نعم ما خفي أعظم..

نعم ما خفي أعظم..

انطلقت يوم السبت 11/02/2023 حملة اعتقالاتعبر توقيف 10 شخصيات، أغلبيتها من المعارضين المنتمين لحزب النهضة، وتم اقتيادهم قسرا من منازلهم، بحسب محاميهم، كما تم توقيف مدير محطة “موزاييك إف إم” الإذاعية والمدعو كمال اللطيف المعروف طيلة هذه السنوات بكونه من أكبر رجال الأعمال المؤثرين في الأوساط السياسية.

ونددت “جبهة الخلاص الوطني” التي تُقدّم في مختلف وسائل الإعلام على أنها أهم تكتل معارض في تونس بعد 25 جويلية، بهذه الاعتقالات التعسفية، حيث اعتبر رئيس الجبهة أحمد نجيب الشابي في مؤتمر صحفي أن “الإجراءات عنيفة ودون سند قانوني”، وقال إن “هذا التخبط واللجوء إلى العنف سيزيدان الأمور تعفنا”. واعتبر الشابي أن هذا “الانتقام” من المعارضين السياسيين و”استخدام القمع” يبرهنان على “ارتباك” سياسة الرئيس قيس سعيد الذي يحتكر السلطات في البلاد منذ 25 جويلية 2021.

بالتوازي مع ذلك، استعرضت رئيسة الحكومة نجلاء بودن رمضان، خلال محادثة أجرتها مع المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي كريستينا جورجييفا، مدى تقدم “البرنامج الوطني للإصلاحات” الذي أقرته تونس، أو بالأحرى مدى استجابة تونس لشروط هذا الصندوق المجحفة، وذلك على هامش أشغال القمة العالمية للحكومات المنعقدة بدبي بالإمارات من 13 الى 15 فيفري الجاري، تحت شعار “استشراف حكومات المستقبل”. وأعربت المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي خلال اللقاء، عن ارتياحها لتقدم سير الاصلاحات المزعومة، مبرزة استعدادها للعمل على تسريع النسق، من أجل التوصل الى اتفاق نهائي مع تونس بشأن برنامج قروض لفائدتها.

على وقع هذه التجاذبات، يتبادل الرئيس وخصومه الأدوار ويتقاسمون منذ ثلاث سنوات تشكيل هذا المشهد السياسي المتعفن، حيث بلغ العبث الرأسمالي بالبلاد ذروته، واكتوى الشعب بلهيب الأسعار واستنزاف جيوب الناس وفقدان المواد الأساسية، بل بلغت البلاد درجة من العطالة الإنتاجية لم تبلغها من قبل، وتفاقمت الأزمة الاقتصادية بشكل غير مسبوق، حتى صارت تونس عنوان الأزمة، متصدرة بذلك كل نشرات الأخبار المحلية والدولية. فمن يقف وراء هذه العطالة ويستثمر في بقائها؟ وهل يوجد خطر جاثم على صدور أهل تونس أكثر من إقصاء الإسلام وتطبيق الرأسمالية عليهم؟

إن “الحرب على الفساد” كان ولا يزال الشعار الذي ميّز خطاب قيس سعيّد منذ توليه منصب الرئاسة في 23 أكتوبر 2019، أي منذ أكثر من 3 سنوات، حتى غدا الحديث عن تآمر الفاسدين أشبه بالأسطوانة المشروخة. هذا الرئيس الذي احتكر الطهر والنقاء والنظافة، ليمسح جرائم النظام العلماني في الوسط السياسي السابق، ويبرر كل الخيارات الاقتصادية التي تنتهجها الحكومةسيرا على خطى سابقاتها… ورغم امتلاكه لصواريخ على منصات إطلاقها، فإنه ظل يراوح مكانه ولا يوجهها إلا ضد خصومه السياسيين، ممّن فُرض عليهم قبول سياسة الأمر الواقع ضمن مربع الديمقراطية الضيّق، والذي يمسك الغرب بكل أحابيله. ولذلك نرى اليوم محاولة سخيفة لصناعة بطولة وهميّة، عبر اكتشاف متأخر لواحد من أكبر “الحيتان الكبرى” على حد تعبير الرئيس، واعتقال له بتهم لا تتجاوز مجرد احتكار بعض المواد الأساسية، وتصوير الأمر على أنّه نجاح في استهداف عش الدبابير، ليدور حديث اعتقاله على كل لسان، ويقتنع الشعب المقهور بأنه تم التخلص من مصدر التنكيل بهم والعبث بأقواتهم، وأن خزائن الدولة ستفيض باختزال أزمة النظام في بضعة أشخاص.

في المقابل، ومن عجائب هذه “العشرية البيضاء”، أن يتزعم المعارضة الديمقراطية في تونس، نفس من كان يتزعمها أيام بن علي، فيطل علينا أحمد نجيب الشابي ضمن ندوة صحفية قامت بتغطيتهامختلف وسائل الإعلام المحلية والدولية، ليندد بكيفية اقتياد كمال اللطيف وهو يرتدي “بيجاما”.

هذا واقع السياسة اليوم في تونس، غرق في الرداءة، وإغراق للناس يوميّا في متاهات القضايا الجزئية وطوابير الانتظار وإلهائها عن سبيل خلاصها، ليكونوا حطب معركة سياسية وهمية، يشترك فيها الحكام والمعارضة في خضوعهم وارتهانهم للخارج، بما يجلبه ذلك من خزي وعار، وفي اتهام شبح “الدولة العميقة” بالتسبب في حالة الانهيار والدمار، ليبقى الكافر المستعمر هو المستفيد الوحيد، يرتع ويجوس خلال الدّيار، ويعاقب هذا الشعب جماعيا على خيار الثورة ضد منظومة الاستعمار، بل لتمر بنا المؤسسات الربوية العالمية من مرحلة شواء اللحم إلى مرحلة كسر العظام.

هذا هو السياق السياسي الذي يشتغل فيه الإعلام الرسمي اليوم، وترصد له المليارات، أما دعوة استئناف العيش بالإسلام بإقامة دولة الإسلام، فهي مرفوضة لدى أبواق العلمانية وأدعيائها، ممن صاروا يجهرون بعدائهم لأحكام الإسلام حتى في جوانبه الفردية، فما بالنا بما هو متعلق بالمجتمع والدولة. بل صارت تهم التآمر على أمن الدولة ومحاولة تغيير هيئة الدولة جاهزة تنتظر من يصدع بالحق ولو عبر منشور فايسبوكي أو همسة. فعن أي دولة وعن أي هيئة يتحدث حماة هذا النظام الفاسد الفاجر؟

لا عجب إذن، أن يُحرّم على الإعلام تغطية أنشطة حزب التحرير وندواته ومؤتمراته، ومنها مؤتمر الخلافة السنوي،مثلما هو الشأن بالنسبة لاعتقالات ومحاكمات شباب حزب التحرير الجائرة، فلا يذكر الحزب عند أبواق العلمانية إلا من باب نقل دعوات التحريض ضده واعتباره خطرا يتهدد مكتسبات الدولة الوطنية التي صنعها الاستعمار على عينه.

هذا المسار المفروض علينا اليوم، ليس تخبطا ولا ارتجالا، بل هو تنظيم محكم، ونظم للحياة السياسية على إيقاع يُرضخ الجميع لمعادلة سياسية واحدة، يرسمها الكافر المستعمر، لإقصاء الإسلام من الحكم، وإنهاء النقاش حوله كبديل حضاري، وتثبيت قوائم نظام الاستعمار، عبر محطات سياسية مدروسة، تفرض علينا دستورا وقوانين وانتخابات وهيئات، تحول دون استعادة سلطان الإسلام وتقطع أشواطا جديدة في مسار التغريب.

في الأثناء، تختار المخابرات الدولية ضمن توقيتات سياسية مدروسة، سحب السريّة عن بعض المعطيات المحليّة، وتنشرها عبر برامج تلفزية في قنوات فضائية، ضمن صراع على النفوذ في منطقة الشمال الإفريقي، مع الحرص الشديد على تثبيت السرديّة التي تورط الأشخاص وتبرئ النظام. هذا ما بات واضحا للعيان إذن، وما خفي أعظم.

ولذلك فالقضية، ليست في جنسية كافر أو في لغته، فملّة الكفر واحدة، بل في كونه كافرا لا يرقب في المسلمين إلا ولا ذمة، يحاول استئصال الإسلام من بلد عقبة بن نافع، حتى لا يكون لتونس التي تحمل رمزية انطلاق شرارة الثورات، أي دور سياسي في توحيد الأمة الإسلامية، وفي دفع المنطقة نحو احتضان مشروعها الحضاري، خلافة راشدة على منهاج النبوة بإذن الله، تحقيقا لوعد الله وبشرى نبيّه صلى الله عليه وسلم، ولو كره الكافرون.

CATEGORIES
Share This