إلى جانب تأسيسه لما يسمى بدولة الحداثة كرّس “بورقيبة” فكرة افتقار تونس لثروات طبيعية تجنبها مذلة التسول وتقيها مخاطر الارتهان للقوى الاستعمارية.. فطيلة فترة توليه الحكم لم يتوان “بورقيبة” بمناسبة أو دونها في التأكيد على أن بلادنا لا تملك من الخيرات والثروات إلا تلك المادة الرمادية اللون “المادة الشخمة” – وكأننا الوحيدين من بين خلق الله تحمل أدمغتنا تلك المادة -, واستمر الحال كما هو عليه زمن حكم المخلوع “بن علي” وتواصل التضليل والضحك على الذقون وأصبحت أكذوبة عدم امتلاك بلادنا لثروات طبيعية شبه حقيقة لدى معظم أهل تونس.. إلى أن هبت رياح الثورة وتكشفت الحقائق, ووقف الجميع على حجم ثرواتنا.. وافتضح أمر المتآمرين مع لصوص الغرب الذين نهبوا ثرواتنا منذ قيام دولة الاستقلال المزعوم إلى يومنا هذا. ومع ذلك استمرت أراجيف ” بورقيبة” على لسان حكام تونس الجدد.. فجميعهم نفى نفيا قاطعا امتلاك بلادنا لشيء اسمه ثروات ما عدا تلك التي بشرنا “بورقيبة” بحيازتنا لها وهي الذكاء ولا شيء سواء الذكاء.
ويكفي أن يشتكي الناس من سوء رعاية الدولة لشؤونهم حتى تسمع صراخ مسؤول هنا أو وزيرا هناك وهو يقسم بأغلظ الأيمان بأننا لا نملك ما يطالب به الناس. فكلما استبد بالناس العطش يخرج علينا وزير الفلاحة والتأثر يهيمن على محياه وهو ينعي المياه التي هجرت أرضنا منذ عقود ولم نعد نملك منها إلا النزر القليل, ومن فضل الله أنها بالكاد تفي بحاجة مسابح النزل.. والأمر ذاته يتكرر مع كل حالة فقدان للمواد الأساسية كالحليب ونحوه. فلا تسمع من محتلي الكراسي إلا كلمة لا نملك.. حتى بلغ الأمر بوزير في حكومة الصيد نفي امتلاك تونس القدر الكافي من الطاقة الشمسية والرياح لتوليد الطاقة البديلة..
مكمن الداء
لا يختلف اثنان في أن بلادنا نهش الفقر جسدها, وأن الإجهاد والتعب أخذا منها كل مأخذ.. فهي تنزف طيلة ستة عقود ولا تزال, ولم تجد من يضمد جراحها ويداوي علتها.. والسبب أن كل من تعاقبوا على حكمها هم الداء والعلة, وهم المخالب والأنياب التي مزقت أوصالها.. أولهم “بورقيبة” وبطانته, وآخرهم حكامها الجدد ومن قبلهم المخلوع “بن علي” وزمرته.. فكلهم ترعرعوا ونشئو في مستنقع واحد, وشربوا واقتاتوا منه إلى أن أصابتهم التخمة وأصابتنا المخمصة والخواء.. انه هذا النظام الوضعي الذي لا يخرج نباته إلا نكدا. فعلاوة على فساده لا يتشبث بأسماله إلا كل فاسد وعاجز وضعيف, ومن يحكمون تونس اليوم كمن سبقهم اجتمعت فيهم كل تلك المثالب فلا تكاد تجد لهم ولو بقايا حسنة, فجميعهم يرى في الحكم مغنما ويجب سلك كل الطرق الدنيئة لبلوغ سدته, وأنجع الطرق هو حيازة رضا المسؤول الكبير. ولتحقيق هذا المرام يجب ترك كل أبواب البلاد مفتوحة أمامه على جميع مصارعها, مع تسليمه مفاتيحها ليتصرف في البلاد كيف ما يشاء دون حسيب ولا رقيب. مادام “بورقيبة” ترك لهم الوصفة السحرية التي تخفي تخاذلهم وهي تونس لا تملك.. تونس تفتقر.. وفي الحقيقة هم يقولون جانبا من الصواب.. فإن كانت تونس تعاني من افتقادها لشيء فهي تعاني من افتقادها لرجال دولة يذبون عن سيادتها ويحفظون هيبتها. ومن يحكم تونس اليوم وكل الأحزاب التي تدور في فلكهم وحتى تلك التي تسمي نفسها بالمعارضة هم المعاناة التي تكابدها تونس, وهم المرارة التي يتجرعها الناس مع كل لقمة ومع كل شربة ماء. وجمهوريتهم بجزأيها الأول والثاني هي الوباء الذي أتى على الأخضر قبل اليابس. ودستورهم الذي كلما جاعوا قضموا منه, هو مرد كل بلاء حلّ أو سيحلّ بنا. فهم كالجراد أينما وجدوا ينشرون القحط والخراب. تعليم هو أقرب إلى التجهيل.. وقطاع الصحة شبيه إلى حد كبير بإدارة الاصطبلات في العصور الوسطى.. وقس على ذلك باقي المجالات والقطاعات.
أينما تولي وجهك لا تجد إلا الخواء والعدم. والسبب هؤلاء المتسللين خلسة لكراسي الحكم, منتحلين صفة رجال دولة, تدعمهم جوقة إعلامية ضالة مضللة, همها الوحيد الحصول على بعض الفتات من بعض الفتات الذي يجود به المسؤول الكبير على من يحكموننا بالوكالة, لتبقى تونس ترزح تحت نير الفقر والجهل.. فقر وجهل ما كانا ليحلا بها لولا افتقارها إلى رجال دولة, رجال حق. ولولا ابتلائها بحكام كالذين حكموها ويحكمونها اليوم.