هذا حاضرنا، فكيف سيكون مستقبلنا؟
إذا أردنا أن نصف واقع البلاد اليوم فعلينا أن نتجنب الوصف المنطلق من نزعة خاصة يتحكم فيها هوى التشاؤم أو التفاؤل، إنما ننطلق من نزعة واقعية موضوعية تقف على الحاضر كما هو، وتصفه كما هو، وتحلّله كما هو، ثم بعد ذلك ينظر إلى المستقبل نظرة استشراف مبنية على الحاضر؛ لأنّ المستقبل لا يوجد من عدم، ولا ينبثق من فراغ، إنما يبنى على الحاضر. فكيف هو حاضرنا أو كيف هو واقعنا المعيش؟
الحقيقة، أننا نعيش في واقع تعيس كئيب، ولا نجد شيئا إيجابيا نفرح له أو نفخر به.فمن ناحية سياسية فإنّ الواقع السياسي عندنا مبني على الدجل والخداع والوعود الكاذبة، ومبني على التوافقات والتنازلات التي تخدم مصلحة الأحزاب ولا تعنى بمصلحة الدولة ككل. فالساسة عندنا يقلّون عند الفزع ويكثرون عند الطمع، والحياة السياسية في بلادنا فارغة من كلّ رؤية واستراتيجية ومبدئية، ولكنها مليئة بالفخاخ والألغام التي نصبتها وزرعتها الأحزاب لبعضها بعضا. ومن ناحية اقتصادية فإن واقع الاقتصاد عندنا لا يحتاج إلى خبير ولا إلى عالم ليشرح الوضعية الكارثية التي وصل إليها، ويكفي أن نعرف أن الفلفل عندنا تسيّد، وأصبح يسمى بسي الفلفل، ويكفي أن نعرف أن “الشكشوكة” أصبحت أكلة نخبوية برجوازية. فالاقتصاد في بلادنا كلمة مجازية، والأصل أن يسمى الحال المتعلّق بالتصرف في المال العام والثروات بحقيقته اللغوية والاصطلاحية المنطبقة على دولتنا فيقال التبذير؛ لأنّ التبذير هو تفريق المال في غير حقّه، ودولتنا عليمة خبيرة بطرقه ومناهجه، لذلك وجب أن تسمى الوزارة المختصة بهذه الناحية بوزارة التبذير وإدارة التفقير؛ وهكذا تأخذ فرنسا جزءا مخصصا لها من ثرواتنا مكافأة لها على إسهاماتها في “التحديث” الذي تشرف عليه منذ عشرات السنين، وينفق الباقي على التماثيل والأصنام، والقصور، وعلى مرتبات الساسة وأعضاء البرلمان، وعلى المهرجانات وغير ذلك مما يساعد على التخدير وفقدان الحسّ بالواقع الأليم. ومن ناحية اجتماعية فإن واقع المجتمع عندنا أنه غابة يأكل القوي فيها الضعيف، فالعلاقات بين الناس في معظمها متوترة ومؤسسة على الريبة والمصلحية والانتهازية والبطل فيها من يخدع الآخر، والجريمة بكل أنواعها ظاهرة متعددة متكررة، والأمن غائب حتى أصبح الناس يخشون على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم من عصابات وفساق ومجرمين يجاهرون بإجرامهم في واضحة النهار. ومن ناحية تربوية أو تعليمية فالتعليم عندنا لا يختلف كثيرا عن التجهيل، والغاية منه تغييب الوعي بديننا وتاريخنا وهويتنا وقيمنا وحضارتنا، وأرقى مراحل التعليم عندنا وأرفع مستوياته هي تلك المقصود منها رفع الأمية لا غير، وأما التخصصات الأخرى فلم نبدع في شيء سوى في علم الجهل. وأما من ناحية أخلاقية فيكفي أن نرى سلوك الجيل الجديد: في كلامه ومشيه ولبسه وأفعاله، لنكتشف حقيقة المأساة التي تعيشها البلاد، فجيل الحداثة لم يسلم من شرّه وضرره وسوء أخلاقه الإنسان ولا الحيوان (ومن أراد التأكّد فليراجع مثلا ما حصل مع التمساح المسكين في حديقة الحيوان الذي قيل أنّ مجموعة من الشبان رجمته بالحجارة فمات).
هذا هو واقعنا، وصفناه بإجمال كما هو، ولا أظنّ أنّ عاقلا يشكّك في هذا الوصف المحسوس، والسؤال الآن: بناء على هذا الحاضر، كيف سيكون مستقبلنا؟ والجواب أننا نسير نحو مستقبل تعيس كئيب؛ لأن المستقبل وليد الحاضر، وما زرعناه اليوم نحصده غدا، ومن يزرع الشوك لا يجني العنب. فلا يمكن لنا أن نأمل في غد أفضل ونحن نرى حجم المأساة والكارثة التي نعيشها اليوم مع عدم وجود إرادة سياسية للخروج من هذا المستنقع الآسن وتغيير الحال. فهل يمكن أن نغير الواقع إذا لم نغير ما بأنفسنا، وهل يمكن أن نصلح الحال دون وعي وتخطيط وإرادة؟ وهل يمكن أن نثق في ساسة ليصنعوا لنا مستقبلا مشرقا مع علمنا بأنهم هم من صنع حاضرنا الكئيب؟
نعم، إنّ التغيير ممكن وليس بمستحيل، فالحاضر والمستقبل صناعة أيدينا ونتيجة كسبنا، ولكنّ التغيير المنشود يحتاج إلى إرادة صلبة وعزيمة قوية، ويحتاج إلى قيادة واعية مخلصة تحمل همّ الناس وتعمل على الارتقاء بهم، وتجعل هدفها المصلحة العامة لا الخاصة متأسية بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}. فخير الناس وأحقّهم بالقيادة من نفع الناس وكان في خدمتهم وعونهم وتجرّد من الأنانية والأثرة وتحلّى بخلق التضحية والإيثار؛ لأن جيل التغيير والبناء هو جيل التضحيات. قال صلى الله عليه وسلم: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ – يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ شَهْرًا – وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلَأَ اللهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامِ» (رواه الطبراني في الكبير عن ابن عمر).
ياسين بن علي