مقاطعة الانتخابات البلدية.. ثورة صامتة

مقاطعة الانتخابات البلدية.. ثورة صامتة

لم يعد بإمكان أحد من سدنة معبد الديمقراطية الصدع بما فرضه هذا الوثن على عابديه ومريديه القائم أساسا على منازعة رب العالمين في التشريع وتنظيم حياة الناس تبعا لما أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم. لم يعد هذا ممكنا بعد أن أصبح الناس على شفا وعي يقضي ضياه على عتمة النظام الديمقراطي, ويحرق كل دنسه ورجسه. فلم تعد تسمعهم ينعقون بكون الديمقراطية هي حكم الشعب للشعب, فهذا لم يعد ممكنا للسبب الذي ذكرنا مع أن واقع الديمقراطية لم يتغير ويمارسون طقوسها كما وضعها أصحابها دون زيادة أو نقصان.. لكنهم جنحوا إلى المناورة والتلبيس واختزلوا الديمقراطية في الذهاب في يوم محدد سلفا اسمه مكاتب الاقتراع, ثم إلقاء ورقة صندوق وقبل المغادرة يجب على المرء أن يمرغ إصبعه في حبر.. وبهذا يكون قد مارس حقه الذي بذلوا من أجل إقناع الناس بممارسته أموالا طائلة وجهودا جد مضنية.

نعم لقد حصروا الديمقراطية في حق الانتخاب, ورموا بباقي حقوق الناس في محرقة قوانينهم المنبثقة عن نظامهم الديمقراطي الوضعي الذي زاده نوعية القائمين عليه في تونس كما هو الحال في سائر بلاد المسلمين فسادا وظلما لنعاني من العذاب ضعفين.. حيث غابت الرعاية تماما حتى في أدنى مظاهرها, ولا تجد أثرا للحقوق إلا بين دفتي دستور صاغوه من أجل غاية واحدة وهي مصادرة كل الحقوق. فكل حق يقولون أن دستورهم الوضعي يكفله لا تجد له على أرض الواقع أي أثر, والأصح أن الدستور يمنعه, بل يجرم من يطالب به, وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصى وتعد. فالتشغيل تسمع صباحا أنه مكفول بالدستور, وفي المقابل تجد جيشا يعد بالآلف من المعطلين لأن طبيعة النظام تفرض ذلك, فالبطالة في نظامهم الوضعي أمر طبيعي ولا يعد توفير مواطن الشغل من واجبات الدولة. والحق في التعليم يؤكده الدستور, لكن في المقابل تجد نسبة الأمية مفزعة. وحتى من التحقوا بمقاعد الدراسة لم يعمروا بها طويلا, إما بسبب عدم القدرة على مجابهة تكاليف التعليم المجحفة, أو بسبب تدهور البنية التحتية للمدارس التي تحاكي ما كان موجودا في العصور الوسطى, هذا دون الحديث عن مناهج التعليم التي تنتج سنويا جيوشا من “الجهلة”.. والشيء ذاته ينطبق على الصحة, فالعلاج في عالمهم الافتراضي -الدستور- حق مقدس لا يمكن المساس به, أما في الواقع فهو أمر صعب المنال, لا يمكن لمن يعوزه المال أن ينعم بالرعاية الصحية حتى في أدنى مستوياتها.

أما سيادة البلاد وأمنها وصون كرامة أهلها فذلك وفق نظامهم والقوانين المنبثقة عنه أمر لا قبل لهم به, وهو خط أحمر لا يجوز لهم الاقتراب منه تحت طائلة ما يعرف بالقوانين والمواثيق الدولية وما لفّ لفّها. وحتى يوفروا غطاء لخنوعهم للقوى الاستعمارية ويتسترون على ضعفهم وعدم مقدرتهم على أن يكونوا رجال دولة بالفعل, أعطوا لتلك القوانين قداسة أكبر مما منحوها لدستورهم المحلي. ورفعوها مكانا أعلى من مكانته. وأوهموا الناس بأنها يجب أن تكون فوق كل ما هو دستوري. والالتزام بها ينمّ عن حنكة سياسية لا تضاهيها حنكة. وبناء على هذا من الطبيعي أن يكون النجاح وأداء كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا. ومن البديهي أن تكون كل الوعود التي نثروها يمنة ويسرة، كسراب يحسبه الظمآن ماء. ومع فقدان القائمين على شؤون البلاد لمعطى هام استفاد منه النظام زمن حكم “بورقيبة” و”بن علي” وهو فرض سياسة العصا الغليظة بتكميم الأفواه وحجب الحقائق أو تزييفها. إضافة لفقدانهم ما هو أهم و نعني فقدانهم لكل هوامش المناورة وهذا حال النظام الرأسمالي العالمي بصفة عامة, لم يعد بمقدور آلة النظام الديمقراطي أن تعمل بالشكل الذي يمكنها من جعل الناس كقطيع يسوقونه كيفما أرادوا مع الرضا التام على ما يقدمه لهم هذا النظام من خمط.. وأثل ..وسدر قليل.. ووجهوا للنظام الديمقراطي ومشعوذيه صفعة مؤلمة بأن قاطع 8 ملايين ممن يحق لهم الانتخاب الانتخابات البلدية رفضا لسياسة الدولة برمتها لا كما يحاول المرجفون الترويج له، كون سبب المقاطعة مردّه فقدان الناس الثقة في الأحزاب, مما يعطي الانطباع أن الناس نفرت من السياسة نتيجة فشل الأحزاب في تقديم الحلول ورسم الاستراتجيات الكفيلة بإخراج البلاد من عنق الزجاجة.

والحال أن النظام القائم لا يمكن له بأي حال من الأحوال أن يوفر حاجيات مدجنة, ثم إن الأحزاب التي حملوها وزر مقاطعة الانتخابات ما هي إلا إفراز من إفرازات النظام الديمقراطي, ولا يمكن أن تخرج من كنفه. لذا من المغالطة والمخادعة بمكان  حصر أسباب المقاطعة في تخلي الأحزاب عن مسؤولياتها وتكالبها على السلطة لتحقيق مكاسب حزبية كانت أم شخصية. فكل مكونات هذا النظام من حكومة وأحزاب وأعضاء مجلس نواب الشعب, وما يسمى بالمجتمع المدني, والإعلام بشقيه العام والخاص, يعيش في مستنقع النظام الديمقراطي ويقتات من قذارته, ويسعى جاهدا لجعلنا جزء منه. ووسيلته في ذلك انتخاباتهم الصوريّة التي جعلوا كل من قاطعها خائنا للبلاد وأهلها. والحال أنهم هم من خانوا البلاد, وهم من خذل أهل البلاد بحرصهم واستماتتهم بالتشبث بأسمال نظام لا ينبثق عن عقيدة أهل هذه البلاد ولا يمت لنا بأية صلة لا من بعيد ولا من قريب. ووصلوا ليلهم بنهارهم لفصل الإسلام عن الحياة. وقدموا من الخدمات أجلّها وأعظمها لعدو لا يرقب فينا إلاّ ولا ذمة.

فكون تونس حباها الله بالخيرات والثروات بما يجعل أهلها في مأمن من شظف العيش وضنكه حقيقة ماثلة أمام الأبصار والبصائر. وأن هذه ثروات قدمها من بحت حناجرهم من الصراخ لإقناع الناس بالزحف على مكاتب الاقتراع لممارسة حقهم الانتخابي على طبق مصنوع من كل المعادن الثمينة مما جعل من تجويعنا وإذلالنا واجبا علينا تحمله, وحقا من حقوقهم يمارسونه علينا بكامل الوقاحة والصفاقة. وهذا كله مكفول بقوانينهم ودستورهم. لهذا كانت مقاطعة الانتخابات البلدية الأخير في انتظار أن يشتد عود الوعي العام وويستوي على سوقه, حينها لن تكون مجرد مقاطعة لانتخابات. حينها سيتم لفظ هذا النظام تماما, وقلعه من جذوره, وإن غدا لناظره قريب.

حسن نوير

CATEGORIES
TAGS
Share This