لا يزال ترامب الى حد كتابة هذا المقال يصر على انكار نتائج الانتخابات التي جرت منذ الثالث من هذا الشهر, ولا يزال يوسع دائرة المواجهة حتى بلغ عدد القضايا التي رفعها ضد خصمه اربعة وعشرين قضية. وزاد في توسيع جبهة المواجهة الى مجال السياسة الخارجية, حيث يعتزم وزير خارجيته القيام بجولة في منطقة الشرق الاوسط, وهو يتحرش بإيران ويعرب عن نيته التضييق على الاستثمارات الامريكية في شركات صينية. وحول جائحة كوفيد اعلن في ندوة صحفية انه يتوقع توفير اللقاح لكل السكان في شهر افريل. وبشكل مواز شهدت الادارة الامريكية بعض الإقالات والاستقالات اذ يعمد الرئيس المهزوم الى ابعاد كل من يبدي مقاومة لما يسير فيه, كما عمد الى حرمان بايدن من التمويلات المخصصة له للبدء بتسلم الحكم وتعيين الفريق الجديد وحجب عنه تقارير الاستخبارات التي يتهيأ بواسطتها لاستلام مقاليد الامور وهو على بينة من الامر. فالرئيس المتخلي يتصرف وكانه دائم في الرئاسة وهي دائمة له. وقد نبه بعض الملاحظين الى خطورة هذه الخطوات والاجراءات على مستقبل ادارة الشأن العام الداخلي والحارجي للبلاد. ومع ظهور نتائج بعض التحقيقات والتي ايدت النتائج الاولية يصر ترامب على الانكار زاعما ان انظمة الاحصاء غير دقيقة بل ذهب الى الطعن في نزاهة شركة دومنيون المتعهدة بفرز النتائج متهما اياها بالتواطؤ مع الديموقراطيين لتدليس النتائج.
وما لفت النظر في هذه المعمعة خروج رئيس هيئة الاركان المشتركة ليعلن حياد الجيش تجاه هذه التجاذبات وان الجيش لا يحمل ولاء الا للدستور, مؤكدا ان كل من ينتسب الى الجيش انما يقسم على الولاء للدستور ولا ولاء عنده لأي شخص او دكتاتور وكأن امريكا مجرد جمهورية من جمهوريات الموز يتدخل فيها الجيش لإعلان حياده أو دعمه لاحد الاطراف في الصراعات السياسية.
ان هذ الاصرار من ترامب لم يأت من فراغ, والواضح انه مسنود من بعص الدوائر التي تخشى على مصالها من صعود بايدن وتستميت في الدفاع عن هذه المصالح. ولا شك انها دوائر قوية ومؤثرة في مفاصل الدولة سواء الظاهرة او العميقة. فما يبرز من تجاذبات وصراعات علنية ليس الا رأس جبل الجليد وما يجري تحت السطح اضعاف ذلك. فما هي هذه الدوائر التي تؤيد ترامب في عناده؟ ومن هي الاطراف التي تسند بايدن وتهدد مصالح هذه الدوائر؟
لقد برز هذا الشرخ بين الفئتين في أمريكا منذ انتخابات 2016 حين قوبل فوز ترامب بسلسلة من الاحتجاجات المناهضة وحينها اتهم سوروس أكبر المضاربين في الاسواق المالية بتمويل هذه الاحتجاجات. ولم تكن هذه الاحتجاجات مجرد ظاهرة عابرة بل كانت تعبيرا عن حرب طاحنة تدور رحاها في المجتمع الامريكي نتيجة سياسة العولمة, فقد برز مع العولمة فئة جديدة من الرأسماليين أطلق عليها د/عبد الحي زلوم رحمه الله في كتابه “نذر العولمة” الرأسمالية المعلومالية حيث يقوم الاستثمار على المال والمعلوماتية مع استعمال التكنلوجيا الحديثة بما أتاحته العولمة من حرية تنقل رأس المال. وتنشط هذه الفئة بالأساس في الاسواق المالية وهي لا تنشأ مصنعا ولا تحيي أرضا ولا تحدث وظائف, انما تستثمر المال في المال وتجني من الارباح أضعاف ما يجنيه الصناعيون والفلاحون, وأطلق على هذا النشاط الاقتصاد الافتراضي في مقابل الاقتصاد الحقيقي, وهو اقتصاد مواز, طفيلي لا ينتج ثروة بل يستولي على الثروات التي ينتجها غيره عن طريق المضاربة في الاسواق المالية. وقد شجعت حرية تنقل رأس المال أصحاب المال على الاستثمار خارج أمريكا في الاسواق المالية المربحة بمجرد كبسة زر, لا سيما في دول مثل الصين الدولة المنافسة حيث العمالة الرخيصة.
لقد صعد ترامب في انتختبات 2016 ببرنامجه في مقاومته لهذا الاقتصاد الطفيلي وهو الذي يستثمر في قطاع العقارات. فوعد بالعمل على مسك رؤوس الاموال في امريكا والسعي لإحياء مدن الصدأ والتصدي للهجرة التي تضيق على الامريكيين سوق الوظائف فأضفى على الجانب الاقتصادي (البطالة) مسحة عنصرية, وفعلا فقد انسحب من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي ونقض تعهدات امريكا مع منظمة التجارة الدولية وبدأ بفرض الرسوم الجمركية على الصين وأروبا, ونجح في هذه السياسة ولو نسبيا, فتحسنت مؤشرات التوظيف والنمو. هذه السياسة ضايقت المستثمرين في مجال الاقتصاد الافتراضي ولا غرابة أن نجد سوروس وبيل غيتس ضمن ممولي حملة بايدن. ومن هنا حمي الوطيس واحتدم الصراع بين الحزبين وانعكس ذلك على الانتخابات وعلى الشأن السياسي عامة. وفي هذا السياق لا نرى ترامب جادا في الاستحواذ على السلطة وان كان يسعى لتحقيق ذلك ان أتيح له, لكنه يطيل أمد تسليم السلطة لإدارة الصراع بين الطرفين عله يصل الى حل وسط على الطريقة الرأسمالية, وقد يكون هذا ما يدور في الغرف المغلقة: الصراع حول الحل الوسط. فهل ينجح الطرفان في هذا المسعى أم يستقوي أحدهما على الأخر؟ واذا كان بايدن قد كسب المعركة القانونية فما هي الاوراق التي يمتلكها ترامب ومن خلفه؟
بالرجوع الى الخطاب الشعبوي الذي يعتمده ترمب, وبناء على سياسته السابقة وبالنظر الى المفاهيم النفعية للرأسمالية التي لا تقيم وزنا لقيمة رفيعة أو مصلحة عامة, يمكن تبين بعض هذه الاسلحة كما يلي:
1 : العنصرية واثارة النعرات العرقية ضد الامريكان من أصول لاتينية واسيوية أو افريقية أوغيرها: من اللافت في هذا السياق ما جاء في كتاب للرئيس الاسبق أوباما حيث قال ان فوز ترامب سنة 2016 جاء كردة فعل على وجود رئيس أسود في البيت الابيض, كما قال ان ترامب قد فهم ذلك واستعمله في خطابه الشعبوي ابان حملته الانتخابية. وعلى هذا المعنى يمكننا أن نذكر بالمقولة الرائجة ومفادها أن امريكا لا يحكمها أسود ولا امرأة.
لقد أدى هذا الخطاب الشعبوي العنصري الى احداث انقسامات عميقة في المجتمع الامريكي ما أشار اليه عديد الملاحظين اخرهم أوباما نفسه اذ صرح أخيرا في حوار لقناة ب ب سي انه لا تكفي دورة واحدة لرتق هذه الانقسامات, ولا يكفي فيها قرار سياسي مجرد بل لا بد من تظافر كل الجهود لسد هذه الفجوات بين مكونات المجتمع. وها نحن نرى ترامب يواصل بدافع النفعية الرأسمالية على نفس النهج سائرا بالبلاد الى حافة الهاوية.
2: البطالة والتهميش المتزايد الناتج عن العولمة: من المعلوم أن الناحية الاقتصادية هي المحرك الرئيس للناخب الامريكي ولعقله السياسي, وقد لمس هذا الناخب نتائج سياسة ترامب في توفير الوظائف وهذا هو الأهم. ومع ربط البطالة بالعولمة من ناحية وبمزاحمة المهاجرين للعمالة الامريكية من ناحية أخرى تتولد خلطة شديدة الانفجار عند أول شرارة, وقد عمد ترامب في حملته الانتخابية ولا يزال الى تأجيج المشاعر العدوانية للأمريكيين بعضهم ضد بعض, وليس ذلك الا بدافع النفعية الدافع الاول لوجهة النظر في الحياة للمبدأ الرأسمالي بحيث يتولد عنه سلوك عدواني عنيف نتيجة تصادم المصالح وقد برزت هذه العدوانية على الساحة بعد, وهي مرشحة للأسوأ.
3: الميليشيات المسلحة والمنظمة والمتعصبة للعرق الابيض او المدافعة عن الاعراق الاخرى: هذه الميليشيات لم تتردد في القيام باستعراضات عسكرية خلال هذه التجاذبات الانتخابية وهي على أهبة الاستعداد لتقبل رسائل ترامب والمرور الى الفعل. ولا يزال ترامب يدغدغ مشاعرها بإعلان النصر مرة تلو الاخرى متهما خصومه بالتدليس والتزوير متحديا كل الاعراف في عملية استنفار لكل القوى الساخطة على الوضع. كل هذا للضغط على الطرف المقابل وابتزازه ما أدى الى خروج مظاهرات ونشوب مناوشات في الشارع تنذر بالانفجار.
ان هذه العوامل مجتمعة, مع مخاطر التضخم المالي الذي قد ينتج عن المعالجات الترقيعية للازمة المالية لسنة 2008 والتي قدر الخبراء بروزها خلال عشرية من الزمن وقد آن أوانها, الى جانب تراجع الاداء الاقتصادي العالمي جراء الازمة الصحية, وبناء على المفاهيم النفعية الفردانية التي يقوم عليها المجتمع الرأسمالي, كل ذلك يرجح أن تكون امريكا على عتبة منعرج خطير في مسيرها. وبغض النظر عن مآل هذه الانتخابات فان ما يجري مجرد معركة لكن الحرب مستمرة بين الطرفين وداخل المجتمع الامريكي والكل يتصرف بدافع النفعية. وبغض النظر عن الفائز في هذه الإنتخابات فإن هذه مجرد معركة ولكن الحرب ستستمر بين الطرفين وداخل المجتمع الأمريكي, وما دامت الرأسمالية هي التي تقدم المعالجات فلا أمل للإنسانية في الخلاص. يجب التخلص من مفاهيم النفعية واحياء القيم الرفيعة في المجتمع وعند الافراد ولا بد أن تأخذ القيمة الروحية والقيمة الانسانية والقيمة الاخلاقية مكانها في الحياة, ولا يكون ذلك الا في دولة الاسلام: خلافة راشدة على منهاج النبوة.