منتدى (القدس في ضمير الأمّة) حضرت الرّموز وغابت الرّمزيات

منتدى (القدس في ضمير الأمّة) حضرت الرّموز وغابت الرّمزيات

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: تحت إشراف مؤسّسة التيّار الهاشمي وبالتعاون مع منتدى الجاحظ، احتضن نزل إفريقيا بالعاصمة منتدى فكريًّا سياسيًّا بعنوان (القدس في ضمير الأمّة) وذلك مساء الجمعة 11 ماي 2018…وقد أثّث فعاليّات هذا المنتدى ثلّة من المثقّفين والسياسيّين والمؤرّخين من تونس والجزائر وسوريا وفلسطين، تناولوا كلّ من موقعه مسألة القدس في علاقتها بالقضيّة الفلسطينيّة ـ جذورًا وأهمّية ومقاربات وأبعادًا ومآلات ـ كما تخلّل تلك الفعاليّات حفل تكريم لحفيد السّلطان عبد الحميد الثاني من طرف حفيد الامير عبد القادر الجزائري الهاشمي…هذه الحركة الرّمزية المعبّرة كان من المفترض أن تكون إكبارًا للتّضحيات الجسام التي قدّمها ذلك السّلطان في سبيل الحفاظ على القدس، وعودةً بالقضيّة إلى مربّعها الشّرعي والسّياسي الصّحيح مربّع دولة الخلافة الإسلاميّة مصداقًا للحديث الشّريف (الإمام جُنّة يُقاتل من ورائه ويُتّقى به)…إلاّ أنّها ابتُذلت وامتُهنت وأفرغت من شحنتها الرّمزية وانتُزعت من سياقها الدّلالي واستحالت مجرّد اعتراف جزائري بجميل السّلطان عبد الحميد الذي آوى الفارّين من المذابح الفرنسيّة في القرن 19م، وشتّان بين ثرى هذا الموقف الوطني الفولكلوري الشّكلي، وثُريّا الدّور الذي اضطلعت به الدّولة العثمانيّة عامّةً والسّلطان عبد الحميد خاصّةً في التصدّي للمؤامرة البريطانيّة الصّهيونيّة لإنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين وطمس هويّتها الإسلاميّة وتهويد مقدّساتها…

إعادة اعتبار

وممّا لا شكّ فيه أن الخلافة العثمانيّة هي دولة مفترى عليها بامتياز: فلم تُجمع الدّراسات التاريخيّة الحديثة الأجنبيّة منها والمحلّية على شيء قدر إجماعها على تشويه سمعة الدّولة العثمانيّة وطمس مآثرها وتضخيم مساوئها ونفي الصبغة الشرعيّة الإسلاميّة عنها وإظهارها في صورة الإمبراطوريّة التركيّة الاستعماريّة الدّمويّة…ولسنا هنا في مقام تفنيد هذه الصّورة النّمطية البعيدة عن الحقيقة التاريخيّة والفاقدة للنّزاهة والموضوعيّة والمصداقيّة العلميّة ـ فالتّاريخ يكتبه المنتصر ـ ولكن مهما قيل عنها تبقى للدّولة العثمانيّة مواقف مشرّفة وأدوار مجزئة شرعًا ومُبرئة للذّمة من قضايا العرب والمسلمين تستعصي عن الطّمس والتّشويه لا ينكرها إلاّ جاهل أو جاحد: وحَسبُك أنّها تلقّفت مشعل الحُكم بما أنزل الله عن الخلافة العبّاسية المتهالكة تحت ضربات المغول والتّتار وحمت بيضة الإسلام وحوزته وحافظت على كيان المسلمين وانتصبت شوكة في حلق الغرب النّصراني طيلة خمسة قرون وحقّقت نبوءة رسول الله في فتح القسطنطينيّة ونشرت الإسلام بين شعوب البلقان..ولا أدلّ على ذلك من أنّ شمال إفريقيا اليوم يدين بهويّته العربيّة الإسلاميّة إلى القادة العثمانيّين الأفذاذ (سنان باشا ـ عرّوج ـ بربروس…) الذين استنقذوه من براثن الإسبان والبرتغاليّين وأعادوه إلى العرين العربي والمحراب السنّي، ولولاهم لكنّا اليوم في تونس ننتمي إلى (إفريقيا اللاّتينيّة)…فمن المعلوم تاريخيًّا أنّه منذ مطلع القرن 19م لم تعد السّياسة التّركية تعكس إرادة الخلفاء ولا تُعبّر عن الموقف العثماني الرّسمي الذي أضحى رهينة بين يدي الماسون والطّورانيّين ويهود الدّونمة وجماعة تركيا الفتاة والاتّحاد والترقّي: فهؤلاء هم الذين خانوا الأمّة وانتهجوا سياسة التّتريك وورّطوا الدّولة في حروب مدمّرة وسلّموا الإيّالات العثمانيّة إلى الاستعمار وباعوا فلسطين إلى الصّهاينة ثمّ سلخوا تركيا عن الإسلام وتركوها مسخًا يركض لاهثًا وراء سراب الانضمام إلى الاتّحاد الأوروبّي دون جدوى…أمّا موقف السّلطنة العثمانيّة الشرعي والرّسمي من مسألة القدس وفلسطين فقد عبّر عنه السّلطان عبد الحميد بحركة مشحونة بالمعاني النّبيلة والقيم السّامية التي كان يجدر بمنتدى (القدس في ضمير الأمّة) أن يقف عندها وينهل من معين عِبَرها الدفّاق إن كان فعلاً صادقًا في أحاسيسه جادًّا في مسعاه…

رموز معبّرة

من المفارقات العجيبة التي تميّز بها هذا المنتدى الحضور المكثّف للرّموز المقدِسيّة النّموذجيّة المعبّرة في مقابل غياب الرّمزيّات التي تحيل عليها: فقد استضاف المنتدى ثلّة من الشّخصيّات المشحونة بالرّمزيّات الواعدة التي كان يُفترض بها أن توجّه المداخلات والنّقاشات والحلول نحو مربّع دولة الخلافة الإسلاميّة بصفتها الإطار الشّرعي والوحيد الذي يجب أن تُحلّ ضمنه مسألة القدس والقضيّة الفلسطينيّة…هذه الشّخصيّات الرّموز هي على التّوالي: الأمير أورهان عصمان أوغلو حفيد السّلطان عبد الحميد الثاني آخر سلاطين آل عثمان العظام، وهي شخصيّة ناطقة بنفسها ولا تحتاج إلى استنطاق، إذ تُذكّرنا ابتداءً بالمواقف المشرّفة لجدّها تجاه القدس وفلسطين ودور مؤسّسة الخلافة في الحفاظ عليهما بصفتها الجهاز التّنفيذي للفكرة الإسلاميّة الذي بسقوطه سنة 1924 ضاعت القدس وغابت الجهة صاحبة الصّلوحية في استردادها…ثاني تلك الشخصيّات الأب إلياس عوّاد راعي طائفة الرّوم الأرثودوكس في رام الله وهو يحيلنا مباشرة على البطريارك صفرنيوس الذي عقد معه الخليفة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه العهدة العُمريّة الشّهيرة قبل أن يُسلّم مدينة القدس إلى المسلمين، ومن أهمّ بنود تلك العُهدة: الأمان للمسيحيّين بصفتهم أهل ذمّة وأن لا يُساكنهم في المدينة المقدّسة أحدٌ من اليهود…ثالث تلك الشّخصيّات الأمير جعفر الهاشمي حفيد الأمير عبد القادر الجزائري ورئيس مؤسّسة التيّار الهاشمي…وللتذكير فإنّ الأمير عبد القادر هو الذي سحب البساط من تحت الدّولة العثمانيّة في الجزائر وشقّ وحدة المقاومة الجزائريّة بما أدّى إلى ضعفها وتشتّت جهودها، كما عقد هُدنة مع القوّات الفرنسيّة بما مكّنها من الاستفراد بقوّات أحمد باي في الشّرق والقضاء على المقاومة الرّسمية العثمانيّة قبل أن تنقذ الهدنة مع الأمير عبد القادر وتنقلب عليه وتبسط نفوذها على كامل القطر الجزائري…وفي كلّ هذه الوقائع ما فيها من رمزيّات سلبيّة متعلّقة بالفراغ الذي يتركه غياب دولة الخلافة وانعكاساته الخطيرة على الأمّة الإسلامية…وهكذا فإنّ هذه الشّخصيّات تشترك ثلاثتها في الرّمزيّة إلى الدّور المحوري للدّولة الإسلاميّة في الحفاظ على القدس كما في استردادها بحيث أنّ هذه المهمّة الجليلة لا يُتصوّر عمليًّا أن تقع خارج إطار الخلافة…فهل نجد صدًى لهذه النّتيجة في المقاربات والحلول المقدّمة في هذا المنتدى..؟؟

رمزيّات ضديدة

من المخيّب للآمال فعلاً أنّ هذه الرّموز المعبّرة عن إسلاميّة القدس وعلاقتها العضويّة بدولة الخلافة ـ وجودًا وعدمًا / حفاظًا واستردادًا ـ قد استُنطقت بل نطقت برمزيّات ضديدة متنافرة مع شحنتها الرّمزيّة ووُظّفت للتّرويج لأجندا صهيونيّة مستهدفة لأولى القبلتين وثالث الحرمين الشّريفين: فباستثناء مداخلة الدكتور محمّد أمين بلغيث (الجزائر) التي بيّنت موقف السّلطان عبد الحميد المشرّف، ومداخلة رئيس مؤسّسة الأمير عبد القادر الدّولية التي تحدّثت عن العهدة العمريّة، فإنّ المداخلات السّبعة قد أسّست صراحةً لتخدير القضيّة وعولمتها وعلمنتها وتعويمها قبل تصفيتها على الطّريقة الإسرائيلية…فقد غاب خطاب الاستعادة والاسترداد الجريء ـ تصريحًا وتلميحًا ـ وحلّ محلّهُ خطاب خجول قصارى ما يطمح إليه (إبقاء القضيّة حيّة في الأذهان) أي تشويه القضيّة في المخيال الشّعبي للأمّة كي تقبل بالتّفريط فيها والتخلّي عنها…أمّا الرّسائل التي وُجّهت في هذا المنتدى فهي أربعة، أوّلاً: مسألة التّعايش السّلمي والتخلّي عن خطاب الكراهية ونبذ الآخر اليهودي وعدم اعتبار القدس إسلاميّة فقط وحريّة ممارسة كافّة أشكال الطّقوس التعبّدية…ثانيًا: القدس ليست قضيّة إسلاميّة، فرمزيّتها ليست دينيّة فحسب ويجب إخراجها من دائرة اللاّهوت السّياسي واليهود هم الذين يريدون تحويل الصّراع من سياسي إلى ديني أمّا نحن فعلينا أن نجعلها عاصمة للضمير العالمي أي لكلّ الملل والنّحل…ثالثًا: القدس مسالة فلسطينيّة بحتة والفلسطينيّون هم المعنيّون بها، والقدس عاصمة للدّولة الفلسطينيّة وهي جزء من الأرض الفلسطينيّة المحتلّة وأهلها يصرّون على كونها مدينة رحيمة ومنفتحة ومتنوّرة…رابعًا: إلقاء البندقيّة ونبذ المقاومة المسلّحة فهي لا تجدي نفعًا أمام عدوّ يمتلك السّلاح النّووي، ولا بديل عن التّواصل مع القوى الدّولية واعتماد أسلوب المقاومة الثقافيّة وسلاح الادب والفنّ والفكر والفلسفة والإعلام…بهذا الخطاب الأرعن الانبطاحي الوقح أثّثت فعاليّات هذا المنتدى المشبوه مُسفرة عن وصفة فعّالة لتصفية القضيّة الفلسطينيّة بشكل جذري وباتّ ونهائي…ولا عجب في ذلك فالمؤسّستان المنظّمتان لهذا المنتدى (مؤسّسة التيّار الهاشمي ومنتدى الجاحظ) لهما ارتباطات أمريكيّة قويّة وصريحة ـ تأسيسًا وتمويلاً وبرمجة ونشاطًا وفكرًا وسياسة ـ فمن الطّبيعي أن ينخرط في التّرويج لمشروع ترامب المتعلّق بتهويد القدس وفرضها كعاصمة أبديّة لكيان يهود…

شهادة للتاريخ

ما قدروا السّلطان عبد الحميد حقّ قدره: لقد كان على وعي تامّ بما يُحاك للإسلام والمسلمين ولم يدّخر جُهدًا لمقاومة المخطّطات الامبرياليّة والصّهيونيّة ضدّ الدّولة العثمانيّة عامّةً وفلسطين خاصّةً فتصدّى لمشاريع الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين وامتلاك الأراضي فيها كموطئ قدمٍ للاستيلاء عليها، كما أحبط محاولات ثيودور هرتزل لمقايضة القدس بأموال اليهود القذرة وقال قولته الشّهيرة (إنّي لا أستطيع أن أتخلّى عن شبر واحد من فلسطين فهي ليست ملك يميني بل ملك الأمّة الإسلاميّة التي روتها بدمائها ،فليحتفظ اليهود بملايينهم وإذا مُزّقت دولة الخلافة يومًا ما فقد يحصلون على فلسطين بلا ثمن، أمّا وأنا حيٌّ فإنّ عمل المبضع في جسدي أهون عليّ من أن أرى فلسطين قد بُترت من جسد الدّولة الاسلاميّة)…ولكنّ إجراءات السّلطان عبد الحميد كانت صرخة في قعر واد: فقد نخر الفساد والرّشوة الإدارة العثمانيّة وتسلّل اليهود والماسون إلى حاشيته وبطانته واضطلعوا بحقائب وزاريّة لاسيما مع حكومة الاتّحاد والتّرقي التي ضمّت أربعة وُزراء يهودا…وبعد نجاح المؤامرة اليهوديّة الماسونية للإطاحة بالسّلطان عبد الحميد سنة 1909 أصدر الاتّحاديّون تشريعًا يقضي ببيع جميع الأراضي السّلطانية في الدّولة بالمزاد العلني، فبلغ عدد المستوطنات اليهوديّة في فلسطين فيما بين 1910 ـ 1914 ما يزيد عن أربعين مستوطنة…أمّا السّلطان عبد الحميد فقد نُفي إلى سالونيك وعُزل عن عائلته وفُرضت عليه الإقامة الجبريّة في شبه سجنٍ، حتّى أنّ أحد المُكلّفين بحراسته أطلق عليه عيارًا ناريًّا لماّ أطلّ برأسه من الشّرفة، ويذكر التّاريخ أنّه لم يكن يقابل زوجته وأبناءه إلاّ مرّتين في السّنة (عيد الفطر وعيد الإضحى) إلى أن لقي ربّه بريء الذمّة من التّفريط في أمانة عمر بن الخطّاب…لقد ضحّى السّلطان عبد الحميد بمنصب السّلطنة والخلافة وبعرش الدّولة العثمانيّة العليّة الممتدّة على ثلاث قارّات وبسمعته وحُرّيته وراحته وعائلته بل وحياته من أجل الحفاظ على مقدّسات المسلمين بينما تُفرّط اليوم القيادة الفلسطينيّة في الأرض والعرض وماء الوجه ومسرى رسول الله ومعراجه من أجل كرسيّ هزيل لسلطة كسيحة ووهم دولة ولقب لا رصيد له على أرض الواقع…أمّا جماعة المنتدى فيصدق فيهم أنّهم باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم فباؤوا بخزي الدنيا وعذاب الآخرة…

كلمة الاستاذ محمد معتز التبيني، رئيس مؤسسة عبد القادر الدولية.

كلمة الاستاذ محمد معتز التبيني، رئيس مؤسسة عبد القادر الدولية

كلمة الاب الياس عواد، راعي طائفة الروم الارثوذكس في رام الله.


كلمة الاب الياس عواد، راعي طائفة الروم الارثوذكس في رام الله

كلمة السفير الفلسطيني بتونس، الاستاذ هشام فارس مصطفى

كلمة السفير الفلسطيني بتونس،
الاستاذ هشام فارس مصطفى

بسام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This