ميزانية 2018: 65% من مواردها من جيوبنا وأكثر من خمسها تعود إلى الصناديق الناهبة

ميزانية 2018: 65% من مواردها من جيوبنا وأكثر من خمسها تعود إلى الصناديق الناهبة

تعتبر ميزانية الدولة في النظام الرأسمالي، المرآة العاكسة لسياسات الحكومات واستراتيجيات وتصورات الأحزاب الحاكمة، وبما أن العصبة الحاكمة التي تحكمنا اليوم، وحكمتنا من قبل طوال سنين، احترفت التبعية المذلة والارتهان المخزي للأجنبي, والارتماء الأعمى في أحضان المؤسسات المالية الاحتكارية الاستعمارية، وإذا اتفقنا بأنّ طبيعة النظام هو الاستعمار الرأسمالي، ففي حالتنا هذه، فإنّ هذه الحكومة العميلة لا تملك أي سيادة على قراراتها، وبذلك فإن قانون ميزانية 2018 وكباقي القوانين التي مرت علينا لن تكون إلاّ مملاة من طرف الدول المسيرة المهيمنة كبريطانيا وأمريكا وفرنسا والدوائر المالية الناهبة كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي….

وهذا ما يتبين لنا منذ الوهلة الأولى، فالحكومة بنت سياستها للميزانية على عدد من التوقعات والافتراضات وأهمها مستوى سعر صرف الدولار، وهذا ما يجعل كل استراتيجيات الحكومة مربوطة بشكل وثيق بقيمة الدولار، وكلنا يتذكر ما انجر عنه انخفاض قيمة الدينار تجاه الدولار، في الفترة الأخيرة، من ارتفاع قيمة خدمة الدين مما أجبر الحكومة على مزيد التداين وتعميق الاختلال المالي.

وهنا، ودون التعمق في العديد من التفاصيل، فلقد تم ضبط حجم الميزانية للدولة لسنة 2018 في حدود 35851 مليون دينار بزيادة 3451 مليون دينار بالمقارنة مع تقديرات قانون المالية الأصلي 2017,
وعلى مستوى التوازنات فقد يبلغ عجز الميزانية حسب الفرضيات المعتمدة لإعداد مشروع الميزانية إلى مستوى 5216 مليون دينار أي ما يعادل نسبة 4.9 % من الناتج المحلي الإجمالي وهي نسبة تعتبر عالية جدا لن تزيد إلاّ في تأزيم الوضع الإقتصادي المتأزّم بطبعه.

وبما أننا نعيش اليوم في نظام تغول رأسمالي، امتدادا لنظام العمالة الذي عرفته تونس منذ تنصيب بورقيبة ومرورا بالفار بن علي “استعمار غير مباشر”، وهذا ليس تجنيًا على النظام والدليل على ذلك أنّ أكثر من خمس الميزانية 7972 مليون دينار مخصّص لخلاص الديون الربوية، الموجهة لكبار رؤوس الأموال الداخلية والخارجية وللمؤسسات المالية الناهبة كصندوق النقد الدولي والبنك الإفريقي للتنمية، التي تحصّلت عليها المافيا التي كانت جاثمة على صدور التونسيين. ويفوق هذا المبلغ مجمل الاعتمادات الموجهة إلى وزارة الصحة ووزارة الشؤون الاجتماعية (العائلات المعوزة ، الصناديق الاجتماعية ، التأمين على المرض وغيرها) ووزارة التكوين المهني والتشغيل (التكوين المهني ، برامج التشغيل وغيرها) ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي. وهو ما يعكس حقا سياسة المديونية المتوخات وغياب جانب الرعاية لدى الدولة.

هذا فيما يخص النفقات، أما تعبئة موارد الميزانية فهي مُتأتّية أساسا من الموارد الجبائيّة ب 23484 م د ما يعادل حوالي 65 % من جملة الموارد في حين لا تمثل الموارد الغير الجبائيّة في مجملها من عائدات النفط والغاز ومداخيل الأملاك المصادرة، لا تمثل سوى 8% من جملة الموارد، أما موارد الاقتراض فقد مثلت  26%  من مجموع الواردات.

هذه الأرقام تبين كاشفا سياسة الدولة الممنهجة في تفريطها لثرواتنا الباطنية لفائدة أصحاب رؤوس الأموال وتهميشها للمؤسسات العمومية، وبالنّتيجة، ستتحمّل الفئات الضّعيفة والمتوسّطة آثار هذه التّعبئة المجحفة للموارد الجبائيّة تقشّفًا وتفقيرًا وتجويعًا.. فالمداخيل الجبائيّة من حيث هي آداءات مباشرة وغير مباشرة، ستشهد ترفيعًا في الضّرائب على المرتّبات والأجور، رغم حالة التّدنّي في المقدرة الشّرائيّة للطّبقات المتوسطة، إضافة إلى الارتفاع المتوقع للأسعار وارتفاع نسبة الاداءات على القيمة المضافة ومعلوم الاستهلاك، والمعاليم الدّيوانيّة وإتاواتها .

مثل هذه الإجراءات الواردة بقانون الماليّة الجديد، عندما لا تَمَسُّ التّهرّب الضّريبي، أو سنّ ضريبة على الثّروات الكبرى للأغنياء ( وتونس تحتلّ المراتب الأولى إفريقيًّا في عدد المليارديرات والمليونيرات)، وعندما لا تُخْضِعُ الشّركات الأجنبيّة لضريبة على أرباحها، ولا تتصدّى لكافة أشكال تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج، فهي تكشف عن الطّبيعة المتوحّشة للنّظام الاقتصادي الليبرالي المنتصر لمصالح رأس المال العالمي.

إن ما ورد في قانون المالية الجديد، فيما يتعلّق بتعبئة الموارد أو بنفقات التّصرّف، لم يخرج عن استراتيجيات الإملاء والتّوصيات، كما لم يقطع مع منطق الانتصار للأغنياء ومصالح رأس المال الأجنبي ووكلائه المحليين. ويعتبر خدمة الدّين العمومي أصلا وفائدة هو الالتزام الوحيد الذي تتعهّد به الدّولة، أمام تراجعاتها في الإنفاق العمومي على الشّغل والتّنمية والصحة والتعليم والحياة الكريمة وتملّصها من مسؤوليّاتها عن تدهور الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

إن الحكومات المتعاقبة، وبإذعانها المتواصل لشروط صندوق النّقد الدّولي وتوصياته، تعمل جاهدة على معاداة عموم الشّعب، وتحمّله, إدّعاءً، أعباء صعوبات الوضع الاقتصادي، وما تمرّ به البلاد من مخاطر.

وعلى النقيض من سياسة صندوق النقد الدولي الرأسمالية، فإن الإسلام يضمن توزيع ثروة الملكية العامة لموارد الطاقة والموارد المعدنية على الناس، فموارد الملكية العامة تعود للناس وليست للدولة أو لأفراد معينين، وتقوم الدولة بإدارة هذه الموارد لضمان استفادة جميع الرعايا منها، مصداقا لقول رسول الله ﷺ «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ، وَالْكَلَإِ، وَالنَّار» رواه أحمد.
إنّ صندوق النقد الدولي يضمن خنق الاقتصاد من خلال فرض الضرائب الضخمة على الفئة الفقيرة والمتوسطة ، ويفرض زيادة الضرائب باستمرار. وخلافا لسياسة صندوق النقد الدولي، فإن الإسلام يأخذ في الاعتبار قدرة كل فرد على تحقيق احتياجاته الأساسية من غذاء وملبس ومسكن، وحتى عندما يفرض الضرائب، فإنه لا يفرضها على الفقراء والمحتاجين من الذين لا يستطيعون تأمين احتياجاتهم الأساسية.
وعلاوة على ذلك، فإن صندوق النقد الدولي يربط السياسات الاقتصادية للدول النامية بنظام القروض الربوي مما يؤدي إلى تعميق المديونية، فالفائدة على القروض تبقي تونس غارقة في الديون على الرغم من أنها قد تدفع الدين الأصلي مرات عديدة. فالديون الآن تستهلك حوالي خمس الميزانية بأكملها، وهي بمليارات الدولارات سنويا، وما زالت تونس تغرق في مزيد من الديون سنة بعد سنة.

 إن اللجوء المستمر، من الحكومات المتتالية، إلى املاءات صناديق النهب الدولية ، هو دليل واضح وصارخ على العجز الفكري والإفلاس السياسي الذي صبغ الأحزاب العلمانية الحاكمة في تصورهم للحلول اللازمة لمعالجة مشاكل الناس وكيفية تطبيقها على أرض الواقع، وهو عجز وفشل ضمني للنظام الرأسمالي المتبنى من طرف هذه الحكومات المتعاقبة.   فالنظام الرأسمالي، الذي يحمل فشله في أحشائه، قد أفلس ولم يعد لديه ما يسوّق إلا بعض المسكنات المؤقتة، وأنصاف الحلول الواهية الواهمة, الكاذبة، التي مر زمانها ولم تعد تنطلي على وعي الأمة الإسلامية، ولم تعد قادرة على مجابهة إصرار الأمة لقلب الموازين والتحرر من تبعية الغرب المستعمر والانضواء تحت قانون خالق السماوات والأرض، في دولة العدل والقسطاس، دولة الإرادة والسيادة، الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.

ممدوح بوعزيز

CATEGORIES
TAGS
Share This