منظمة الفرنكوفونية: بوابة استعمارية، وما خفي كان أعظم…

منظمة الفرنكوفونية: بوابة استعمارية، وما خفي كان أعظم…

صادق مجلس نواب الشعب، يوم الثلاثاء 30 جوان 2020، على مشروع قانون أساسي عدد 2019/57 يتعلق بالموافقة على اتفاق مبرم في 15 أفريل 2019 بين حكومة الجمهورية التونسية والمنظمة الدولية للفرنكوفونية بشأن انتصاب مكتب إقليمي لشمال افريقيا للمنظمة بتونس برمّته.

وقد أثار هذا الموضوع جدلا واسعا وردود فعل متباينة داخل البرلمان وخارجه، تراوحت بين الدفاع عن هذا الخيار بوصفه أمرا ضروريا لانفتاح تونس ودعم حضورها الثقافي بالخارج وهو الموقف الرسمي لحكومة الفخفاخ كما جاء على لسان وزير الخارجية نورالدين الريّ، وبين من يعتبر أنها منظمة مخابراتية بامتياز، تنتهك سيادة البلد وتعمق جراحه وتؤكد حقيقة الاستقلال الوهمي الذي تعيشه تونس منذ أكثر من نصف قرن.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي حقيقة هذه المنظمة الدولية؟ وما هو سر اختيار هذا التوقيت السياسي لانتصاب مكتب لها إذا كانت موجودة منذ عقود؟ وأين تقف بريطانيا مما يجري في تونس، وهي التي تعتبر نفسها الوريث الشرعي للاستعمار الفرنسي منذ أن صاغت أيادي البريطاني سيسيل حوراني وثيقة “الاستقلال” مع الفرنسي منديس فرانس؟

نبذة عن منظمة الفرنكفونية

يعود وضع مصطلح الفرنكفونية إلى الجغرافي الفرنسي أونسيمروكولو، وقد حدده عام 1880 بأنه مجموع الأشخاص والبلدان التي تستعمل اللغة الفرنسية في مواضيع عديدة. وتضم منظمة الفرنكفونية 55 دولة عضوا كانت من مستعمرات فرنسا سابقا، وإلى جانب 13 دولة لها صفة مراقب. وبالإضافة إلى المستعمرات الفرنسية القديمة تضم المنظمة دولا مثل بلجيكا ولوكسمبورغ ومقاطعة الكيبك الكندية. وقد تأسست يوم 20 مارس 1970، لذلك صار هذا اليوم يوما عالميا للاحتفال بالفرنكفونية.

وتشرف المنظمة على عدة هيئات من بينها وكالة التعاون الثقافي والتقني واتحاد الجامعات الناطقة كليا أو جزئيا باللغة الفرنسية والجمعية العالمية للعمد الفرنكفونيين وجمعية عمد البلديات الفرنكفونية.

ومنذ عام 1998 أعلن في بوخارست إنشاء جهاز يدعى المنظمة الدولية للفرنكفونية يطلق على مجموع هيئات الفرنكفونية.ويجتمع مؤتمر الفرنكفونية كل سنتين، وقد تم إحداث منصب الأمين العام للفرنكفونية عام 1997 وينتخب لمدة أربع سنوات وعين فيه بطرس غالي وخلفه الرئيس السنغالي السابق عبدو ضيوف. وتؤكد الفرنكفونية وصايتها على الشأن السياسي في العالم بالنسبة للدول الأعضاء، وهو أمر معلن وليس سريا، فضلا عن مساعدة الأعضاء على تنظيم الانتخابات واستيعاب بعض مشاريع التنمية الاقتصادية.

وبعبارة أخرى، فإن مسألة الوصاية الاستعمارية على مناطق النفوذ والدول التابعة للمنظمة أو كونها جزء من الاستخبارات الخارجية للدولة الفرنسية، هي أمور معلومة من السياسة بالضرورة وليس في ذلك أي مفاجأة، ولكن الغرابة أن يتفاجأ بعض نواب المجلس بهذه الحقيقة. الأكثر من ذلك، أن الحصانة القضائية والتنفيذية والجمركية والإعفاءات الضريبية التي يتمتع بها ممثلو هذه المنظمة أينما حلّوا هي مسألة مفروغ منها، وهي من التحصيل الحاصل الذي يُطلب من حكام الدول التابعة والخاضعة كعربون محبة وبرهان حسي ودليل عملي يقدمّه كلّ من يعلن ولاءه وتبعيته إلى فرنسا بلا عقد ولا تورية ولا أدنى خجل من ازدواج الشخصية والجنسية.

مقدمات دخول منظمة الفرنكوفونية إلى تونس

خلافا لما يصوّره البعض على أن فرنسا تؤسس بشكل سري لافتتاح هذا المكتب الإقليمي، فإن اختراق هذه المنظمة الدولية لتونس لم يكن أمرا سريّا، بل كان الأمر على الملأ وفي وضح النهار أمام العالم أجمع. فالمصادقة على هذا القانون الأساسي المتعلق بالاتفاقية مع هذه المنظمة الاستعمارية تمت تحت قبة البرلمان أين سقطت لائحة يتيمة تطالب فرنسا بالاعتذار عن جرائمها، وتصريح وزير الخارجية في حكومة الفخفاخ أو حكومة الرئيس -كما يحلو للبعض تسميتها-وتثمينه لهذه الاتفاقية جاء في وسائل الإعلام لا في ركن بعيد عن الأنظار والأسماع، أما الفضيحة المدوية والسقطة السياسية والأخلاقية التي تفرد بها رئيس الجمهورية، قبل الحكومة والبرلمان فقد شاهدها العالم أجمع، حيث اعتبر أن ما قامت به فرنسا من جرائم حرب وإبادة جماعية في حق أجدادنا لم يكن استعمارا، وإنما كان “حماية” ليجعل من الجلاد ضحية ويكتب بهذا التصريح سطرا مخجلا في تاريخ تونس.

فضلا عن ذلك، فإن عضوية تونس في هذه المنظمة ليست وليدة اللحظة، بل يعود الأمر إلى سنة 1970 عام تأسيسها، حيث كان بورقيبة سباقا في إعلان تبعيته إلى هذه المنظمة. وأما عن انتصاب مكتب إقليمي للمنظمة بشكل رسمي في تونس فقد كان الإعلان عنه يوم 15 أفريل 2019 إثر لقاء جمع وزير الشؤون الخارجية السابق خميس الجهيناوي، بالأمينة العامة للمنظمة الدولية للفرنكوفونية “لويز موشيكيوابو”، وذلك خلال زيارة عمل قامت بها إلى مقر الوزارة بتونس أين تم التوقيع على اتّفاقيّة احداث هذا المكتب الإقليمي للمنظمة في شمال إفريقيا ليتخذ من تونس مقرا له، مؤكدين أهمية أن يدخل المكتب حيز العمل في أقرب الآجال، اعتبارا لدوره المهم في تعزيز التعاون والتواصل بين بلدان المنطقة وشعوبها.

كما كان لوزير الخارجية إثر وصول قيس سعيد إلى الرئاسة وتحديدا يوم 19 ديسمبر 2019 لقاء برئيس مكتب مديرة منظمة الفرنكوفونية HervéBarraquand من أجل تباحث الاستعدادات الجارية لافتتاح المكتب الإقليمي للمنظمة الدولية للفرنكوفونية بشمال إفريقيا بتونس في إطار تسهيل التنسيق بين لجنة تنظيم قمة الفرنكوفونية والمنظمة في الذكرى الخمسين لتأسيسها.

وهي محاولة فرنسية واضحة للضغط على تونس ولاستدراج الجزائر التي ظلت إلى يوم الناس هذا رافضة الدخول تحت مظلة هذه المنظمة الدولية، بل نراها تعمل على إزاحة النفوذ الفرنسي بشكل نهائي لصالح بريطانيا. ويبقى السؤال الآن، أين الإنجليز من كل ما يجري في شمال إفريقيا وخاصة تونس؟ وهل ستقبل بريطانيا بإحداث مكتب إقليمي للمنظمة الفرنكوفونية في تونس؟ ولماذا يتم إثارة هذا الموضوع الآن في ظرف سياسي دولي تتالت فيه الصفعات على وجه فرنسا؟

من منظمة الفرنكوفونية إلى رابطة الكومنولث

ربما سنختصر الطريق على القارئ إذا قلنا وبكل أسف إن بريطانيا تسابق الزمن من أجل إيجاد كل ظروف انضمام تونس وبقية بلدان شمال إفريقيا إلى الكومنولث خاصة عقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهي لا تنتظر فضلا عن استكمال تجهيز الأرضية التشريعية اللازمة وحسم الملف الليبي، سوى مزيد استنزاف فرنسا وحرق جميع أوراقها ليصبح التوجه الأنجلوساكسوني خيارا “وطنيا” و”ثوريا” يواجه به الوسط السياسي الجديد مسار الفرنسة واللبرلة الفرنكوفونية، ويكرس سيادة وهمية جديدة تنقل البلد بشكل علني من “الحماية” الفرنسية إلى “الانتداب” البريطاني.

وكلمة الكومنولث هي مصطلح ظهر في القرن الخامس عشر، ويُقصد به الثروة المشتركة أو الرخاء الجماعي. أما رابطة الكومنولث، فهي منظمة تضم 53 دولة من مستعمرات بريطانية سابقة وتشتمل 25 منطقة تحت الحماية البريطانية. وقد تبلورت الرابطة في صيغتها المعروفة منذ إعلان “وستمينستر” عام 1931 حين لم يكن للمنظمة الفرنكوفونية أي وجود. وقد أسستها بريطانيا وكندا وأستراليا وإيرلندا ونيوزيلندا ونيو فاوندلند وجنوب أفريقيا.ويبلغ سكان هذه الرابطة نحو 1.7 مليار شخص، أي ربع سكان العالم. ومن بين أغنى الدول الأعضاء أستراليا وبريطانيا وكندا ومن أفقرها بنغلاديش.

 والكومنولث ليس اتحادا سياسيا وليس لأعضائه ميثاق فهو أقرب إلى ناد يوقع أعضاؤه على إعلانات تجسد مبادئهم المشتركة، فهو فضاء للتبادل في مجالات الاقتصاد والتربية والقضاء والإعلام والاتصال. وتشكل بريطانيا أهم ممول لنشاط رابطة الكومنولث.

 أما عن الحصانة التي يتمتع بها المبعوثون الرسميون لبريطانيا في دول الكومنولث فهي غنية عن التعريف، إذا لا محاسبة ولا مساءلة ولا ملاحقة قضائية ولا قانونية تشمل هؤلاء، بل هم يتبعون بريطانيا ولا قبل للدول الأخرى بمتابعتهم أو ملاحقتهم قانونيا حتى في صورة مخالفتهم لقوانين لك الدول.

وحتى لا يتفاجأ البعض مستقبلا كما تفاجؤوا اليوم، يكفي لهم أن يقرؤوا عن “تيس الملكة إليزابيث” حتى يستوعبوا معنى قبول تواجد هذه المنظمات الاستعمارية على أراضي البلاد الإسلامية…

فهو تيس من سلالة إنجليزية عريقة، وهو ضابط رسمي في الحرس الملكي البريطاني برتبة عقيد، يقوم على خدمته ضابط من الحرس الملكي مقدم ويزاول مهامه في تفقد الوحدات العسكرية البريطانية ويصطف الجنود لإلقاء التحية له كل صباح. وليس هذا فقط، فالتيس ويليام يحمل لقب “دوق” ولا يلقب إلا بالسير ويليام، وله حصانة ديبلوماسية وجواز سفر دولي يمكنه من دخول أي دولة في العالم.يملك هذا التيس منزلا فخما يحيط به مرعى بنواحي باكنغهام ويعتبر لوردا رسميا في كل دول الكومنولث ويتمتع بالحصانة الملكية. وله بعض الأملاك حول العالم، في أستراليا وكندا طبقا للبروتوكول الملكي البريطاني. وله مرتب شهري يدفع له كاش (نقدا). هذا هو تيسهم، فكيف هو الحال عند مبعوثي القصر الملكي البريطانيومن يواليهم من البشر؟

إذا كانت ملة الكفر واحدة، فهل نخيّر بين استعمار وآخر؟

إن سكوت كامل الوسط السياسي في تونس عن فتح مكتب إقليمي للشركة الأمنية البريطانية AktisStrategy، التي يديرها ضابط الاستخبارات البريطانية ومستشار وزارة الخارجية البريطانية في حربي العراق وأفغانستان Andrew Rathmel والتي أشرفت على هيكلة وزارة الداخلية وظلت تقود عمليات سرية لسنوات ثم غادرت البلاد دون مسائلة أو محاسبة، لهي جريمة سياسية بامتياز لا تقل جرما عن فتح مكتب إقليمي لمنظمة الفرنكوفونية.

وإن السكوت عن وضع بريطانيا يدها على ثروات تونس الطاقية واستنزاف حقل الغاز الطبيعي “ميسكار” لعقود بشكل مجاني، وعن إشراف القنصلية البريطانية على ربط وزارتي التربية والتعليم العالي باتفاقيات مع مجلسها الثقافي فضلا عن رسم المخططات الاقتصادية وهيكلة بقية الوزارات والإدارات بشكل مباشر ومذل لهي جريمة إضافية ترتقي إلى مستوى التطبيع المباشر مع الوصاية البريطانية، والتفريق بين جهة استعمارية وأخرى، والحال أن ملّة الكفر واحدة.

ختاما، فإن دعوات الانفتاح على الخيار الأنجلوساكسوني التي سمعنها يوم المصادقة على فتح مكتب لمنظمة الفرنكوفونية والتي وصلت بأحد النواب إلى الدعوة الصريحة لتكرار تجربة رواندا (إثر دخولها تحت مظلّة الكومنولث) لهي أمور مسترابة وتثير أكثر من تساؤل خاصة إذا تزامنت مع لقاء رئيس المجلس في نفس اليوم بممثل مؤسسة “وستمنستر” البريطانية “نجيب الجريدي” ودعوته إلى ضرورة تبادل التجارب وخصوصا على المستوى الرقابي بين البرلمان التونسي والبريطاني لنجد بعد يومين فقط نائب رئيس البعثة البريطانية بتونس “توماس إدوارد ماتلوك” يجالس رؤساء اللجان، فهل صرنا نقتات على موائد الاستعمار نبحث عن منظمة تأوينا ونختار بين استعمار غربي وآخر، والحال أننا أبناء خير أمة أخرجت للناس؟

وسام الأطرش

CATEGORIES
TAGS
Share This