ممدوح بوعزيز, عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير – تونس
تعتبر هذه الفترة من آخر كل سنة، أكثر الفترات نشاطًا لبعثات صندوق النقد الدولي في جميع بلدان العالم وخاصة منها المصنفة كبلدان نامية أو متخلفة، وذلك نظرا لتزامنها مع التحضيرات والمداولات النيابية للمصادقة على قوانين المالية للسنة القادمة.
ويعمل صندوق النقد الدولي على إضفاء الصبغة التشريعية لحبائله وأوامره من خلال دسّها في مشروع الميزانية وفرضها على الشعوب في شكل قوانين تطبق بالحديد والنار.
وفي هذا الإطار، جاء في بلاغ لصندوق النقد الدولي، إبان زيارته الأخيرة لتونس، جاء ملزما الحكومة على القيام بالإصلاحات المطلوبة منها، خلال الفترة القادمة، كالإصلاح الجبائي وإعادة هيكلة المؤسسات العمومية وخاصة عقلنة النفقات بالضغط المباشر على كتلة الأجور التي تستحوذ على نصف النفقات العمومية .
ما المقصود بتقليص النفقات العمومية ؟
إن الطرح الليبرالي لمفهوم عقلنة نفقات الميزانية المعتمد في بلادنا منذ بداية عقد الثمانينات، جاء في سياق سياسات التقويم الهيكلي المفروضة من طرف المؤسسات المالية الدولية والذي يخدم المذهب الرأسمالي بعينه، ونجده يدعو من بين ما يدعو إليه إلى:
1 – خفض مستوى الإنفاق العمومي المتعلق على الخصوص بالخدمات الاجتماعية التي يستفيد منها الفقراء ومحدودي الدخل.
2 – خفض ما يسمى بالحجم الكبير للقطاع العمومي من خلال تجميد التوظيف العمومي وتجميد الأجور، ونقل الكثير من الوظائف التي تضطلع بها الإدارات العمومية إلى القطاع الخاص مثل خدمات التعليم والصحة والإسكان ومرافق المياه والكهرباء والنقل … الخ.
الخلفيات الكارثية لمفهوم عقلنة النفقات العمومية
إن ما يزعمونه من عقلنة النفقات العمومية يتلخص أساسا في تقليص الاعتمادات الموجهة للقطاعات الاجتماعية الحيوية كالتعليم والصحة والوظيفة العمومية أو على تقليص المعدات والخدمات الضرورية لعدد من المرافق العمومية الحيوية في الوقت الذي يسمح فيه بهامش واسع من التبذير في مجالات أخرى كثيرة كالإفراط في منح الامتيازات والرواتب إلى كبار موظفي الدولة والمخصصات الكبيرة للسفر إلى الخارج…
هذه السياسة المتمثلة في تجميد مستوى المرتبات والأجور والحد من التوظيف العمومي.. الخ، تعتبر المولد الحقيقي والسبب الأساسي لأغلب مشاكل الشعب. فقد عمقت هذه الوضعية انهيار القدرة الشرائية وتآكل الطبقة الوسطى بما أن أجور الموظفين وإن كانت تشكل أهم وأكبر بنود الإنفاق العمومي الجاري في الميزانية العامة، إلا أنها من ناحية أخرى تعتبر المصدر الأساسي لإنفاقهم، وبالتالي فإن تخفيضها من خلال تجميد الأجور والتوظيف سينعكس مباشرة في تخفيض القدرة الشرائية، مما يترتب عنه تأثير في الحركة التجارية والاستهلاك الداخلي
كما أن الضغط على ميزانية المؤسسات العمومية والتوظيف العمومي يؤثر على جودة الخدمات، فكثيـرا ما نسمع عن مدارس بدون مدرسين، وكذلك عن مستشفيات بدون أطباء أو بدون أدوية أو بدون معدات.
إذا فإن ما يدعون أنها عقلنة هي في حقيقة الأمر كارثة على العباد والبلاد وهي نتيجة حتمية لجشع النظام الرأسمالي الباحث لشيطنة المؤسسات العمومية كي يحل محلها القطاع الخاص في مجالات التعليم والصحة والنقل…
واقعياً، يعني هذا الكلام الذي يقال على كثير من أفواه المسؤولين أن السلطات اختارت للشعب الطريق الليبرالي طريق رأسمالية الدولة لذات الشعب.
وبالتالي أصبح مفهوم الخدمات الاجتماعي شعاراً فارغاً ومُصدّراً للإعلام للتخفيف من صدمة نتائج القرارات الرأسمالية المتتالية.
وبالتالي فان هذه الحكومات المتعاقبة علينا، وبعيدا عن تخمينات الأسماء والمناصب، وبعيدا عن النزاعات والمحصصات الحزبية، ويقينا منا أن منهاج وبرنامج الحكومات المتعاقبة علينا، من زمن بورقيبة إلى حكومة الجملي القادمة، تأتينا تفاصيلها وحيثياتها من وراء البحار، هذه الحكومات اختارت الدفاع عن مصالح الأغنياء من القطاع الخاص بما يتناسب مع قرارات البنك والصندوق الدوليين وباقي الجهات الدولية المانحة إذن تونس الآن في المفترق: الدولة تتبنى الرأسمالية والخصخصة كسياسة عامة، والشعب يعيش ضنك العيش وتأزم الأوضاع.
أمام هذا الوضع المتأزم، لا يكفي أن يرفع الشعب شعار إسقاط الحكومات، بل لا بد أن ينادي بالبديل، فتغيير وجه قبيح بوجه أقبح منه لن يغير الحال، بل سيفاقم المشكلة، ولا اقصد هنا وجوه النظام القديم فقط بل الوجوه التي تنادي بالبديل المفتوح الغير واضح أيضا، كالوجوه التي ترفع شعارات (دع الشعب يحكم) أو (الديمقراطية أو (الإسلام بشكل مفتوح، أي علمنة الإسلام) وغير ذلك، وهذه وجوه تلبس أقنعة مختلفة منها الإسلامي ومنها الاشتراكي ومنها الرأسمالي الديمقراطي ومنها القومي ومنها الوطني، وكلها وصفات السيد الغربي وقد حكمت وطبقت هذه الوصفات، فما زادت على كونها تقوية للاستعمار القديم الجديد.
أما البديل الحقيقي فهو الخلافة الإسلامية التي ستطبق الإسلام بشكل فعلي في جميع مناحي الحياة، وستأخذ زمام المبادرة من دول الظلم والطغيان في العالم وخاصة أمريكا والغرب، وستتبوأ مقعد الدولة الأولى في العالم، وستنشر الخير والعدل وتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وتملأ الدنيا عدلا كما ملئت جورا وظلما، وبغير هذا ستبقى الوجوه تتبدل والأنظمة التي هي سبب التعاسة والظلم باقية.