حدّث أبو ذرّ التونسي قال: احتضنت مدينة طبرقة الساحليّة يومي الأربعاء والخميس الفارطين ندوة وطنية حول (التعايش بين الأديان في تونس: دعم للسياحة ومقاومة للإرهاب) نظّمتها هيئة السلام والتنمية تحت إشراف وزارة الشؤون الدينيّة ووزارة السياحة والصناعات التقليديّة…وإلى جانب الأطراف المنظّمة والمشرفة، أثّث فعاليّات هذه النّدوة ـ دعمًا وإثراءً وتصوّرًا ومصادقة ـ ممثّلو (الطّائفتين) المسيحيّة واليهوديّة بتونس، وممثّلو الطّوائف المسيحيّة ببعض الدّول العربيّة والإفريقيّة على غرار لبنان، وممثّلو بعض الهياكل الوزاريّة الدّينية بالعالمين العربي والإسلامي على غرار وزارة الشؤون الإسلاميّة والدّعوة بالمملكة العربيّة السعوديّة ووزارة الأوقاف الفلسطينيّة…كما سُجّل حضور ممثّل عن وزارة الدّاخليّة التّونسيّة وممثّل عن السّفارة الأمريكية بتونس في شخص مستشارها السياسيّ (جوناثان بيسيا)، وقد تكفّلت بالتّغطية الإعلاميّة للنّدوة قناة الحرّة العراقيّة المعروفة بتوجّهاتها الأمريكيّة…أمّا عن فعاليّاتها فقد تضمّنت النّدوة كلمات لممثّلي (الطّوائف الثّلاثة في تونس) ومداخلات حول موضوع التّعايش من قبيل (السّلم والعيش المشترك ـ دور الدّساتير في إرساء التعايش السّلمي ـ التجربة التونسيّة في دحر الإرهاب ـ دور التّعايش الديني في دعم السّياحة ـ دور التعايش في مقاومة التطرّف والإرهاب)…وقد تُوّجت هذه النّدوة بصياغة (ميثاق طبرقة للتّعايش بين الأديان) الذي تُلي في خاتمة الفعاليّات على الحضور ووقع إمضاؤه من طرف جميع المشاركين، وهذا بيت القصيد…
محلّي أم دولي..؟؟
لن نتمكّن حاليًّا من مناقشة بنود هذا الميثاق، فقد ظلّت محاطة بشبه سرّية وتكتّم حبيسة النّزل الذي احتضنها والورشات التي أقرّتها فلم يقع نشرها ـ لا واقعيًّا ولا افتراضيًّا ـ ولم تُغَطَّ إعلاميًّا أو تطرح للنّقاش العلني بالشّكل المطلوب…ومع ذلك فإنّ ظروفها وحيثيّاتها وملابساتها ـ مكانًا وتوقيتًا وحضورًا وطرحًا ـ تحرّك فينا ماكنة الشكّ المنهجي وتطرح العديد من التّساؤلات وأوّلها ما يتعلّق بطبيعة هذا الميثاق من حيث حجمه واتّساعه ودائرة تأثيره: فهل هو محلّي خاصّ بالاستهلاك الدّاخلي كما يوحي بذلك المكان الذي تمخّض عنه (تونس) والمدينة التي نُسب إليها (طبرقة)..؟؟ أم أنّه دوليّ مجعول للتّسويق الإقليمي والعالمي كما قد يُفهم من تركيبة قائمة المشاركين في إعداده وإمضائه..؟؟ فعلى مستوى الإطار المكاني ليس هناك دافع ذاتي محلّي لانعقاد مثل هذه النّدوة على الأراضي التونسيّة: فمسألة التعايش بين الأديان غير مطروحة في تونس وما من دوافع اجتماعيّة أو سياسيّة لإثارتها، فليس هناك حزازيّات طائفيّة عقائديّة بين المسلمين وأهل الكتاب، وليس هناك استهداف عنيف أو مسلّح ضدّهم من طرف جماعات إسلاميّة محليّة أو أجنبيّة على الأراضي التونسيّة…فهل أنّ ذلك خطوة استباقيّة تمهيدًا لإجراءات وقرارات مبرمجة مستقبلاً لصالح اليهود والنّصارى وعلى حساب الإسلام والمسلمين من شأنها إثارة حفائظ التونسيّين..؟؟ أمّا على مستوى المشاركين في الفعاليّات فإنّ تركيبتهم ذات بعد عالمي، فهي متباينة عرقًا (عرب ـ أفارقة ـ أوروبيّون…) ودينًا (مسلمون ـ مسيحيّون ـ يهود) وجنسيّةً (تونس ـ السعوديّة ـ لبنان ـ فلسطين ـ العراق ـ أمريكا ـ إفريقيا السّوداء…)، ولا ننسى أنّ هذا الخليط قد ساهم (نظريًّا) في وضع بنود الميثاق وأمضى عليها، فهو عمليًّا معني بها…
ملزم أم اختياري
ثاني التّساؤلات التي تثار حول ميثاق طبرقة تتعلّق بتأثيره وفاعليّته وقوّته الإجرائيّة: فهل هو إلزامي جبري مجعول للتّطبيق الفوري بمثابة الاتّفاقيّة الدّولية لمكافحة التطرّف يُجرّم مخالفه ويوضع تحت طائلة قانون الإرهاب…؟؟ أم أنّه ذو طبيعة اختياريّة طوعيّة توعويّة بوصفه مجرّد (توصيات) لتنشيط القطاع السّياحي التونسي وتأمين السيّاح الغربيّين…؟؟ إنّ الشكل الذي تجسّد فيه هذا المولود الجديد (ميثاق) وطبيعته (دولي) والقضيّة التي تناولها (التعايش بين الأديان) والكيفيّة التي طرحت بها (في علاقتها بالتّطرّف والإرهاب) والحضور الأمريكي الملفت الذي واكبها (المستشار السياسي للسّفارة الأمريكيّة ـ قناة الحرّة)، كلّ هذه المعطيات تدفع إلى اعتباره وثيقة سياسيّة دولية ملزمة لكافّة الدّول الإسلامية…ونحن لا نشكّ لحظة في أنّ ميثاق طبرقة حاضر ومعدّ سلفًا وسابق للنّدوة ومترجم لكافّة اللّغات المعنيّة به، وما الكلمات والمداخلات والورشات إلاّ الدّسم الذي سيمرّر عبره السمّ الزُّعاف، أي أنّها بمثابة المناسبة والإطار (الزّمكاني) لإقرار الميثاق والمصادقة عليه: فالمطلوب حصرًا هو الموافقة عليه وإمضاؤه والالتزام به، وهذا ما تتكفّل به أشغال النّدوة، وما تونس في كلّ هذا إلاّ (منصّة آمنة) لشرعنته وتمريره وتسويقه…وممّا يدعم ذلك أنّ الحديث عن (السّلم والعيش المشترك) لم يخلُ من نبرة توعّد وتهديد: فهو مُسوّق في إطار مقايضة السّلم والتّنمية والانتعاش السّياحي بقبول الغزو الثّقافي التّبشيري وإعطاء الدّنيّة في الدّين…فإن كنّا نريد السّلم والأمن والتّنمية فما علينا إلاّ أن نرضخ لإملاءات الكافر المستعمر ونرضى بالإذلال والهوان وإلاّ فالحرب والفوضى والفقر والتخلّف…إزاء هذا المنطق الأرعن الوقح كان على الردّ أن يكون قويًّا مزلزلاً جديرًا بأمّة حرّة (تجوع ولا تأكل من ثدييها)…
إطار طائفي
إنّ مسألة التعايش بين الأديان قد وُضعت في إطار طائفي يوحي بأنّ تونس بلد متعدّد الطّوائف وأنّ الإسلام فيه مجرّد طائفة كباقي الطّوائف وأنّ اليهوديّة والمسيحيّة يقفان إزاءه موقف الندّ وعلى قدم المساواة، مع أنّ هذا مخالف بالمُشاهَد الملموس لواقع البلاد وأهلها: فتونس جزء عزيز من العالم الإسلامي وأهلُها ليسوا دخلاء أو أجانب أو (كُرّاي) بل شعب عريق من شعوب الأمّة الإسلاميّة حسُن إسلامُه منذ القرن 07 للميلاد…فالإسلام في تونس بالأصالة والابتداء وهو عقيدة أهل البلاد وبالتّالي فهو الأصل والمكوّن الأساسي والرّئيسي والمقوّم الوحيد لهويّة البلاد والعباد…وإنّ التشكيك في هذا المعطى التّاريخي الجوهري الثّابت والإقرار بثانويّة الإسلام في تونس واستوائه مع سائر الأديان والعقائد هو من باب الاستئناف على الفتح الإسلامي والتّعقيب على هويّة البلاد والعباد والتّسليم بوقوعها تحت الاحتلال المباشر للكافر المستعمر… ولئن كان الحديث عن اليهود لهُ ما يُبرّره من المعطيات على أرض الواقع (يهود جربة) فإنّ إقحام المسيحيّين في المشهد الاجتماعي والسّياسي التونسي يتنزّل في تقديرنا في سياق تواطؤ السّلطة مع حركة التّبشير المحتشمة في البلاد: فهو من قبيل الاعتراف باعتناق بعض الشّباب التونسي للمسيحيّة والنّفخ في صورتهم والارتقاء بهم إلى مستوى الطّائفة المتساوية مع المسلمين إلى جانب تبييض النّشاط التبشيري في تونس وشرعنته وإعطائه دفعة معنويّة تنقله نقلة نوعيّة…وفي كلّ هذا ما فيه من حرب على الله ورسوله وشرائعه، ومن تعدٍّ على حدود الله لاسيّما حدّ الردّة…
أكذوبة السياحة
إنّ موضوع التّعايش بين الأديان قد وقع ربطه في هذه النّدوة بقطاع السّياحة، بمعنى قبول السيّاح اليهود والنّصارى والسّهر على راحتهم وتلبية متطلّباتهم واحتياجاتهم والتّغاضي عن ممارساتهم وسلوكيّاتهم وإن كانت مناقضة لعقيدتنا محرّمة في شريعتنا مخالفة لأخلاقنا خادشة لحيائنا…وهنا أودّ التذكير بأنّ الأصل في الضّيف أن يحترم مشاعر مضيّفه وعقيدته وطقوسه الدّينية وأن يلتزم بأخلاقه وأعرافه ما دام بين ظهرانيه ضيفًا عليه، لا أن يتكلّف المضيف أخلاق ضيفه ويُلزم نفسه بعقيدته وأعرافه…كما أن الأصل في السّائح الذي يختار بلادنا ويفضّلها على سائر الوجهات السياحيّة الأخرى أنّه يريد التعرّف على ثقافتنا وحضارتنا وعاداتنا وتقاليدنا وبالتّالي نحن مطالبون بأن نهيِّئ له الأجواء التونسية الإسلاميّة الأصيلة التي يتطلّع إليها لا أن ننقل له أجواءه الأوروبيّة الروتينيّة المملولة إلى تونس، لاسيما إذا كانت ملتبسة بالفسق والفجور والمناكر… كما أنّ الحديث عن (دور التّعايش الدّيني في دعم السّياحة) هو مجرّد استعراض أجوف لا واقع له: فالسّياحة مشغل لا يرتقي إلى مستوى القطاع الاقتصادي لأنّه مشغل هشّ وحسّاس ومتقلّب وسريع التأثّر بالأحداث ويمكن بالتّالي التحكّم فيه عن بعد، وإنّ الدول المعتمدة على السّياحة يسهل إخضاعها للمساومة والمقايضة والحسابات السّياسية، هذا فضلاً عن قلّة مردوديّته وعدم جدواه الاقتصاديّة مقارنةً بما يتطلّبه من بنية تحتيّة وتمويلات (نزل ـ فنادق ـ أغذية ـ مياه…) فهو في الواقع عبء على الدّول التي تعتمد عليه…من هذا المنطلق فإنّ السياحة ليست من مقوّمات اقتصاديّات الدّول الحرّة ذات السّيادة بل نجدها مرتبطة بالدّول النّامية والعالم الثّالث المتخلّف التّابع بما فيه دول العالم الإسلامي حيث استُخدم من طرف الكافر المستعمر كشكل من أشكال الغزو الثّقافي والجوسسة وتمييع شباب الأمّة الإسلاميّة، وفي هذا الإطار بالذّات يقع التّرويج لأكذوبة السياحة في علاقتها بالتّنمية…
فزّاعة الإرهاب
موضوع النّدوة وقع ربطه أيضًا بمقاومة الإرهاب، بمعنى أن تهيئة البنية التّحتية لأجواء العربدة والمجون والخمر والمخدّرات والعهر للسيّاح اليهود والنّصارى، والرّضى بممارساتهم وسلوكيّاتهم تلك رغم مخالفتها لعقيدتنا وشرائعنا الإسلاميّة، هو شكل من أشكال التّسامح الدّيني والتّعايش السّلمي وأسلوب من أساليب محاربة الإرهاب والتطرّف…ومن المفيد أن نذكّر هنا بأنّ الإرهاب المقصود هو اصطلاح سياسي غربي وضعه الكافر المستعمر وقصد به الإسلام ـ عقيدةً وشريعةً ومقدّساتٍ وأتباعًا ـ فالمطلوب من المسلمين القبول بالغزو الثّقافي الغربي والنّهب الاستعماري للثّروات وتنقيح عقيدتهم بما يبيح ذلك ويكرّسه وصنصرة شريعتهم ممّا يعيقه أو يعرقله، ومن يعترض على ذلك فهو إرهابيّ يجب تصفيتهُ…فالمقصود بـ (التّعايش) ليس القبول بأهل الكتاب في إطار الضوابط الشّرعية الإسلاميّة ولكن المقصود قبولهم على علاّتهم وفسادهم وتعدّيهم على ثقافتنا وأخلاقنا وأعرافنا وإفسادهم لناشئتنا، بل وتهيئة البنية التّحتية والأجواء المريحة الكفيلة لهم بتحقيق ذلك… أمّا الحديث عن (التّجربة التونسيّة في دحر الإرهاب) ففيه تضخيم للأحداث وتزوير للحقائق: فقد أضحى معلومًا لدى القاصي والدّاني أنّ الإرهاب في تونس صناعة مخابراتيّة صِرفة ـ تصوُّرًا وتصميمًا وتنفيذًا وتوقيتًا ـ تلتجئ إليه السُّلطة بوصفه رصيدًا سياسيًّا وبرنامجًا انتخابيًّا، توظّفه إن كان موجودًا أو توجده من عدم في أقبية مخابراتها وتسيّره (بالتليكوموند) وتستثمر فيه بوصفه إمّا شمّاعة تعلّق عليها فشلها وتنكُّبها عن وعودها، أو فزّاعة تنفّر بها الشّعب من الإسلام والإسلاميّين وتدفعُه إلى الاصطفاف خلفها كالقطيع مدفوعًا بغريزة البقاء، أو تعلّة تستبيح بها الحركات الإسلاميّة المخلصة وتستهدف بها العمل السّياسي على أساس العقيدة الإسلاميّة بالتّعطيل أو الحظر أو حتّى التّصفية…ودونك واقع الحركة السّلفية في تونس بعد الثّورة…
التّعايش الحقيقي
إنّ الحديث عن (دور الدّساتير في إرساء التّعايش السّلمي) فيه اعتراف صريح بأنّ دستور الإسلام (القرآن والسُنّة وما أرشدا إليه) لا يُقرّ هذا الشّكل من التّعايش الذي يدعون إليه، وبأنّ الدستور التونسي الذي يستنجدون به لتمرير طبختهم مخالف للإسلام وللأحكام الشّرعية المتعلّقة بالتّعامل مع أهل الذمّة في الدّولة الإسلامية، كما أنّ فيه دعوة صريحة أيضًا لاستبدال الشّرع الإسلامي بالدّستور الوضعي الوضيع الذي يفتح البلاد والعباد والمقدّرات والمقدّسات على مصراعيها للكافر المستعمر …وإنّ التعايش الحقيقي بين الأديان لا يتحقّق إلاّ في ظلّ دولة الخلافة الإسلاميّة بمقتضى عقد التّابعية الذي يتضمّن حماية أهل الذمّة والحفاظ على حُرّيتهم الدّينية وإقامة العدل بينهم والانتصاف من الظّالم لهم أو منهم…فقد شُرع عقد الذمّة أساسًا ليكون وسيلة إلى تليين قلوب أهل الكتاب وشرح صدورهم للإسلام، لذلك كُفلت لهم بمقتضاه جميع حقوقهم: فمن حقّهم أن يُمارسوا شعائر دينهم فلا تُهدم لهم بيعةُ ولا يُكسر لهم صليب ولا يُكرهون على ترك دينهم قال صلّى الله عليه وسلّم (أتركوهم وما يدينون) بل إنّه لا يحقُّ للزّوج المسلم أن يمنع زوجته الكتابيّة من أن ترتاد الكنيسة أو البيعة، وأُقرّ لهم ما أباحه لهم دينهم من الطّعام والشّراب فلا يُمنعون من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير…كما كفل لهم عقد التّابعية التّصرُّف في الأحوال الشخصيّة بما تمليه عليهم عقائدهم في قضايا الزّواج والطّلاق والنّفقة والميراث وغيرها، وكفل لهم كرامتهم وصان لهم حقوقهم وأوجب على المسلمين ملاينتهم والرّفق بهم قال تعالى: (ولا تُجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالّتي هي أحسن)، كما سوّى بينهم وبين المسلمين في العقوبات والمعاملات…وقد أحلّ الإسلام ذبائحهم والتزوّج بنسائهم وأباح زيارتهم وعيادة مرضاهم والتعامل معهم : فمن الثابت أنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم مات ودرعه مرهونة لدى يهوديّ…فأين نحن من التعايش الاستعماري المسموم الذي يهدف إلى إذلال المسلمين ومسخهم..؟؟