من السودان إلى الجزائر, الديمقراطية تتسكع خائفة تترقب..

من السودان إلى الجزائر, الديمقراطية تتسكع خائفة تترقب..

لم تُصَب في مقتل, ولكنها تعرضت لضربات قوية أفقدتها توازنها وجعلتها تنزف بشدة وتفقد الكثير من حيويتها وبريقها الخادع والقدرة على المناورة والتمويه. إنها تائهة حائرة مشردة، تبحث عن مأوى بعد أن تصدعت جدران معبدها وأصبح آيلا للسقوط.. هي اليوم في أرذل العمر, وقد حسب كهنتها وحراس معبدها أنها ستبقى شابة على الدوام تغوي الأبصار والبصائر وتوقع في شراكها كل جاهل بحقيقتها أو تساعد كل طامع في الجاه والسلطة على الاستخفاف بعقول الناس ويتسلط على رقابهم تحت سلاح ألاعيبها وأكاذيبها لينعم هو بالعيش الرغيد ويرمي بمن وثقوا فيه وفيها في أتون الشقاء والضنك. هذا هو حال الديمقراطية اليوم فبعد عقود من الهيمنة اهتزت صورتها حتى في معاقلها وبين ظهراني أهلها وعتاة حماتها بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وأشياعها في القارة العجوز، وهم الآن يسابقون الزمن لإنقاذها من الانهيار التام والاضمحلال النهائي, ومن أهم الإجراءات المتخذة إدخال بعض التحويرات الجذرية على بعض الأفكار والمفاهيم ثم الترويج لها بنفس الطريقة التي روجوا بها سابقا للديمقراطية ومشتقاتها وهي طريقة دس السم في الدسم، وتلبيس الحق بالباطل ونحو ذلك…

تغيير مضمون ومفهوم الثورة

كانت كلمة ثورة تحمل معنى واحدا لا يتجادل حوله اثنان وهو إسقاط نظام ما وإقامة آخر على أنقاضه ولا يلتقي معه في شيء, بدأ بالقوانين ووصولا إلى الأشخاص القائمين عليه, أي نظام جديد يحل محل نظام قديم ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يشترك في أمر ما كبر ذلك الأمر أم صغر وإلا فلا معنى للثورة إن أبقت ولو على قانون أو مفهوم وحيد منبثق عن النظام القائم قبل الثورة، والتغيير هنا يشمل جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهذا ما يطلقون عليه ثورة. وكما أسلفنا هذا المفهوم لا جدال حوله ولا اختلاف إلى حين أن خرج لنا الغرب والولايات الأمريكية المتحدة تحديدا بتعريف جديد للثورة ثم العمل على تعميميه وجعله أمرا واقعا ومنوالا يسير عليه كل من يتوق إلى التغيير. الثورة اليوم تقتصر على إسقاط الماسكين بالسلطة والإبقاء على نظام الحكم وعدم المساس به وبعبارة أوضح قبل القوى الاستعمارية ترضى اليوم بالتخلي على عملائها وتقديمهم قرابين بعد أن أفنوا جهودهم في خدمتها وتلبية والاستجابة لمطامعها، لمنع انهيار معبد الديمقراطية, فالعميل يمكن استبداله بأخر أما المعبد إن خرّ سقفه وتهاوت أركانه فما لبنائه مجددا من سبيل, ومن ثمة يخسر الاستعمار الجمل بما حمل ويكنس دون رجعة من بلاد المسلمين التي ما كان لتلك القوى أن تجوس خلال ديارنا لولا نجاحها في تثبيت غرس الديمقراطية الخبيث بأرضنا، وعليه ما يحدث اليوم في الجزائر والسودان ومن قبله في تونس ومصر وغيرها من بلاد المسلمين محاولة لتكريس المفهوم الجديد للثورة وهو إسقاط الحكام والمحافظة على نظام الحكم, وهذا ما يفسر مساندة الغرب لحراك الجزائر والسودان بل استثماره لفائدة الديمقراطية بدعم من المسبحين بحمد أفكار ومفاهيم الغرب والمتمسحين على أعتابه وأملهم كل الأمل أن يحدث مثل هذا في أكثر من بلد أخرى حتى يطمئنوا على نجاحهم في وأد المعنى الحقيقي للثورة وإلى الأبد.

سيخر السقف وينهار البنيان

من الأكيد والمؤكد أن شياطين الغرب يودون لو أن سبات الأمة لم تقطعه تلك الجحافل التي تدفقت كالسيل الجارف في الشوارع والساحات تطالب بإسقاط النظام حتى ولو بالشكل الذي يريده الغرب ولا يضرب نظامه في مقتل. كانوا يودون لو واصل الناس في بلاد المسلمين الخنوع والرضوخ لجلاديهم  والطرب لصرير أحذية عملاء الاستعمار وهي تدوس وجوههم ورقابهم واستطابة سلخ سياط الظلم والقهر لجلودهم، كانوا يودون ذلك. لكن حدث ما لم يكن في حسبانهم وحصل ما كانوا يحذرونه وانتفض الناس على من وكلهم الغرب المستعمر ليستعبدوهم، وإن كان ما يطلبه الناس اليوم رحيل العملاء فغدا سيطالبون حتما برأس من كانوا له حكام المسلمين عملاء، اليوم يطالبون بقطع الأيادي التي كانوا يقبلونها بعد إدراكهم لقذارتها. غدا سيدركون مصدر القذارة وسيخرجون كما خرجوا اليوم ويطالبون بإزالة رجسه ونجاسته وهل بعد الديمقراطية رجسا.

نعم لقد استفاقت الأمة من غفوتها وبدأت تتحسس طريقها نحو الانعتاق. صحيح أن سيرها اليوم بطئ وفي الاتجاه الذي يريده الغرب المستعمر لكنها حتما ستصحح مسارها, فالمسألة مسألة وقت لا غير فوثن الديمقراطية ليس في مأمن الآن وستطاله معاول التغيير وسقف وجدران المعبد بدأت تتصدع وبات رأب الصدع أمرا مستعصيا وسينهار البنيان برمته لا محالة, وإلى غاية حدوث ذلك ها نحن نرى الديمقراطية تتسكع في حيرة من أمرها تبحث عن ملاذ آمن لن تجده أبدا.

حسن نوير

CATEGORIES
TAGS
Share This