منظومة الحكم في الإسلام 3/2 هل يمكن أن توجد في دولة الخلافة جماعات ضغط تؤثّر على القرار السّياسي..؟؟
حدّث أبو ذرّ التّونسي قال: كثيرًا ما يجنح الباحثون إلى المقارنة بين منظومة الحكم في الإسلام ـ إن في كلّياتها أو في جزئيّاتها و تمظهراتها ـ وبين النّظام الجمهوري على بعد الشقّة بينهما والتّنافر المشطّ مصدرًا وأساسًا وأحكامًا ومقاييس ومفاهيم…وهو مَنزع في البحث مُضلّلٌ وخطير وخبيث، ودونك ما ينفثه (علم الأديان المقارن) من سموم وأباطيل وافتراءات مسخت الأديان السّماوية وشوّهتها ونسخت رسالة الإسلام الخالدة واستعاضت عنها بكوكتال من الشّرائع والأحكام لا يخلو من مسحة يهوديّة ماكرة…وقد يتبادر إلى الذّهن أن حزب التّحرير نفسه قد اعتمد أسلوب المقارنة لاسيّما في مقدّمة كتاب (أجهزة دولة الخلافة في الحكم والإدارة) أثناء تمييزه لنظام الحكم في الإسلام عن سائر أشكال الحكم المعروفة في العالم…لكن بالرّجوع إلى السّياق نلاحظ أنّ الحزب لم يقارن بقدر ما اعتمد التّعريف بالضّد وشتّان بين الأسلوبين: فالمقارنة هي عبارة عن تقريب أو مباعدة بين فكرتين إمّا لاشتراكهما أو لاختلافهما في بعض العناصر والمعطيات…وهي بهذا المعنى غير جائزة في حقّ دين الله لأنّها تساوي بين الوحي اللّدُني المعصوم والوضع البشري النّاقص، وتمتهن شرائع الإسلام وتجعل بينها وبين الأنظمة الوضعيّة نقاط التقاء أو اختلاف بما قد يُفضي إمّا إلى تفضيل الوضع على الوحي أو إلى جعل الوحي قائمًا بغيره يستمدُّ حُجّيتهُ لا من مصدره الإلهي بل من أفضليّته على فكر البشر…أمّا التّعريف بالضّد فهو عبارة عن تمييز الشّاهد عن الغائب ينطلق من الإسلام بوصفه الأصل الذي يُقاس عليه والنّموذج الذي يُحتذى به، نافيًا عنه وهم التّشابه مع سائر الأنظمة الوضعيّة الأخرى ثمّ يعود إليه باعتباره وحيًا سماويًّا قائمًا بذاته يجد حجّيته في مصدره اللّدُني الربّاني…
رُبَّ عُذرٍ
وقد كُنّا في الجزء الأوّل من هذه المقالة تناولنا مسألة جماعات الضّغط ودورها في التّأثير على القرار السّياسي وذلك من زاوية العقيدة الإسلاميّة، فحقّقنا مناطها الشّرعي والسّياسي وتوصّلنا إلى أنّها تتعارض من حيث واقعها ومضمونها مع مفاهيم السّيادة والسُّلطان ورعاية الشّؤون، أمّا من حيث وسائلُها وأساليبُها وأنشطتُها فلا علاقة لها بشرع أو دين أو أخلاق وقيم ومبادئ…إلاّ أنّ لأنصاف المثقّفين والمضبوعين بالثّقافة الغربيّة منطقًا آخر: فكما جرّد أشياعهم وأسلافهم الإسلام من نظام الحكم باعتباره منطقة فراغ لم ينصّ عليها الشّرع ويُمكن سدُّها من تجارب الأمم، أسقط هؤلاء النّظام الجمهوري على نظام الخلافة ـ إن في جملته أو في تفصيلاته ـ وأصّلوا لذلك شرعًا بتمحُّلٍ ظاهر…وطال رذاذُ هذا المنطق حتّى المخلصين من أبناء الأمّة الإسلامية فسلّم بعضهم بإمكانيّة وجود لوبيّات ضغط في دولة الخلافة تؤثّر على قرارها السّياسي كشكلٍ من أشكال المحاسبة أو كمظهر من مظاهر إساءة التّطبيق أو بدعم خارجي قياسًا على الكيانات الكرتونيّة الحاليّة، ورُبّ عُذرٍ أقبح من ذنب…لقد غاب عن أولئك وهؤلاء أنّ كلاًّ من المحاسبة وجماعات الضّغط مصطلحان سياسيّان منبثقان عن عقيدتين متناقضتين (الإسلام وفصل الدّين عن الحياة) ونظامي حكم مختلفين (الخلافة والديمقراطيّة)…كما غاب عنهم أنّ التاريخ ليس حجّة للإثبات أو النّفي، ولا هو مصدر تشريع وأنّ صحائف التّاريخ الإسلامي السّوداء لم تخُطّها أنامل الأحكام الشّرعية بقدر ما حُبرت بمداد إساءة التّطبيق…إنّنا نؤسّس للنّموذج والمثال الكامل المتكامل (خلافة راشدة على منهاج النبوّة) ولا نُروّج للنّسخ الرّديئة المشوّهة على شاكلة أواخر الدّولة العثمانيّة…إنّنا نسعى لتطبيق نظام الحكم في الإسلام ولا نبحث عن مخارج جانبيّة وحيل شرعيّة لتبييض إساءات التّطبيق، فعلاجُها الوحيد هو إحسان التّطبيق…وبما أنّ الأفكار بأضدادها تُعرف فإنّنا سنتتبّع فيما يلي الآليّات السياسيّة والمرتكزات الفكريّة التي أفرزت جماعات الضّغط وكرّستها في الأوساط السياسيّة الديمقراطيّة، ثم نُنزّلها على واقع منظومة الحكم ورعاية الشّؤون في الإسلام، وسنكتفي في هذا الجزء الثّاني بآليّات التّأثير الدّستورية أي التي تنسلُّ من رحم النّظام الجمهوري نفسه…
في القرار السّياسي
إنّ أبرز ثغرة يتسلّل عبرها اللّوبي ويتكرّس من خلالها هي عمليّة أخذ القرار السياسي نفسها: فكُلّما اتّسعت دائرتُها كلّما توفّرت مداخل التّأثير وانتعشت لوبيّات الضّغط، فهي تتسلّل عبر الفراغات التي تُحدثها البيروقراطيّة السّياسية في دائرة الحكم…وبتتبُّع مَسالك أخذ القرار في النّظام الجمهوري نلاحظ أنّها مُتداخلة متشعّبة آخذ بعضُها برقاب بعض: فدائرة المشاركين في أخذه مُتّسعة محفوفة بمداخل الضّغط تفتح الباب مُشرّعًا أمام التّأثير فيه وتوجيهه بحيث يجوز لنا الحديث عن صناعة القرار السّياسي ومطبخ القرار السّياسي…أمّا أسباب ذلك فمنها ما هو فكري عقائدي بحت، ومنها ما هو إجرائي دستوري: فيما يتعلّق بالأساليب الفكريّة العقائديّة، فإنّ جريمة إسناد التّشريع إلى البشر قد أفضت إلى ما يسمّى في النّظام الجمهوري بتفريق السُّلط أي تجزئة الحكم وتشتيت القرار السّياسي درءًا للدّكتاتورية وتجفيفًا لمنابعها…فحتّى لا يكون الحكم فرديًّا مطلقًا جزّؤوه واشتركوا فيه وفرّقوه بين وزارات يجمعها مجلس وزراء يملك الحكم بشكل جماعي، وبذلك فإنّ السّلطة تراقب السّلطة: فيكون الحكم بيد رئيس الجمهوريّة ووزرائه في النّظام الجمهوري الرّئاسي، وبيد مجلس الوزراء في النّظام الجمهوري البرلماني والملكيّة الدّستورية…هذه التّجزئة للحكم وهذا التّشتيت للقرار يؤسّس بامتياز لمناخ من البيروقراطيّة السّياسية تبيض فيه لوبيّات الضّغط وتُفرّخ…في المقابل فإنّ التشريع في الإسلام لله وحده وليس للبشر (إن الحكم إلاّ لله)، فالسّيادة في الإسلام للشّرع، وقد أسند الشّرع كافّة صلاحيّات الحكم للخليفة: فهو الدّولة أي الجهاز الذي تقوم عليه الدولة الإسلاميّة، وهو الوحيد الذّي له حقّ تبنّي الأحكام الشّرعيّة وهو المسؤول الأوّل عن رعاية الشّؤون ومنه تنبثق كلّ السّلطات…فإزاء تجزئة الحكم في النّظام الجمهوري نجد مركزيّة الحكم في الإسلام: فالخليفة يتمتّع بالحكم ذاتيًّا وليس لغيره صلاحيّة الحكم إلاّ إذا أعطاه إيّاها الخليفة بحيث له أن يفوّض من صلاحيّاته للمعاونين والولاّة والعُمّال وقضاة المظالم جزءًا محدّدًا بالمكان والزّمان والحادثة…وهم مسؤولون أمامه وتحت إشرافه ومطالبون بمطالعته بما قاموا به وإخباره عمّا ينوون فعله، ولهُ أن يمنعهم أو يراجعهم…وبهذه الكيفيّة تضيق دائرة أخذ القرار في الإسلام حتّى تكاد تنحصر في شخص الخليفة، وبذلك تُسدّ المنافذ والفراغات التي تتسلّل عبرها لوبيّات الضغط…أمّا إذا ما وقع الخليفة نفسه تحت ضغط جهة أو طرف بشكل يؤثّر على إرادته وقراره فإنّ ذلك من موجبات عزلِهِ…
فجوات دستوريّة
أمّا الأسباب الإجرائية الدستوريّة التي أفضت إلى انتعاش ظاهرة اللّوبي في النّظام الجمهوري فتنسلّ مباشرة من مرتكزاته العقديّة بوصفها نتيجة حتميّة منطقيّة لتفريق السّلط وتجزئة الحكم: فإلى جانب البيروقراطيّة السّياسية وتعويم القرار على أكثر من جهة، أدّى ذلك الوضع إلى تكريس المراقبة الذّاتية بين السّلط، بما جعل من دفّتي الحكم (السّلطة التشريعيّة والسلطة التّنفيذيّة) بمثابة عدوّين لدودين يترصّدان لبعضهما ويتبادلان الضّغط والتّأثير، ودونك مثالاً النّموذج الأمريكي في الحكم: فالسّلطة التشريعيّة (مجلس الشّيوخ + الكونغرس) تضغط على السّلطة التّنفيذية (الرّئيس + كتّاب الدّولة أو الوزراء) وتؤثّر فيها وفي قراراتها وسيرها، ويظهر ذلك في عدّة مستويات من قبيل: (حقّ مجلس الشّيوخ في تعيين كبار الموظّفين في الدّولة ـ اشتراط موافقة مجلس الشّيوخ بأغلبيّة الثلثين على المعاهدات الدّولية ـ محاكمة مجلس الشّيوخ للرّئيس بناءً على اتّهامات الكونغرس ـ حقّ الكونغرس في توجيه لائحة لوم أو اتّهامات أو مساءلات لأعضاء السّلطة التنفيذيّة ـ إمكانيّة تصويت الكونغرس على حجب الثّقة…)، كما أنّ للسّلطة التنفيذيّة أيضاً نفوذًا أو تأثيرًا على السّلطة التشريعيّة ويتجلّى ذلك في ممارسات على غرار: (حقّ الرّد أو الاعتراض من رئيس الجمهوريّة على أيّ قانون يصدره البرلمان ـ حقّ المبادرة التّشريعيّة لرئيس الجمهورّية ـ حقّه في دعوة الكونغرس إلى الانعقاد في الحالات الطّارئة ـ صياغة التّقرير السّنوي لحالة الاتّحاد وتقديم المقترحات والحلول…) وفي كلّ هذه الأجواء ما فيها من مداخل للضّغط والتّأثير على القرار السّياسي تنتعش اللّوبيّات بين تلافيفها…
القلعة الحصينة
في المقابل نجد نظام الخلافة قد أغلق هذه المنافذ الدّستورية بآليّات دستورية شرعيّة: فبالإضافة إلى مركزيّة الحكم في الإسلام وحصر رعاية الشّؤون في شخص الخليفة، لا يمكن الحديث في الإسلام عن ثنائيّة التّشريع والتّنفيذ: فجهاز الدّولة الإسلاميّة برُمّته معدود من السّلطة التّنفيذية، ولا يوجد في منظومة الحكم الإسلاميّة سلطة تشريعيّة بالمفهوم الدّيمقراطي الجمهوري، فالمشرّع هو الله تعالى، وإنّما هناك عمليّة التبنّي للأحكام الشّرعية ،وقد حصر الشّرع صلاحيّاتها في شخص الخليفة أيضا وجعلها رُكنًا من أركان الحكم في الإسلام: فللخليفة وحدهُ حقّ تبنّي الأحكام الشّرعية اللاّزمة لرعاية شؤون الأمّة على أن تكون مستنبطةً باجتهاد صحيح من الأدلّة التّفصيلية فتصبح قوانين واجبة الطّاعة…وهو مقيّد في تبنّياته بالأحكام الشّرعية وبما تبنّاه من أحكام وبما التزم به من طريقة استنباط: فيحرُم عليه أن يتبنّي حُكما مناقضا للشّرع أو أن يأمر بما يناقض الأحكام الّتي تبنّاها أو أن يتبنّى حكمًا استُنبط بطريقة تخالف الطّريقة التي تبنّاها ،فالرّأي الشّرعي متحصّن في قلعة منيعة عصيّة على الاختراق ليس فيها منفذ تتسلّل منه لوبيّات الضّغط والتّأثير…أمّا المحاسبة التي تمارسها الأمّة على الحكّام عبر مجلس الأمّة فهي ليست من قبيل الضّغط أو التّأثير بل هي رقابة على حسن سير السّلطة التّنفيذية في شكل اعتراض بعد اتّخاذ القرار أو تنفيذ العمل…وهي واجب شرعي يبادر الخليفة نفسه بإيجاده إن قصّرت فيه الأمّة، كما أنّ رأي المجلس ليس مُلزمًا دائمًا بل هو مُلزمٌ فيما كان رأي الأكثريّة فيه مُلزمًا (الأمور العمليّة المتعلّقة بالرّأي المُجرّد المؤدّي إلى العمل) وغير مُلزم فيما كان رأي الأكثريّة فيه غير مُلزم (الأمور الفنّية والفكريّة والفقهّية التي تحتاج إلى بحث عميق واختصاص)… (يتبع)
بسام فرحات