور أثناء الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء الإيطالي إلى البيت الأبيض والاتفاق على عقد مؤتمر دولي حول ليبيا في العاصمة الإيطالية روما كرد على المؤتمر الدولي الذي عقد في باريس، وهو ما تم مؤخرا في المدينة الايطالية باليرمو وألغى الانتخابات التي مزمع القيام بها اواخر 2018.

وسيبقى الصراع محتدما بين القوى الدولية للسيطرة على ليبيا وثرواتها، ولن تتخلص ليبيا من هذا الصراع المحموم إلا إذا تحرك الشعب الليبي وتصدي لهذه المخططات بجمع القوى العسكرية المخلصة تحت قيادة سياسية مخلصة وواعية تملك مشروعا حضاريا إسلاميا تحرريا يقطع النفوذ الدولي وأدواته المحلية.

قال تعالى: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.

د. الأسعد العجيلي, عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير تونس

CATEGORIES
TAGS
Share This