نزيف الوطنيّات
عجيب أمر هذه الوطنيات التي استلمناها في بدايات الخمسينيات من يد العدو المستعمر، بعد أن بُذلت في سبيل إخراج عساكره أنفس عزيزة، ودماء زكية. ظنّالجميع يومها أننا تحرّرنا من سلطانه، وأننااستعدنا إرادتنا وقرارنا
ولكنّنااستفقنا بعد كل هذه السنون، أن أولى أولوياتنا، اليوم، أن نزيح هؤلاء الذين يسمون حكاما عن كواهلنا. رأينا أدعياءالوطنيّة، وزاعمي حماية الوطن تحملهم دبابات الأمريكان لتنصبهم على رقاب أهلنا في عراقنا الأشم. وباسم الوطنية، والدفاع عن الوطن، فُتح شامنا المبارك أمام كل عتل زنيم، ليُشرَد نصف أهله ويُقتل مئات الآلاف وتُنتهك المحارم الطاهرات. وباسم صيانة الوطنية (التي يحميها مرتزقة روسيا، وشذّاذ الآفاق، تحرّكهم أياد أمريكية مجرمة)، لم يستح الأفاكون أشباه الحكّام الوطنيين أن يُعيدوا الاعتراف بجزّار الشّام بإعادته إلى حضيرتهم. نعم هي الوطنيّة التي أباحت لجزّار الشّام قتل شعبه وهي نفس الوطنية التي تَضِنُ على المصري بمأوى يواري فيه همومه فألجأته الى المدافن يتكئ على توابيتها، بعد أن كانت مصر “حضرةُ الدنيا وبستانُ العالم” في زمن ابن خلدون، وألجأته أيضا إلى الشرب من ماء الترع، ومياه النيل محجوزة عنه في أعالي هضاب الحبشة، وحامي “وطنيتها”يترجى حاكم الأحابيش أن لا يتعرض لمصالح مصر بسوء!! وهي الوطنيّة نفسها في ليبيا الأبيّة، وباسمها يتهارش مدعوا حمايتها، على ميراث الهالك، هذا وسدودها تجرف عشرات الآلاف في ثوان معدودة، لتتعفر الأجسام بالنفط الليبي الذي تتصارع ضباع العالم على الارتواء منه
وهي الوطنيّة نفسها لم تتغير في تونس الخضراء التي جعلت أحرارها وحرائرها يقفون في طوابير رجاء الحصول على أدنى ضرورات الحياة، بعد عقود من التشدق بالوطنية والدّولة الوطنيّة. وهي الوطنيّة نفسها التي جعلت من أبناء الأمّة الواحدة في أقفاص كلّ “وطن” هو عبارة عن قفص أو سجن لا يجوز الخروج منه،وياويل التونسي لو ضُبِط وهو يبيع بقرة لأخيه الجزائري، عبر حدود الوطن-السّجن، أو أُلقي عليه القبض على أي جانب من حدود الوطن-السّجن وهو يحمل” بيدون ” مازوط، خشية أن يخرم به الميزان التجاري ويؤذي به كِلَا الوطنيتين الجزائرية والتونسية، والحال أن شبكة خطوط أنابيب نقل النفط والغاز من وطنهم إلى الموانئ تتقاطع تحت أرجلهم وليس لهم من ريعها نصيب!! أما الوطنيّة المغربية فعالم من الوهم والزّيف قائم بذاته وهم إمارة المؤمنين التي تفاخرب”أعظم” جامع يتسع لحوالي105,000 مصل، لتغطي على الترف الفاحش في قصورها الملكية، في الوقت الذي يُعاني فيه ملايين المغاربة من شظف العيش لا يجدون بيوتا صالحة تؤويهم. أما وطنية بلاد الحرمين، فَوَاهًا للحرمين وكفى. ولعل في ما يعانيه أهلنا في الأرض المقدسة فلسطين وما تجره عليهم وطنية سلطة “دايتن” ما ينسينا بعض آلام
أي مفهوم للوطن وأي معنى للوطنية؟
أي مفهوم للوطن وأي معنى للوطنية؟ أليست الوطنيّة هي الوجه الآخر للانفصال، والتجزئة، وبدأت الحكاية يوم أن زيّن قناصل أوروبا وتجارها ومرابوها،للبايات (ولاة دولة الإسلام)، في تونس، أن يعملوا على الانسلاخ عنها، ليتملكوا وطنا، وتكون لهم رايتهم الخاصة بهم. فكان للمستعمر ما أراد حين وجد من البايات من ينصت إليه (مستغلّا ضعف الخلافة في ذلك الوقت وانشغالها).
وأي مفهوم للوطن وأي معنى للوطنية يوم سلّم العدوّ المستعمر البلاد إلى “شبه حاكم” في إطار مفاوضات مسرحيّة على “استقلال” صوريّ؟ وأي مفهوم للوطن وأي معنى للوطنية، ووالي الدولة الإسلامية على الحرمين الشريفين، “الشريف حسين” يخونها، بمعيّة أبنائه، يخربون سكة حديد اسطمبول الحجاز، دعما للكفار الإنجليز، وتنفيذا لخطتهم في إسقاط دولة الخلافة؟ ثمّ تبني انجلترا لأبنائه “أوطانا” وتنصبهم عليها ملوكا، بعد سجن أبيهم في جزيرة!! وأي مفهوم للوطن وأي معنى للوطنية وحماة الأوطان يتهافتون تحت أقدام يهود يخطبون ودهم، ويرجون منهم الحماية من أبناء” الوطن”؟
من الذي خان الوطن وغدر بأهله؟
من الذي تخلى عن مقدرات بلداننا، وفرط فيها للضباع، وعقد الاتفاقيات السرية والعلنية؟ من الذي هرب الأموال الطائلة، وفتح الحسابات السرية في شتى بنوك العالم والجنات الضريبية؟ أليسوا هم دعاة الوطنية وحماة الأوطان؟ أين منتجعات استجمامهم صيفا وشتاء؟ أين يتطببون ويستشفون؟ ما هي عناوين مدارس ومعاهد وجامعات أبنائهم الذين حرّمواعليهم أن يختلطوا بأبنائنا؟ من الذي غدر بأهل هذا البلد وأرداهم فيما هم فيه من ضنك، فألجأهم إلى هجر “الوطن” إلى أصقاع العالم سرا وجهرة، حتى أضحوا لقمة للمساومة والمزايدة في سوق الضياع، بل أصبحت مغادرة “الوطن” الطِّلبة المركزية للجميع، الناجح من الناس والفاشل منهم، يدفع بهم أولياؤهم إلى أمواج البحر أم يهيئون لهم التأشيرات، بل صارت العائلات تجمع شتاتها وتبيع ممتلكاتها، حتى لكأنها تقطع كل صلة لها بالوطن والوطنية التي طالما أرهقوها بوجوب الامتثال لمتطلباتها والطاعة للقائمين عليها الذينفرضوا عليهم الوقوف في طوابير الدراسة الصباحية تقديسا للنشيد الوطني الذي لم يعد له من مفعول خاصّة بعد أن آيسُوهم من بلادهم، حتى صارت مقولة ” ها البلاد ما عاد فيها شي” هي شعار كل من يريد إقناعك بوجاهة قراره بالتفريط في الوطن، وتركه لقدره يتسلط عليه العدو
ما الذي يربطهم بالوطنية إذا كان القائمون عليها، هم أنفسهم من قد قطعوا الحبل السرّي الذي ربطوهم به، بما انكشف للناس من حقيقتهم، برابطة من أحط ّ الروابط، رابطة إشباع الجوعات الحيوانية، والتحوُّطُ ممن يجاوره، بعد أن قطعوا كل صلة لهم بمعالي الأمور وأرهقوهم بسفسافها. ثم أركسوهم في وطنيات هي في عالم الحيوان تلك التي تحددها السباع ببولها، وهي في عالم السباع البشرية تلك التي يحدّ حدودها المتجبرون الطغاة بالدّماء، بعد أن عيّنوا لها “تيوسا” تهيأت لها قرون لترويض العامة وتأديب من تُحدّثه نفسه أن يخرج عن زمرة القطيع من أجل رفعة البلاد والعباد ونهضة الإنسان
إنّ مدار الصراع اليوم هو بين أن نكون سادة العالم أو أن نكون سجناء في أوطاننا؛ بين أن تكون بلادنا وسائر بلاد الإسلام التي تعطر هواؤها بشذى الإسلام وتطهرت أرضها بأنفاس الفاتحين التقاة، وتشرّب أهلها عقيدة لا إلاه إلا الله محمد رسول الله، وأدركوا صلتهم بربهم خالق الوجود، فارتبطت حياتهم برسالة الإسلام وحملها للناس كافة. وبين أن تُقصَر الهِمَمُ على مجرّد العيش (عيش الحيوان)، نعم لقد جعلت الفكرة الوطنيّة بلادنا سجنا يسعى كلّ من يعيش فيه أن يخرج منه ويهجره إلى حيث الحصول على أدنى الحقوق البشرية
ألم يئن الأوان أن نحرّر أنفسنا وأوطاننا؟