منظمات المجتمع المدني: الخطر الساري

منظمات المجتمع المدني: الخطر الساري

 مقدمة عامة: رغم أنه لا يخفى، على التابع الحصيف، أن مفهوم المجتمع المدني، في الفكر السياسي الغربي، هو تخليص مجال السياسة من إرث العصور الوسطى المسيحي الكنسي ـ الكهنوتي ـ، وضد الوصاية السماوية، الوهمية التي كان يدعيها رجال دينهم وملوكهم، كما عبر عن ذلك مفكروهم، إلا أن المثير للشفقة هو قبول رهط من أبناء الأمة أن يساووا دينهم الذي قامت عقيدته على العقل ووافقت فطرة الإنسان وقامت شريعته على الوحي كتابا وسنة، بدين قامت عقيدته على التزييف والتحريف للحقائق، فصارت دعوتهم لفرض المفاهيم الغربية والدعوة لإقامة المجتمع المدني عنوان على تحضُّرهم، مع ما يشاهدون من إصرار المنظمات الدولية والجهات المانحة على الدفع بالمجتمع المدني التونسي نحو إلزام مجتمعهم بالديمقراطية والقيم الليبرالية، رغم زعمهم العمل على التخلص من ربقة الاستعمار وسطوة نفوذه على بلادهم.

وأمام هذا الخطر الذي أكسب المشروعية القانونية، تحت دفع المنظمات الدولية وبقوة نفوذها المالي، واستعداد ثلة من السياسيين والمثقفين بقبول أي ناعق، تحت مسمى فصل الدين عن السياسة، كان “ملف جريدة التحرير” لهذا الشهر تحت عنوان: “منظمات المجتمع المدني: الخطر الساري”، تعرية للحقائق، وتبيانا أن طريق الانعتاق لا يمر قطعا عبر التبعية الفكرية والسياسية، وأن أموال الرشوة، لا تزيد الملتحف بها إلا قذارة.

:::::::::::::::::::

الموضوع الأول: البيئة الحاضنة للمجتمع المدني

مصطلح المجتمع المدني نشأته وأسسه ومحيطه

في تعريفه للمجتمع المدني يقول الدكتور كمال عبد اللطيف: (اقترن المجتمع المدني بالمجال الدنيوي، حيث يتخلص مجال السياسة من إرث العصور الوسطى المسيحي الكنسي، أي من هيمنة المقدس، وتصبح الدولة والقوانين والمؤسسات نتاجاً للتجربة التاريخية المستقلة عن مجال الروحي في صورته الدينية… وقد أوضح كل من جون لوك وجان جاك رو سو أهمية المجتمع المدني كمحصلة للتعاقد في تنظيم المجتمع، انطلاقاً من شرعية المصلحة، وضد كل وصاية سماوية)

هذه المنطلقات تبين البيئة الحاضنة لمصطلح المجتمع المدني، من حيث السياق التاريخي والفكري والسياسي. حين خلّص صراع رجال الدين ضدّ فلاسفة عصر الأنوار في أوروبا إلى فكرة فصل الدين عن الدولة تزامنا مع انتهاء الحروب الدينية ونشوء الدولة القومية الحديثة في أوروبا.

انبثقت عن نشوء الدول القومية الحديثة في أوروبا معاهدة سلام “ويستفاليا” المنعقدة عام 1648 التي تُعدّ من أهم الاتفاقيات الدولية في التاريخ الحديث لأنها أرست القواعد المؤسسة للعلاقات الدولية المعاصرة، و أسست للنظام الدولي “الأوروبي”. كما كان لهذه الاتفاقية الأثر في إيقاف المد العثماني في أوروبا ليتحول  الصراع الأوروبي الإسلامي إلى داخل أراضي الخلافة الإسلامية بأبعاده العسكرية والفكرية والسياسية.

رغم التباين التشريعي والعقدي بين النظام السياسي الإسلامي ونظام الإستبداد الديني في أوروبا، إلا أن دور منظمات المجتمع المدني المحلية والمغلّفة بالاستعمار كان فعالا في الإطاحة بالخلافة العثمانية ونشوء دول قومية ووطنية على طول البلاد الإسلامية.

نتعرض لأهم المنظمات التي عكست المعادلة حيث أن هذه المنظمات كانت أداة نهضة وبناء في أوروبا وانتكاس وهدم في الأمة الإسلامية:

جمعية الاتحاد والترقي.. منظمة علمانية تركية أسقطت الخلافة العثمانية

“الاتحاد والترقي” منظمة تركية ثورية تأسست باسم “جمعية الاتحاد العثماني” في 2 يونيو/حزيران 1889، ثم  اسمها عام 1915، وسعت إلى تغيير نظام الحكم بدعوى إقامة “دولة ديمقراطية حديثة”.

استطاعت الجمعية عزل السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909 والوصول إلى الحكم، وتبنت الفكر القومي وسارت وفق المذهب العلماني في سن التشريعات والقوانين.

وشكلت حكومة الحزب الواحد، وقمعت المعارضة منذ العام 1913 حتى حلت نفسها بعد الهزيمة في الحرب العالمية الأولى عام 1918.

المنظمات العربية

كان لعديد المنظمات والجمعيات السرية العربية، التي أقيمت تحت إشراف هيئات أوروبية ورجال مخابراتها دور في نشر الأفكار القومية، والعمل على هدم الخلافة، كالجمعية القحطانية، وجمعية «العربية الفتاة»، والمنتدى الأدبي، وجمعية العهد، وجمعية الإصلاح، والجمعية الخيرية، قام عليها أشخاص يمثلون كافة الطوائف والأحزاب المذاهب، لإيجاد كيان عربي مستقل في بلاد المشرق العربي.

تمثِّل منظمات المجتمع المدني والجهات التي تموِّلها إحدى أدوات هذا الصراع العالمي والتاريخي ضد الأمة الإسلامية، وإن كانت تلك الأدوات تستخدم في البلدان الغربية في سياق تنموي إصلاحي.

هذا الاستعراض التاريخي لتطور مصطلح المجتمع المدني يفضي إلى خلاف جوهري بين الخلفية التي احتضنت تطور هذا المفهوم في الغرب وبين الخلفية التاريخية للأمة الإسلامية، التي ظلت  محافظة على نمط الحياة الإسلامية ولم ترتضي عنه بديلا  بينما تاه نمط الحياة الغربية ما بين هيمنة الكنيسة واستبداد الملوك من جهة ونظريات الفلاسفة والمفكرين من جهة ثانية، مما أفضى إلى انقلاب كلي  في المجتمع الغربي الأوروبي بناء على أسس وضعية أو استناداً إلى فلسفات تاريخية ونظريات سياسية جديدة.

إذا، فالخلفيّتين التاريخيتين للأمة الإسلامية والغرب مختلفتان تماماً، فلا يمكن بأي حال اعتبار هذه المفاهيم إرثاً إنسانياً مشتركاً. وبالتالي تسقط عملية القياس الفكري والاصطلاحي  للتباين الجلي بين الحضارتين  ولانتفاء المبرّر لاستيراد مصطلحات نمت وترعرت في بيئة ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة بعيدة كل البعد عن التاريخ الحضاري للأمة الإسلامية؛ ولذلك يتساءل المفكر المغربي محمد عابد الجابري: «بأي معنى، حتى لا نقول «بأي حق»، يمكن نقل هذا المفهوم إلى مجتمعات لم تعش هذه التطورات مثل المجتمع العربي» في إشارة إلى ارتباط المجتمع المدني بالتطورات الثقافية في أوروبا.

لا يختلف السياق التاريخي لمفهوم المجتمع المدني عن الممارسات الميدانية، فكما أنتجت الحضارة الغربية القائمة على فكرة فصل الدين عن الدولة وما انبثق عنها من نظم اجتماعية وسياسية، كان من إفرازاتها مؤتمر واستفاليا الذي شكل أسس النظام الدولي الحديث، وما يُسمى بالقانون الدولي القائم منذ نشأته إلى نسخة الأمم المتحدة الحالية على وجهة النظر الغربية والمناقضة لكل نظام حكم، على غرار نظام الحكم الإسلامي. وقد انكشف هذا الأمر بوضوح بعد عام 2008، أي بعد مجيء أوباما للحكم في أمريكا، مع أن إرهاصاته ظهرت قبل ذلك، فقد أشارت وحدة الرصد إلى هذا الأمر في أكثر من بحث لها، ووثقته بأدلة قوية في بحث إستراتيجية الولايات المتحدة تجاه العالم الإسلامي من خلال خطابات أوباما، استنفار أمريكي عالمي للقضاء على مشروع الخلافة والإسلام.

كان تركيز السياسة الاستعمارية الغربية لبلاد المسلمين، وبخاصة الأمريكية، في العقود الأخيرة على إحكام سيطرتها وفرض الثقافة الغربية ومفاهيمها عبر التدخل المباشر في قضايا الناس وشؤونهم وحاجتهم التفصيلية، وعدم الاكتفاء بالركون إلى تبعية الحكام والحكومات وقادة الجيوش والمتنفذين في الدولة. وذلك لأنهم لمسوا بعد حوالي نصف قرن أو أكثر من هذه الهيمنة، أنهم فشلوا في التأثير الثقافي والفكري في الشعوب، أو في الحرب الناعمة، وخسروا الحرب الفكرية. لذلك قرروا إضافة الهيمنة على الشعوب بشكل مباشر من خلال مؤسسات دولية ومحلية، ومنظمات مجتمع مدني، ومن خلال برامج ومشاريع تحت إشراف وتوجيه حكومي.

::::::::::::::::::::::::::::::::::

الموضوع الثانيمنظمات المجتمع المدني: الخطر الساري الذي أُكسب الشرعية الدستورية

لعل من أشد ما ابتليت به ثورة الأمة في القطر التونسي منذ بداياتها، تصدر طيف كبير من أركان النظام الذي ثار عليه الناس، عملية التأثير في حراك الشارع، ورسم الأسس التي تحدد القواعد التي يجب أن تدار بحسبها حركة المجتمع. فكان إسناد إدارة شأن الناس إثر فرار المخلوع، إلى رئيس برلمانه فؤاد المبزع، بدلا من رئيس الوزراء محمد الغنوشي الذي عين ابتداء لقيادة المرحلة الانتقالية، فكان هذا التعيين هو المكر الأعظم الذي أحاط بالثورة، حيث كان هذا التكليف أول مظاهر تثبيت النظام الذي تحركت جماهير الناس من أجل إسقاطه والتخلص من ويلاته، وإقصاء أي أثر لإرادة الثائرين في تحديد مستقبل البلاد، ليسوس البلاد بالمراسيم. فكان من ضمن تلك المراسيم، المرسوم عدد 88 لسنة 2011 والمؤرخ في 24 سبتمبر 2011 والمتعلق بتنظيم الجمعيات، وباقتراح من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، التي يرأسها السيد عياض بن عاشور أستاذ القانون العام. هذا المرسوم الذي أصدر في سياق القطع مع كل مظاهر الاستبداد والتفرد بالسلطة، فصار تأسيس الجمعيات يخضع إلى نظام التصريح. وما على الرّاغبين في تأسيس أي جمعية إلا أن يرسلوا إلى الكاتب العام للحكومة مكتوبا مضمون الوصول مع الإعلام، وتعتبر الجمعية مكونة قانونا من يوم إيداع الإعلان بالمطبعة الرسمية للجمهورية التونسية، وتكتسب الشخصية القانونية انطلاقا من تاريخ نشر الإعلان بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية وجوبا في الرائد الرسمي في أجل خمسة عشر (15) يوما انطلاقا من يوم إيداعه. فيكون بذلك قد ضمن هذا المرسوم حرية تأسيس الجمعيات والانضمام إليها والنشاط في إطارها وإلى تدعيم دور منظمات المجتمع المدني وتطويرها والحفاظ على استقلاليتها.

إنه وإن كنا لسنا بصدد مناقشة مشروعية وحق تكوين الجمعيات ووجوه الصدق فيها، فإن العجيب والغريب ما ورد في الباب الثالث من هذا المرسوم، والمتعلق بالجمعيات الأجنبية، والحال أن السياق يتعلق بالتأسيس للخروج بالناس من درك الذل و الهوان، بل ومن التبعية، فإذا بالمرسوم عدد 88 لسنة 2011 والذي قام على إصداره رئيس مجلس نواب الفارّ بن علي، وبتوصية من عياض بن عاشور رئيس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، وهو الذي قد أجاب يوما عن سؤال لصحافي فرنسي عن عقيدته فأجاب بأن عقيدته وقناعاته هي الديمقراطية، قد فتح باب البلاد واسعا لهتك أسوارها، وضرب مناعتها أمام كل عدو، كان من المفترض أن الثورة في تونس، اتقد أوارها للقطع نهائيا مع أي تدخل أجنبي، ومع الأعداء المعلومة عداوتهم تحديدا. فجاء هذا الباب ليسمح للجمعيات الأجنبية بتأسيس فروع لها، في بلادنا، وفق أحكام مرسوم الجمعيات “الوطنية”، وهو الذي عرّف الجمعية الأجنبية بأنها فرع لجمعية مؤسسة بموجب قانون دولة أخرى (هكذا). فيتأسس فرع الجمعية الأجنبية في تونس وفق أحكام هذا المرسوم، وذلك إضافة أن لكل شخص طبيعي، أجنبي مقيم في تونس، حق تأسيس جمعية أو الانتماء إليها، كما يحق للجمعية الأجنبية أن تؤسس في تونس فروعا لها. وبما أن قانون الجمعيات هذا يسمح لأي جمعيتين أو أكثر تأسيس شبكة جمعيات، فلا غرابة أن تكون هناك شبكة جمعيات تشكلت بين عدد، الموقر. منظمات تونسية وأخرى أجنبية وفق أحكام مرسوم منظمات المجتمع المدني.

“ولضمان وجود الأرضية المناسبة التي تخول لمنظمات المجتمع المدني أداء الأدوار التي لا بد أن تضطلع بها في جميع المجالات محليا وجهويا ووطنيا ودوليا. وبالنظر إلى تنوع وتعدد أدوار منظمات المجتمع المدني ومن أهمها الاقتراح والضغط والرقابة” صار لزاما “أن تتمتع بحقها في النفاذ للمعلومات والبيانات وبحقها في حرية التعبير دون تخويف أو قمع من السلطة ودون المساس بحرمة الناشطين فيه. وإذا أردنا للمجتمع المدني أن يؤدي رسالته ويكون فاعلا ومؤثرا إيجابا في الواقع، فينبغي أولا تقييم مدى سلامة البيئة العامة التي ينشط فيها ومدى مراعاة خصوصيته ومكانته في المجتمع وفي الدولة تشريعا وممارسة.” وإذا أخذنا منظمة “أنا يقظ” والتي أصبحت منذ نوفمبر 2013، نقطة الاتصال الرسمية لمنظمة الشفافية الدولية بتونس، كمثال، على جملة المنظمات المؤسسة خارجيا والتي أصبحت لها فروع في تونس، حق لنا التساؤل عن الدور الذي تؤديه هذه المنظمات في بلادنا وهي التي أصبحت بحكم قانون التأسيس، غير مسؤولة أمام أحد إلا أمام مؤسسيها بمقتضى قانونها الأساسي، فالسؤال المشروع الآن، ما هي نوعية التقارير التي ترفعها تلك الفروع للمراكز مقابل الرعاية ومقادير التمويلات التي تغدق عليها؟

إلا أن الغرابة تزداد، ومجال الحيرة يتسع، حين يتساءل المرء عن ماهية هؤلاء الذين سنُّوا مثل هذه المراسيم وما الذي أرادوه من خلالها، وهم يرهقون أسماع الناس بالضمير الوطني وحماية السيادة الوطنية، حين يطلع على الأحكام المالية لمرسوم الجمعيات هذا، فيعرّف موارد الجمعية بأنها تتأتى من اشتراكات الأعضاء، والمساعدات العمومية، والتبرعات والهبات والوصايا، وطنية كانت أو أجنبية. وإن غُلّف الأمر بأنه يحجر على الجمعيات قبول مساعدات أو تبرعات أو هبات صادرة عن دول لا تربطها بتونس علاقات دبلوماسية، فإن أبواب البلد قد أشرعها هؤلاء لكل عدو، يدس عليها ما شاء ويشتري الذمم الضعيفة بعرض زائل من حطام الدنيا، فلا حسيب ولا رقيب بما أن قذارة هذه الأموال قد طهرتها إرادة الدستور وقوانينه مادمت تسلك طريقها إلينا عبر بوابة البنك المركز بكل شفافية ووضوح ومادام الدستور الهمام قد اشترط عدم تمكين الأحزاب السياسية من التنعم ببركاتها، وهو الذي لم ينسى أن يسمح لهذه المنظمات بحق تملك العقارات بالقدر الضروري لاتخاذ مركز لها ومراكز لفروعها أو محل لاجتماع أعضائها أو لتحقيق أهدافها وفقا للقانون، طبعا.

 ومع كل هذه الأخطار التي تتهدد البلاد بمثل هذه القوانين فإن سلطة 25 جويلية 2021 لم تر في الفصل الذي يسمح لأي جمعية أجنبية قائمة بموجب قانون دولة أخرى، بتأسيس فرع لها في تونس، فأبقت عليه وأدخلت في مشروع التنقيح الذي لم يعرض بعد رسميا، إلا بقدر ما يسمح للسلطة التنفيذية التدخل حيث ترى أن لها مصلحة في ذلك، بإدراجها عبارات فضفاضة تحتمل كل تأويل ممكن كالحديث بضرورة أن تلتزم المنظمة المعنية بالمؤاخذة بما يضمن عدم “تهديد وحدة الدولة أو نظامها الجمهوري والديمقراطي”، أو الالتزام بـ “النزاهة والحرفيّة والضوابط القانونيّة والعلميّة المستوجبة”.

منظمات المجتمع المدني “حصان طروادة” الذي اخترق الحصن!!

إن لقصور نظام فصل الدين عن الحياة، وعجز دولته عن الرعاية الحقيقية لشؤون الناس، الأساس الرئيس في الترويج لفكرة المجتمع المدني، تلافيا لذلك القصور وسدا لعجز الدولة، وتحميلا للناس شأنا ليس من طبيعتهم . وفي الوقت الذي يقرر فيه الفكر الغربي فلسفة إيهام الناس مشاركتهم الدولة في الرعاية، فإن الإسلام حث في هذه الحالة على أن تقوم الأحزاب والعلماء بالمحاسبة، أي محاسبة الدولة على هذا التقصير من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ثم إلزامها بالرعاية. وهذه المحاسبة هي رعاية سياسية نظرية وليست تنفيذية، فالإسلام لا يوجّه الناس في هذه الحالة لأن يقوموا هم بالترقيع وجبر العجز ميدانياً. وهذا فرق جوهري في النظرة للرعاية وتنظيمها بين الإسلام والرأسمالية: نظرة تقوم على المحاسبة السياسية لإجبار الدولة على الرعاية التنفيذية، في مقابل نظرة تقوم على جبر تقصير الدولة من خلال تفهّم هذا التقصير وإعفاء الدولة من مسؤولياتها والتلبس بالرعاية الميدانية.

تكمن خطورة الدعوة للتنمية في طبيعة وتصنيف موضوعاتها، التي تتجاوز في العديد من الحالات المسائل المدنية ومهارات وتطوير الأساليب والأدوات، إلى الموضوعات الحضارية أو الثقافية، فيتم إدراج مفاهيم الديمقراطية والمساواة وحوار الأديان والتطرف والموضوعات الاجتماعية ضمن أساسيات التنمية.

إن حقيقة استغلال وتسخير الدعوة الغربية للعمل التنموي هذا في سياق محاربة العمل الإسلامي المخلص لتغيير واقع الأمة ليس اختلاقاً أو توقّعاً أو تحليلاً، بل إن توثيقه الصريح الصحيح أكيد في المنشورات الغربية، وقد برز ضمن دراسات إستراتيجية تنص بشكل سافر على ذلك، فمثلاً جاء الحثّ على موضوع التنمية صريحاً ومباشراً، واعتبر من ضمن الخيارات الرئيسة أمام أميركا لمواجهة ما يسمّونه التطرف الإسلامي، كما يطرح كتاب «العالم الإسلامي بعد 11/9»، فضمن بنود الخيارات المتاحة التي تم اقتراحها في ذلك الكتاب، ورد تحت بند «تطوير فرص اقتصادية»، وبعد الحديث عن تأثيرات الوضع الاقتصادي وشح فرص عمل الشباب على دفعهم نحو «التطرف»، يوصي الكتاب خيراً بالمنظمات غير الحكومية بالقول: «إن تقديم خدمات اجتماعية بديلة في أماكن عديدة يمكن أن تساعد بشكل مباشر في إضعاف تقبّل الناس للمنظمات الراديكالية (المتطرفة)… هنالك حاجة لتوجيه المساعدة الأميركية والمصادر العالمية باتجاه قنوات مناسبة للظروف المحلية، ولتوسيع الاعتماد على المنظمات غير الحكومية، من خلال العلاقات القائمة في البلدان المستقبلة (للمنح). إن دعم التعليم والبرامج الثقافية التي تدار من قبل منظمات علمانية أو إسلامية معتدلة يجب أن يحظى بالأولوية لمواجهة الجماعات المتطرفة».

وللأسف يقع بعض المسلمين في هذا «المطبِّ» السياسي،مع افتراض «حسن النية» في هذه التوجهات نحو التنمية من خلال مؤسسات المجتمع المدني، وتحسين ظروف الحياة لدى الناس، فإنه لا بد من التأكيد أن مثل هذا العمل خطير من حيث البعد السياسي.

وناقش إصدار مركز المجتمع المدني في بريطانيا، فكرة تسخير المجتمع المدني لخدمة الأهداف الغربية، حيث طرح تساؤلات وعلّق عليها بما ترجمته «تساؤلات تعبر في الحقيقة عما نحاول إيصاله وهي: هل فكرة المجتمع المدني هي فقط جزء من مشروع إمبريالي جديد لفرض سيطرة الغرب؟ أم أنه يتعلق «بردكلة» الديمقراطية (radicalization of democracy) وإعادة توزيع القدرة السياسية؟ وهل الغرب منحاز لدى التفكير بالمجتمع المدني على أساس علماني، ولدى توافقه بشكل رسمي على منع الاعتراف بالأشكال المحلية للمجتمع المدني؟ هل من المفيد أخيراً التفكير بمجتمع مدني عالمي كمفهوم معياري يجمع مفاهيم اللاعنف والتضامن والمواطنة العالمية الفعّالة؟».

إن هذه الأسئلة التي يطرحها الكتاب «الغربي» هي في الحقيقة أسئلة موضوعية تستأهل أن يقف أمامها حملة الإسلام وقفات طوال! فالتحريك السياسي للمجتمع المدني منبعه غربي وأهدافه غربية، وإن حققت بعض المشاريع للمجتمع المدني جوانب تنموية تسهم في تحسين بعض ظروف العيش للناس في البلاد الإسلامية، وهي منجزات خدماتية على الأرض وليست موضوع استهداف سياسي هنا.

ليس ثمة من شك في أن المبدأ الرأسمالي القائم على النفعية والأنانية عديم من الدوافع الإنسانية، فإن نهب خيرات الشعوب، وبسط الهيمنة والسيطرة، وشن الحروب على الأمة الإسلامية، وهذه الهجمة الوحشية على أفغانستان والعراق ودعم كيان يهود إلا أمثلة عملية للنزعة الاستعمارية لدى الغرب، وكل ذلك يتعارض بشكل واضح مع إدّعاء إمكانية وجود رسالة إنسانية يسعى الغرب لتحقيقها في الناس، ويحرص من خلالها على التنمية. ولذلك فمن المقطوع به أن محاولات ترويج هذا المفهوم وتفعيل أطره هي جزء من عمليات اختراق الأمة للحفاظ على ديمومة خضوعها، وهي من منطلق نفعي بحت من قبل أرباب الرأسمالية.

الموضوع الرابع: منظمات المجتمع المدني وطُعمة “الزقوم”، لتوهين الوعي الإسلامي

ليس ثمة مجال للشك في أن الدافع في ترويج المجتمع المدني هو لمقاومة التحرك الإسلامي وإعاقة مشروعه الحضاري النهضوي، بذريعة مقاومة الحكم الأحادي الشمولي، مما سهّل إلقام هذا الطُعم للفاعلين السياسيين وللقوى السياسية الفاقدة للبديل الحضاري المبدئي.

هذا السياق السياسي والتاريخي للمجتمع المدني لم ينفصل البتة عما يشهده العالم من صراع مرير بين الثقافات والحضارات، حيث تستخدم العديد من الوسائل من قبل الدول الأقوى للهيمنة على الدول الضعيفة،  لصرفها عن الانعتاق الحقيقي من التبعية الفكرية والسياسية، ومن ثم لإعاقتها عن صناعة النهضة على أساس ثقافتها. فكان لعامل المال دور كبير في التأثير على بعض القوى المحلية في إعاقة عملية الانعتاق وراكمت أسباب التبعية. ففي تقرير بتاريخ 2/3/2013 كشف المستشار عبد العزيز الجندي وزير العدل المصري، النقاب عن أن هناك 181مليونا و774 ألف جنيه “أموالا سرية” تلقتها 102 منظمة أهلية في مصر مؤخرا من عدّة دول ومنظمات أجنبية كالمعهد الجمهوري الدولي، والمعهد الديمقراطي، و”فريدم هاوس” والمركز الدولي للصحافيين، وهذه جميعها أميركية، أما الخامسة فهي منظمة “كونراد أديناور” الألمانية.

     كانت بوادر الجمعيات المدنية التونسية ك”الجمعية الخلدونية”، سنة 1896 ثم جمعية “قدماء المدرسة الصادقية”. أول محاضن استقطاب النخب التونسية نحو الثقافة الغربية ولخدمة المشروع الاستعماري، وإن تدثرت  أغلب المنظمات والجمعيات التي برزت في البدايات بصفة “التونسي” أو “الإسلامي” عند اختيار اسم للجمعية أو المنظمة. فقد شهدت تونس خلال الأربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الفائت، ميلاد أغلب المنظمات الكبرى التي ما زالت موجودة وفاعلة إلى اليوم: “الاتحاد العام التونسي للشغل” (1947)، “الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة” (1948)، “الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري ” (1949)، “الاتحاد العام لطلبة تونس” (1952)

لإن تميز حكم بورقيبة بإقصاء أي نفَس معارض واحتواء كل ما يمكن أن يكون “سلطة مضادة”، فعمل على تدجين “المجتمع المدني” وتحويل هيئاته إلى ملحقات للحزب الحاكم وأجهزة تابعة للدولة. ولإن تعامل بن علي مع هذا “المجتمع المدني” بسياسة الإغراق وتجفيف المناب، فإن هذا المجتمع المدني، أصبح السلاح الأبرز، والأشد فتكا، بيد الاستعمار وماكينته الإعلامية والسياسية في تونس “الثورة”، كنموذج لديمقراطية ناشئة وكبديل عن الحلّ العسكري المعتمد في سائر البلاد العربية الثائرة. هو سلاح سياسي بامتياز يعتمد على أرضية تركتها الدكتاتورية العميلة التي حكمت البلاد بالحديد والنار وفسحت مجالا للاستعمار ليبث سمومه ويتمّم ما عجز عنه أيام الاحتلال المباشر فشكّل على عين بصيرة نخبا سياسية متنوعة يمينا ويسارا تدين له  وللنظام الدولي بالولاء التام، إذا ما كان عدد الأحزاب التي تمّ تأسيسها بعد الثورة تجاوز المائتين، فإن مكونات المجتمع المدني الجديدة تعد بالآلاف. تنشط الجمعيات والمنظمات الجديدة في كل المجالات، لكن أغلبها في المجال الثقافي/الفكري/ الفني (بنفَس ايديولوجي واضح) والنقابي والخيري/الدعوي والحقوقي.

سمح المناخ الجديد بظهور جمعيات ومنظمات تُعنى بقضايا كان من شبه المستحيل الحديث عنها من قبل: جمعيات تعنى بمراقبة الانتخابات والحملات الانتخابية، مراصد لمحاربة الفساد، جمعيات تراقب العمل الحكومي والنيابي والرئاسي، جمعيات تدافع عن حقوق الأقليات “العرقية” كالسود والأمازيغ، وأخرى تدافع عن الحريات الجنسية وحقوق المثليين، جمعيات وتنسيقيات ذات بعد اجتماعي – اقتصادي نضالي تهتم بالحركات الاحتجاجية وظروف العمل والهجرة غير النظامية وحقوق المهاجرين وطالبي اللجوء في تونس.

علاوة على المستجدات الدولية التي ساهمت في إضفاء الشرعية على عمل منظمات ما يُسمى بالمجتمع المدني وأوكلت لها دورا محوريا وفعّالا في تحقيق أهداف وبرامج هذه الاتفاقيات الاستعمارية, فقد أوكل تجسيد هذه  الفكرة الخبيثة، في الواقع التونسي إلى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي بإصدار المرسوم عدد 87 لسنة 2011 المتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية في تونس الذي جاء في فصله الأول ما يلي: “ـيضمن هذا المرسوم حرية تأسيس الأحزاب السياسية والانضمام إليها والنشاط في إطارها ويهدف إلى تكريس حرية التنظيم السياسي ودعم التعددية السياسية وتطويرها وإلى ترسيخ مبدأ الشفافية في تسيير الأحزاب السياسية”.

كما جاءت القوانين والتشريعات المتعلقة بالجمعيات مُتماهية مع الحدث بأن جعلت من تونس مركزا إقليميا وفتحت الباب على مصراعيه للجمعيات بمختلف أطيافها وألوانها ,المحلية والدولية الحكومية والغير حكومية للنشاط على عديد الواجهات وفي شتى المجالات.

جاء في الباب الثالث من المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المتعلق بالجمعيات الأجنبية ما يلي:

الفصل 20 ـ الجمعية الأجنبية فرع جمعية مؤسسة بموجب قانون دولة أخرى. تثبت بوثيقة رسمية أن الجمعية الأجنبية الأم مكونة قانونا في بلدها.

الفصل 24 ـللجمعية الأجنبية أن تؤسس في تونس فروعا لها وفق أحكام هذا المرسوم.
الفصل 25 ـ تخضع الجمعيات الأجنبية في ما عدى أحكام هذا الباب لنفس نظام الجمعيات الوطنية.

في مقابلة خاصة نشرھا موقع وزارة الخارجیة البريطانیة بالعربیة السفیر هامیش كوال، إن “العلاقات البريطانیة التونسیة تحولت بنفس الطريقة التي تحولت بھا تونس منذ الثورة”، موضحاً:”تضاعف عدد الدبلوماسيين البريطانیین في السفارة ثلاث مرات تقريباً منذ سنة 2011، أضاف: “عقب قیام الثورة أنشأت بريطانیا برنامج “الشراكة العربیة” لتمويل مشاريع ثنائیة تبلغ قیمتھا ما يزيد عن 8 ملیون جنیه إسترلیني في مجالات “الإعانات العملیة الانتخابیة،والمشاركة السیاسیة، ومكافحة الفساد، وحرية التعبیر، والتكوين الصحفي والاستثماري والتشغیل” “. وقال: “كما أود أن أعزز أعمال “المركز الثقافي البريطاني” الداعمة للانتقال الديمقراطي من خلال تعزيز إمكان توظیف الشباب ودعم المجتمع المدني”

معهد واشنطن يعدّ مرسوم 88/2011 مكسبا.

مما ورد في توصيات خبراء معهد واشنطن بتاريخ 23/1/2023، حول الوضع السياسي في تونس بعد 25 جويلية وللتأكيد على ضرورة المحافظة على المرسوم 88 لسنة 2011، وأهميته للأجندة الأمريكية في تونس، القول إن: “مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط :بخلاف الحالات الأخرى في الشرق الأوسط، لم يتدخل الغرب بشكل كبير في تكوين المجتمع المدني في تونس. لكن الجهات المانحة أخطأت من ناحية حاسمة، وهي أنها وضعت توقعات غير واقعية بأن المجتمع المدني يستطيع التغلب على الانقسامات الطويلة الأمد في تونس من خلال برامج المساعدات الخارجية المتواضعة. وأمام ثبات أهل البلاد أمام هذه المحاولات لكسر إرادته وعجز هذه الأدوات الرخيصة على مسخ هويته تدعو مراكز الدراسات الاستعمارية إلى أنه “يمكن للولايات المتحدة وأوروبا والجهات المانحة الأخرى دعم المجتمع المدني التونسي عبر التصدي للإجراءات القانونية التي تمنعه من العمل بحرية.. وينبغي نقل هذه الرسالة بوضوح من خلال القنوات الدبلوماسية، مع تجنب النهج المتعرج الذي اتبعته سابقاً إدارة بايدن إزاء الأحداث في تونس. ” وعلى ذلك لم تتحرج السفارة الأمريكية بتونس يوم 9 جوان 2023 أن تدعو جميع منظمات المجتمع المدني المحلية، والجمعيات المهنية، ومنظمات القطاع الخاص، والجامعات المسجلة في الرائد الرسمي التونسي والراغبة في الحصول على منحة محلية قيمتها 500,000 دولار، مادام الدستور والقانون أباح لها ذلك.

أخطبوط المنظمات الألمانية في تونس

تعتبر منظمات المجتمع المدني من أهم الأدوات التي تعتمدها الدبلوماسية الألمانية للتأثير في السياسة الداخلية التونسية وتوجهيها.

لن نبالغ كثيرًا إن قلنا إن المجتمع المدني التونسي التقليدي طالته عملية الاختراق الألمانية الأمريكية بامتياز. منذ العام الأول للانتقال الديمقراطي سارعت مختلف جمعيات الأحزاب الألمانية الوقفية للانتصاب في تونس بالإضافة لوجود منظمات ألمانية مهمة أخرى تنشط منذ عهد بن علي مثل المؤسسة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ)، معهد غوته، الهيئة الألمانية للتبادل الثقافي  (DAAD)، الحجرة التونسية الألمانية للصناعة والتجارة (AHK)…. تقول ايزابيل فيرنفالس (محللة ألمانية مختصة في الشأن التونسي): يعتبر استقرار وازدهار تونس مهمَّيْن بالنسبة لألمانيا خاصة أنهما يؤديان إلى انخفاض موجات الهجرة للشمال.

الملاحظ لنشاط الجمعيات الألمانية في تونس يستنتج أن هناك تقسيمًا واضحًا للأدوار وتكاملًا بينها. فكل جمعية تركز عملها في مجال معين وهذا ينطبق أيضًا على جمعيات الأحزاب الألمانية. فبينما يركز مركز كونراد أداناور الوقفي (التابع للاتحاد الديمقراطي المسيحي) على التعامل مع الأحزاب اليمينية ومنظمة الأعراف مثلًا، يركز مركز فريدريش إيبارت الوقفي (التابع للحزب الاجتماعي الديمقراطي) على التعامل مع اتحاد الشغل والقوى اليسارية. مركز هاينريش بول الوقفي (التابع للخضر) يركز على قضايا المرأة والجندرة والأقليات كما أنه يمول جمعيات مراقبة الانتخابات وجمعيات الرقابة البرلمانية (البوصلة). مركز روزا لكسينبورغ الوقفي (التابع لحزب اليسار التقليدي) قريب من أحزاب أقصى اليسار في تونس. أما مركز فريدريش ناومان الوقفي (التابع للحزب الديمقراطي الليبرالي) يحاول من جانبه التعريف بالأفكار الليبرالية.

بالنسبة لجمعيات الرقابة المعروفة في ألمانيا مثل منظمة الشفافية الدولية فقد ساهمت في تكوين وتمويل وإنشاء جمعية تونسية مماثلة هي جمعية “أنا يقظ”. أما بشأن جمعية “البوصلة” فقد تلقت التدريب والتمويل من جمعية رقابة برلمانية ألمانية هي Abgeordnetenwatch. كما أنها تتلقى تمويلًا من السفارة الألمانية.

CATEGORIES
Share This