من الأندلس إلى غزّة: “لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب”

من الأندلس إلى غزّة: “لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب”

على وقع مجازر غزّة المروّعة الشّبيهة بمحاكم التّفتيش الإسبانيّة، مرّت بنا مطلع هذا الشّهر ذكرى سقوط غرناطة آخر حصون الإسلام بالأندلس في الثّاني من جانفي 1492م..هذه النّكبة التي تذيب القلب كمدا مافتئت منذ أكثر من خمسة قرون تجثم على وجدان الأمّة الإسلامية بوصفها معينا لا ينضب من العبر والدّروس والمواعظ القيّمة التي لو انزجر المسلمون بها آنذاك لما فقدوا فردوسهم الأرضيّ ولما اختلّت موازين القوى بينهم وبين عدوّهم هذا الاختلال المشطّ: فقد أفضى استفحال العلّة بالمسلمين إلى سقوط دولة الخلافة واندراس شرائع الإسلام وتمزّق الأمّة ووقوعها تحت نير الاستعمار السّافر ثمّ المقنّع وصولا إلى تنمّر أحفاد القردة والخنازير بها واجترائهم عليها واغتصابهم لأقدس مقدّساتها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشّريفين..وإنّنا إذ نقف اليوم عند هذا الحدث الجلل فليس ذلك من باب البكاء العقيم على الأطلال، بل وقفة عظة واعتبار وتدبّر وتفكّر مصداقا لقوله تعالى” لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب”..فليس المطلوب اليوم تأبين الأندلس، بل تنزيل النّكبة الأندلسيّة على النّكبة الإسلاميّة عموما والنّكبة الفلسطينيّة خصوصا، عسانا نقتبس منها ما به نستعين على وقف نزيف الجرح الغزّاويّ وتجاوز حال الدّونيّة السياسيّة والاستلاب الثقافيّ والتشرذم والتبعيّة والاستعمار التي تردّت فيها الأمّة الإسلاميّة على شفير الفناء..فالظّرفيّة السياسيّة الدوليّة الحاليّة هي ـ بامتياز ـ نسخة ألفينيّة حديثة طبق الأصل لتلك التي أفضت إلى مأساة الأندلس، وما علينا لاجتناب تكرار ذاك المصير إلاّ أن نمحّص الأصل القروسطيّ ونتلافى أخطاءه..

ضياع الفردوس

دون الدّخول في تفاصيل حركة الاسترداد الإسبانيّة، فإنّه بانتصاف القرن 14م لم يبق للمسلمين بالأندلس إلاّ غرناطة وما حولها في رقعة ساحليّة ضيّقة بالجنوب، وقد استولى الإسبان على جبل طارق لقطع المدد من المغرب وعزل غرناطة وإحكام الحصار على أهلها، فصمد المسلمون وصبروا وأبدوا تفانيا عجيبا في المقاومة والثّبات حتّى أكلوا الجلود وورق الشّجر،ولكن طول الأمد وقلّة المدد ونفاذ الذّخيرة وخذلان العشيرة وتفشّي الجوع والمرض أجبرهم على الاستسلام والخضوع وذلك بتاريخ الثاني من جانفي 1492م/897هـ، فغادروها ملء العين دمعا والقلب حسرة ودخلتها جيوش فرديناند الكاثوليكي في موكب صليبي رهيب وانقرض بذلك آخر مظهر للسيادة الإسلامية بالأندلس..ورغم أن وثيقة تسليم غرناطة التي صادق عليها البابا نفسه اشتملت على 67 شرطا تضمن احترام المسلمين في دينهم وأملاكهم وأمنهم وحرّيتهم، إلاّ أنها ظلّت حبرا على ورق ونُقضت سنة 1499م: فصدر قانون بتنصير المسلمين جبرا وتحريم إقامة شعائرهم الدّينية وإغلاق مساجدهم وتحويلها إلى كنائس، كما منعوا من الاغتسال ودخول الحمّامات وحُظر عليهم تكلّم العربية وأُكرهوا على لبس الزّي الإسباني واستبدال أسمائهم العربية بأخرى إسبانية وأُحرقت مئات الآلاف من المخطوطات الإسلامية النّادرة..وفي عهد فيليب الثالث اعتبر وجود المسلمين بإسبانيا خطرا على الدّولة الكاثوليكيّة فأحرقوا بالنّار ونُشِروا بالمناشير ودُفِنوا أحياء بالجملة وصدر في حقّ من بقي منهم متمسّكا بدينه أمر بالنّفي والجلاء سنة 1609م فحُشدت لهم السّفن وهُجّروا قسرا إلى المغرب العربيّ ومصر والأستانة..بهذه الكيفيّة المرعبة، اجتُثّ الوجود الإسلامي بالأندلس بعد ثمانية قرون من الفتح ووقعت تصفية أعظم حضارة عرفتها القارّة الأوروبية في العصور الوسطى نتيجة لتخاذل أهلها وتدابرهم وارتهانهم للكفرة وتخلّيهم عن واجب الجهاد..

حركة التّاريخ

والمعضلة أنّ هذه اللوحة السّوداويّة الدّمويّة تتواصل هذه الأيّام وتتوسّع بأشكال أفظع وأفدح وتُستنسخ بالجملة في كلّ شبر من أرض الإسلام وبنسق مرتفع، ودونكم مجازر غزّة: فالمسألة ليست مرتبطة بأزمنة وأمكنة وأشخاص معيّنين، بل بعقليّة ومبدأ وسلوك وبرنامج سياسيّ وحركة تاريخ، ومادامت هذه واحدة فلا فرق أن تسمّى حربا صليبية وحركة استرداد ويقودها أوربانوس الثاني والأذفونش السادس، أو أن تسمّى مكافحة الإرهاب والقضاء على أسلحة الدمار الشامل والحقّ في الدّفاع عن النّفس وينفّذها بايدن ونتنياهو وماكرون..المهمّ أن تتهيّأ نفس الظرفية الدولية والأنماط السلوكية والفكرية والخيارات السياسية والاقتصادية حتى تتكرّر الأحداث التاريخية وإن بأشكال وأساليب وأياد أخرى، وما أشبه الأمس باليوم..بالأمس مطلع القرن الحادي عشر للميلاد وقفت أوروبا بمجموعها على قدم وساق في حرب صليبية شعواء لاستئصال الإسلام والقضاء على المسلمين، وقد تهيأت لها كلّ أسباب النجاح على الواجهة الأندلسية: طغمة بابوية متعصّبة موتورة مشبعة بالحقد الدّفين تتحرّق شوقا للثأر من المسلمين..حماسة صليبية جيّاشة وحميّة مسيحية متّقدة تسود الشعوب الأوروبية عموما..مشروع جهنّمي إجرامي لاسترداد إسبانيا وتطهيرها من الإسلام والمسلمين وإعادتها إلى حضن المسيحية الكاثوليكية..سلطة مركزية عبّاسية واهنة واقعة بين فكّي الكمّاشة الفاطمية الصّليبية فلا ترجى منها نجدة..حال من الضعف والتشتّت والتّخاذل والتّعادي والهوان والرّكون للنّصارى جسّدها بامتياز ملوك الطّوائف بالأندلس: فماذا كانت النتيجة..؟؟ اجتثاثا لشعب وطمسا لحضارة ومحوا لهويّة وإلغاء لثمانية قرون من الإشعاع الإسلاميّ بما استتبع ذلك من مذابح مروّعة وتقتيل وهتك أعراض وتشريد ونفي وتهجير وتنصير قسري ومحاكم تفتيش وفظاعات لم يشهد تاريخ البشريّة مثيلا لها..

التّاريخ يعيد نفسه

أمّا اليوم و إبّان الحرب الصليبيّة العاشرة في نسختها الأمريكيّة فكل المؤشّرات توحي بإمكانيّة استنساخ تلك الحقبة المظلمة، إذ نحن إزاء نفس التوليفة التي أدّت إلى نكبة الأندلس: صراع دولي شرس على مقدّرات المسلمين وحروب استباقيّة طاحنة للتّصدي لصحوة الرّجل المريض وعرقلة مشروع الأمّة توفّرت لها جميع الظروف الملائمة: موجة تسوناميّة من الإسلاموفوبيا والعداء الهستيريّ للإسلام والمسلمين تجتاح الغرب. رأسماليّة آفلة وديمقراطيّة آيلة للسّقوط تتوجّس خيفة من تصاعد المدّ الإسلاميّ..حال من التّمزق والفرقة والتّقاتل والخيانة والعمالة والتبعيّة والاستعمار الذاتي والارتهان للأجنبي والاستقواء بالغرب لم يعرف لها تاريخ العرب والمسلمين مثيلا. دولة عظمى مارقة في جعبتها مشاريع استعمارية مسمومة من قبيل الدّمقرطة ومكافحة الإرهاب والشرق الأوسط الجديد وصفقة القرن والعولمة..تقودها طغمة مسيحيّة صهيونيّة تقدّم مصلحة اليهود على مصلحة العم سام والشّعب الأمريكيّ نفسه..كيان يهوديّ خارج عن القانون الدوليّ، يحتضنه الغرب ويرعاه بصفته (ابنه المدلّل ورأس حربته المتقدّم في الشّرق الإسلاميّ) ويرتمي حكّام المسلمين في أحضانه ويحاربون شعوبهم من أجل عيونه..تحكمه عصابة صهيونيّة ليكوديّة متطرّفة تقتات على (أمجاد) بني إسرائيل في (أرض الميعاد) ومذابح (يشوع وداوود وطالوت) ضدّ الكنعانيّين والعماليق..تتبنّى مشروعا توراتيّا عنصريّا إقصائيّا (إسرائيل الكبرى) قائما على التّطهير العرقيّ والتّهجير (الترانسفير)، فماذا كانت النّتيجة..؟؟ حربا مفتوحة في الزمان والمكان على الإسلام والمسلمين واستباحة لامشروطة لثرواتهم وأرواحهم وأعراضهم ومقدساتهم بلغت ذروتها في فلسطين، ودونكم فظاعات غزّة هذه الأيّام حيث القصف الهمجيّ للمدنيّين والتّهجير القسريّ والأرض المحروقة والإعدامات الميدانيّة والسّفك المجّانيّ للدّماء والاستهداف الممنهج للأطفال والنّساء الحوامل، في ظلّ أجواء مقزّزة من اللامبالاة والنّفاق الدوليّ تلامس حدود التواطؤ المفضوح..

إنّ في قصصهم لعبرة..

إنّ من أغرب المفارقات التي نطق بها هذا الاستقراء السياسيّ للنّموذجين الأندلسيّ والفلسطينيّ الغزّاويّ، هو أنّ المقوّمين الأساسيّين لحياة كيان يهود يكمنان خارجه لا داخله، وهما الدّعم الغربيّ السخيّ واللاّمشروط ماديّا ومعنويّا والغياب الإسلاميّ الكلّي..ومكمن المفارقة أنّ هذا الكيان المسخ القائم والمرتبط حيويّا بغيره، ينتصر ويصمد وينتعش ويتمدّد في قلب الأمّة الإسلاميّة الزّاخرة ـ لا بمقوّمات حياتها هي فحسب ـ بل وحياة البشريّة جمعاء: الثّروة الفقهيّة العظيمة الولود والثّروة الماديّة الطبيعيّة والبشريّة اللاّمتناهية. ولا غرابة في ذلك، فالأمّة الإسلاميّة أُتِيت من ثلاثة مقاتل سلبتها مقوّمات الحياة وأهدتها لعدوّها: أوّلا، التشرذم والتدابر والتخاذل والارتهان للأجنبيّ، وهي حال ملوك الطّوائف وحكّام الضّرار الحاليّين..ثانيا، غياب الدّولة الإسلاميّة أو ضعفها، فقد كانت في الحالة الأندلسيّة في عداد العدم واقعة في الكمّاشة الصليبيّة الصفويّة المغوليّة، فلا يرجى منها نصرة. ثالثا، الاستعاضة عن العلاج الشرعيّ النّاجع المتمثّل في الجهاد تحت راية خليفة، بالمقاومة الجزئيّة و(الأمجاد والبطولات) الفرديّة، أو بالتفاوض والمعاهدات والمواثيق والاحتكام إلى المنظّمات الدوليّة بما يفضي عمليّا إلى تثبيت المخطّطات الغربيّة الاستعماريّة التي تحاك ضدّ الأمّة. فالدّولة تقاتلها دولة مثلها وليس حركة أو منظّمة أو عصابة مسلّحة، فما بالك بدولة نوويّة مسنودة من القوى العظمى، فالقوّة الجبانة تغلب الشّجاعة الضّعيفة إذا ما تحوّلت إلى استنزاف عسكريّ..فمسلمو الأندلس لم ينهزموا إلاّ عندما قاتلوا فرادى بصفتهم أمراء لمقاطعات لا طلائع جهاد عن الأمّة الإسلاميّة، أمّا  هذه الأيّام فإنّ أخطر مخدّر يقعد الأمّة عن النّجدة والجهاد في غزّة هو أخبار (مآثر حماس) ضدّ يهود التي تعطي إحساسا مغلوطا بالاكتفاء الذّاتي يكذّبه الواقع: فعمليّا رغم فضائح جيش الدّفاع الإسرائيليّ وخسائره الفادحة، فإنّ المخطّط الصهيوني التوراتي المتمثّل في التقتيل والتّهجير يسير عمليّا ميدانيّا بخطى حثيثة..فالدّاء الذي أصاب غزّة تعاني منه الأمّة الإسلاميّة قاطبة وهو اندراس شرع الله وغياب الكيان السياسيّ الذي يقيمه ويطبّقه ويرعى شؤون الأمّة به، وإنّ الترياق الشّافي لغزّة وللأمّة الإسلاميّة هو تحرّكها بوصفها أمّة، إمّا بمخاطبة الجيوش وتحريضها على التدخّل ـ وهذا في حال غياب الدّولة ـ أو بأخذ النّصرة منها وإقامة الدّولة لتتولّى واجب الجهاد، وما عدا ذلك فمسكّنات تطيل الاحتضار ولا تشفي العلّة.

أ, بسّام فرحات

CATEGORIES
Share This