مفاوضات تشكيل الحكومة: مزايدات في سوق النخاسة

مفاوضات تشكيل الحكومة: مزايدات في سوق النخاسة

بدأت قصور الرمل التي بناها الحالمون بجني العنب من أشواك انتخابات الديمقراطية تتهاوى رويدا رويدا ككل قصور الوهم التي شيدت على جُرف الانتخابات التي سبقتها مع فارق بسيط أن السراب تلاشى هذه المرة بصفة مبكرة, ولم ينتظر المتهافتون على المناصب استلامهم لكراسيهم حتى يخيبوا أمال أولئك المهرولين نحو مكاتب الاقتراع ضنا منهم أن الأوراق التي سيرمونها في جوف ظلمة صناديق الديمقراطية ستجلب لهم الخير وتغير أحوالهم نحو الأفضل.

هذه المرة أتت الخيبة على غير موعدها بعد أن أصر الفائزون بالانتخابات الأخيرة على اسقاط جميع أوراق التوت عنهم قبل أن ينطلقوا في ممارسة الفشل، فدارُ الضيافة التي توافد عليها كل منتحلي صفة الساسة وكل ممتهني الدجل السياسي لم يستطيعوا صبرا وكشفوا عن كامل فصول المسرحية في مشهدها الأول بل قبل أن يرفع الستار ويبدأ العرض. في السابق كانوا يطيلون المخاتلة ويجيدون المناورة فيكسبون الوقت وينجحون في تأخير حكم الناس على آدائهم تحت ذريعة أن كل حكومات العالم لا يمكن تقييم أدائها إلا بعد مرور تسعين يوما, ومن بعدها الفرية القائلة بأن نتائج العمل لا تظهر إلا بعد مرور سنة وهكذا دواليك, ذريعة تلوى الأخرى إلى أن ينفد رصيدهم بالكامل وينكشف أمرهم وتزكم رائحة فشلهم الأنوف لتخرج حينها من تحت أنقاض المخاتلة مبادرة ما كتلك التي أطلقها “الباجي قائد السبسي” لما استبد بحكومة “الحبيب الصيد” العجز والفشل, وفحوى تلك المبادرة هي حتمية تشكيل حكومة جديدة وسماها وقتها ب “حكومة وحدة وطنية” وزعم بدعم من جوقة المرجفين والأفاقين بأنها هي الأمل الوحيد في انقاذ البلاد والعباد، وكان له ما أراد, تم اسقاط حكومة “الصيد” وخرجت من رحم وثيقة اسمها وثيقة قرطاج حاملة المئة نقطة حكومة “يوسف الشاهد” وكما كان متوقعا أدت “حكومة الوحدة الوطنية” تلك مهامها على أكمل وجه وتجلت فيها بركات صاحب الهيبة “الباجي قائد السبسي” وقدرات حزبه الخارقة على ادارة شؤون اربع دول, فبقيادة “يوسف الشاهد” الذي تم انتدابه من سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بتونس ساهمت تلك الحكومة في رفع نسب البطالة والمديونية, وبفضلها تفاقم الفقر وسحقت  المقدرة الشرائية وطمست الطبقة الوسطى تماما, ولامست جميع الأوضاع قاع الحضيض. وحين استكملت الحكومة التي اهداها لنا “الباجي قائد السبسي” مهامها وانتهت عهدتها عادوا إلى طاحونة الانتخابات وبشرونا بأن الخراج هذه المرة سيعيينا عدّه وحصرُه من شدة كثرته ووفرته, فقط ما على الناس إلا الاقبال على الانتخابات وبعدها سنُصاب من التخمة وسيمل الناس من تكديس الأموال, وسنعانق عنان السماء نتيجة تعاظم سيادتنا واحساسنا بالاعتزاز المفرط..

وكما هو الحال دائما في ظل هذا النظام الوضعي وفي كنف وجود منتحلي صفة رجال الدولة يتصدرون المشهد بدأ التطاحن على الكراسي والصراع على الحقائب فكان أن سقطت حكومة “الحبيب الجملي” ومروا إلى ما يسمونه ب “حكومة الرئيس”, ومرة أخرى استبشر الواهمون خيرا وكيف لا والحزام هذه المرة يحتوي على “أحزاب ثورية” ومتأهبة لمحاربة الفساد, وأخرى متوثبة للانقضاض على الاستعمار وقطع دابره. وبمجرد أن اجتمعوا مع رئيس الحكومة المكلف وبدأ توزيع الغنيمة حتى تشتت شملهم  وغابت الثورية واختفت مصلحة البلاد العليا وبرزت أنياب المصالح الحزبية والذاتية وكلٌّ له ذريعته وغطاءه, ف”حركة النهضة” حزّ في نفس رئيسها عرّاب التوافق “راشد الغنوشي” أن يقع اقصاء حزب ” قلب تونس” بعد أن أقسم بأغلظ  الأيمان بأن لا يتحالف مع الفساد ودعا إلى تشكيل “حكومة وحدة وطنية” تأسيا برفيقه ” الباجي قائد السبسي”, والحقيقة أن الشيخ غير راض على نصيب حركته من الغنائم وهذا ما صرح به الناطق الرسمي للحركة “عماد الخميري” وأكده رئيس مجلس الشورى “عبد الكريم الهاروني”. أما حزب ” قلب تونس” أجزم بأن لا يصوت لهذه الحكومة لأنها لم تحترم ارادة الشعب, ولعدم قدرتها على محاربة الفقر, فهو الحزب الوحيد الذي لا يشق له غبار في هذا المجال.. في المقابل هدأت عاصفة “التيار الديمقراطي” صحبة ” حركة الشعب” بعد أن وعد رئيس الحكومة المكلف  قيادة الحركتين بحقائب وزارية لهثوا خلف نيلها وتمنّع الرئيس المكلف السابق عن اهدائهم إياها, لهذا أسقطوا حكومته والحجة دوما الخوف على مصلحة البلاد وأهلها. ونفس الشيء مع حركة “تحيا تونس” فهو بدوره نال ما يرضيه وهذا ما أكده أحد منتسبي الحركة ” وليد جلاد”, وقد حذر “الياس الفخفاخ” من الرضوخ لابتزاز “حركة النهضة” للحصول على  أكبر عدد من الحقائب الوزارية وطالب “النهضة بالابتعاد عن منطق الغنيمة وكأن حركته بريئة من هذه التهمة أو باقي الحركات والأحزاب لا علاقة لهم بالتكالب على المناصب والحقائب ولا يرون في الحكم غنيمة تستحق الاستنجاد بكل وسائل الكذب والدجل وممارسة جميع طقوس الشعوذة السياسية دون نسيان بيع الذمم والتمسح على أعتاب سفارات “المسؤولين الكبار”.

وعليه, فإن ما يسمونه بالمفاوضات والمشاورات حول تشكيل الحكومة ما هو إلا مزايدات وممارسات كانت تحدُث في أسواق لم يعد لها وجود إلا في مجال السياسة كما يراها ويفهمها كهنة الديمقراطية وأفاكوا العلمانية والحداثة الزائفة، انها أسواق النخاسة بعد أن كانت تقام لبيع الرق والعبد أصبحت اليوم فضاء لبيع البلدان وخيراتها وثرواتها وقبل هذا وذاك فضاء لبيع الذمم.

حسن نوير

CATEGORIES
TAGS
Share This