ميزانية دولة أم طبخة حصى
من المضحكات المبكيات في وقتنا الحاضر انك ترى رئيس حكومة وقد خسر كل رهاناته في أول سنوات حكمه ولم تتحسن في عهده أي من المؤشرات الاقتصادية المعمول بها عالميا مثل ارتفاع نسبة النمو أو انخفاض مستوى البطالة والفقر أو التداين, ومع ذلك يقف هذا المسئول أمام نواب الشعب ليقرأ عليهم بيانا حول قانون الميزانية للسنة القادمة معتمدا نفس الأسلوب المبتذل من الوعود المبنية على افتراضات غير واقعية, إلى الدعوة إلى التضحية من اجل المصلحة العامة والتحذير من التشكيك في خياراته.
استمرار العجز والمديونية
ففي مثل هذا الوقت من السنة الفارطة وقف رئيس الحكومة يوسف الشاهد أمام نواب الشعب ليقرأ بيانا حول قانون الميزانية لسنة 2017, احتوى ذاك البيان على عديد الوعود, منها التحكم في الموازنة العامة, وتخفيض العجز ومستوى المديونية وتحسين القدرة الشرائية للمواطن ومقاومة الفساد و… ومع أن أي متابع للشأن السياسي والاقتصادي يدرك استحالة تحقيق أي من هذه الوعود في ضل استمرار نفس الخيارات الاقتصادية ونفس السياسة ذات العلاقة مع المؤسسات المالية العالمية, فإن المتابع لما تعلنه الحكومة نفسها من مؤشرات يتبين له مثلا أن نسبة العجز في الميزانية لم تنخفض خلال هذه السنة كما وعد بذلك الشاهد من 5.7% إلى 5.4%, بل ارتفعت إلى 6.1%, وان المديونية العمومية بدل أن تنخفض فقد ارتفعت من 8.5 مليار دينار سنة 2016 إلى 10.3 مليار دينار سنة 2017 . فكيف يجرؤ رئيس الحكومة بعد ذلك على أن يعد الناس مرة أخرى بما فشل في تحقيقه في المرة الأولى خصوصا وانه ينتهج نفس الخيارات ونفس السياسة.
فرضيات مغلوطة مع سبق الإصرار
إن العارفين بشان الاقتصاد التونسي وهيكلة القطاع الصناعي حيث تشكل الشركات غير المقيمة – off shore – 65% من النسيج الصناعي, وكذلك وضعية القطاع الفلاحي والدور الذي يلعبه المضاربون بالمنتوجات الفلاحية وتأثيرهم المتزايد على المقدرة الشرائية للمواطن في ضل تغافل الحكومة وتلكئها في الحد من هيمنتهم, كل هذه العوامل تجعل من بيان رئيس الحكومة “يوسف الشاهد” أمام نواب الشعب بخصوص الميزانية مجرد إعلان نوايا بعيدة عن الواقع وغير قابل للتطبيق.
فالميزانية بُنيت من البداية على فرضيات غير دقيقة مثل توقع استقرار سعر برميل النفط عند حدود 54 دولار أو توقع أن تصل نسبة النمو إلى 3%, أو توقع استقرار سعر صرف الدينار أمام العملات الأجنبية. هذه الفرضيات الواضح خطؤها يتم اعتمادها عن قصد وسبق إصرار كي تكون الشماعة التي تبرر بها الإخفاقات التي ستظهر دون شك ولتكون المبرر لاعتماد ميزانية تكميلية ثانية ككل عام, لتغطية الفساد والنهب وسوء التصرف في المال العام ولتبرير فرض مزيد من الضرائب.
التسهيلات والامتيازات للأجانب فقط
أما عن الإجراءات التي جاء “يوسف الشاهد” ليعلنها لتحقيق برنامجه فهي نوع من الطحن في الهواء واستمرار لاسطوانة الشيء المعتاد واتباع لنفس السياسة التي دأب عليها حكام تونس منذ الاستقلال المزعوم. فتشجيع الاستثمار الأجنبي هو الوصفة الوحيدة التي يفهمها حكام تونس لتنمية الاقتصاد, وهو عندهم تمكين الأجانب وخصوصا الأوروبيون من جميع الامتيازات الممكنة من إعفاءات من الضرائب وتكفل الدولة بمساهمات الصناديق الاجتماعية وتمكينهم من منح مالية بلغت مليار دولار سنويا أي أكثر من 2 مليار دينار تونسي بشهادة البنك الدولي. هذه الامتيازات لا تمنح إلا للمستثمر الأجنبي, أما حين يتعلق الأمر بالمؤسسات العمومية وما تعانيه من مشاكل وإهمال فالدولة تتعذر بضعف الإمكانيات ويكون ضعفها سببا لبيعها للأجانب تحت عنوان الشراكة الإستراتيجية بين القطاع العام والخاص.
“الشاهد” وترشيد استيراد الدبابات
وبالرغم من عديد الدراسات والندوات التي أكدت على خطر التوريد العشوائي على مستقبل النسيج الصناعي المحلي وعلى ضرورة حماية الإنتاج المحلى من المنافسة غير المتكافئة للبضائع الموردة من الاتحاد الأوروبي بشكل خاص, فقد تجاهل “يوسف الشاهد” كل هذه الدراسات وأعلن في حركة مثيرة للاستغراب عن إجراءات لترشيد التوريد من نوع خاص,فقد قرر الترقيع في المعاليم القمرقية عند توريد بعض المنتجات مثل الطائرات والدبابات والذخيرة وأقلام الرصاص وبعض الأدوات المدرسية ! ! ! فهل لدينا صناعة عسكرية يريد الشاهد حمايتها! ! !
ختاما يبدو أن “يوسف الشاهد” يقدم بيانه حول قانون الميزانية لسنة 2018 كمن يقص على الأطفال قصصا قبل نومهم أو كمن يدعو أتباعه لانتظار طبخة الحصى لعلهم ينامون. ولعل “يوسف الشاهد” نفسه لا يصدق ما كُتب له ليقرأه, وإن تهديده وتوعُّدَه لمن يشكك في سياسته واختيارات حكومته هو دليل آخر على انه غير مقتنع فعلا بما يقول.