هذه عدالتكم الانتقالية… العدل إقامة شرع الله

هذه عدالتكم الانتقالية… العدل إقامة شرع الله

      منذ أن هيمن النظام الرأسمالي الديمقراطي على العالم في بدايات القرن العشرين تتالت أزماته الهيكلية وتكررت محاولات الشعوب، سواء في أمريكا اللاتينية، أو إفريقيا، أو آسيا، بالثورة عليه والعمل على التخلص من نيره، إلا أن أبرز محطة في خط سيره كانت تتمثل في الصراع بين أعضاء العائلة الرأسمالية الديمقراطية نفسها بين ما عرف حينها  ب “الحلفاء ” و “المحور” بالتصادم في حربين “عالميتين ” الأولى والثانية والتي حسمت في كليهما لصالح الطرف الأول، الحلفاء، مما اقتضى الأمر أن يعمد هذا النظام إلى عملية الإلتفاف والمناورة على حجم الكوارث والمصائب التي جرها فرض وتطبيق هذا النظام على البشرية بأن حمل المسؤولية الجزائية والسياسية لأفراد الحكم والتنفيذ  بمحاكمة مجرمي الحرب من القيادة النازية بعد سقوط الرايخ الثالث، في مرحلة أولى، لتتمّ محاكمة الأطباء الذين أجروا التجارب الطبية على البشر في مرحلة ثانية. وقد استمرت المحاكمة من 20 نوفمبر1945 حتى 1 أكتوبر 1946. دون ترك المجال لوضع النظام نفسه موضع المساءلة والنظر والبحث في مدى مشروعيته وجدارته بالتدخل في حياة الإنسان وأحقيته في التأثير والفعل فيما يتعلق بمعالجة قضاياه وشؤونه، باعتماد ما سمي فيما بعد، بالعدالة الإنتقالية.

ولئن صيغ هذا المصطلح في تسعينات القرن الماضي إلا أن نُشوءه بدأ منذ نشوء هذه الأزمة الوجودية للمبدأ الرأسمالي. بإنشاء هذه المحكمة العسكرية الدولية في نورمبرغ لمحاكمة النازية في ألمانيا، وكذلك محاكمة الجنود اليابانيين وقادتهم. ليدخل المفهوم سنة 1975مجال السياسة الدولية بدءا من محاكمات الأعضاء السابقين في المجالس العسكرية في اليونان والأرجنتين أو حين محاولة الإلتفاف والتغطية من قبل الرأسمالية العالمية ممثلة خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية على فضائع وجرائم الجنرال أوغستو بينوشيه والطغمة الحاكمة معه منذ العام 1973 وحتى العام 1990 المنقلب على الزعيم الاشتراكي سلفادور أليندي الذي وصل إلى رئاسة تشيلي في انتخابات حرة ومباشرة لم تعجب الولايات المتحدة، أيام كانت أمريكا اللاتينية تمر وقتها بالاشتراكية، والعداء للرأسمالية.

جنوب إفريقيا “الأبارتايد”

      إلا أنه لعل من أبرز الأمثلة على مسألة العدالة الإنتقالية هي التجربة التي مرت بها جنوب إفريقيا بعد أن عاشت ما يقارب من خمسة عقود تحت نظام الفصل العنصري (ابارتايد) الذي تم إرساؤه منذ سنة 1948 والذي يقوم على أساس هيمنة العرق الأبيض الأوربي الذي جاء إلى جنوب إفريقيا مستعمرا بفرض مبدأ التفرقة العنصرية وتفوق الرجل الأبيض على السكان السود أصحاب البلاد الأصليين من خلال اللجوء إلى التعذيب والاعتقالات العشوائية للحيلولة دون مقاومة هذا الظلم والقضاء عليه بسجن  وتعذيب قيادات المقاومة وسائر أعضائها، إلا أن الرأسمالية العالمية استطاعت تحت مفهوم العدالة الإنتقالية تثبيت الوجود الأوروبي في جنوب إفريقيا دون تغيير يذكر في وضع السكان الأصليين حتى بعد مرور أكثر 27 سنة على الإطاحة بنظام الميز العنصري “فعدم المساواة ليست المؤشر الوحيد الذي لا يزال مرتفعًا، بل وإنه وإن تعمق ارتفاعه عما كان عليه من قبل، فإن الفجوة في توزيع الأجور والثروة تتزايد بين الطبقة المتوسطة والأغنياء خلال العشرة سنوات الأخيرة، فـ 65% من الثروات الجنوب أفريقية تتركز في يد 10 % من السكان”.

تجربة المغرب “سنوات الرّصاص”

    أما ما سمي ب” سنوات الرصاص” التي مر بها القطر المغربي من بلاد الإسلام والتي امتدت من سنة ,1956 ما سمي عندهم أيضا بالإستقلال، إلى 1990وهي الفترة التي عرفت بقسوة تعامل الحكومة المغربية مع معارضيها من الماركسيين، والنقابيين، والإسلاميين بالاعتقالات العشوائية والتعذيب والتهجير، بل وطال الأذى جهات بأكملها بشكل كبير خلال هذه السنوات، فقد اضطرت، وتحت ضغط دولي، السلطة الحاكمة إلى إنشاء لجنة للكشف عن الحقيقة حول الانتهاكات السابقة وتقديم التعويضات للضحايا وعائلاتهم وتقديم توصيات للحيلولة دون حصول انتهاكات لحقوق الإنسان مجددا.وعقدت جلسات استماع علنية للضحايا و الكشف عن حالات عديدة من الاختفاء القسري.إلا أن الوضع في المغرب لم يتغير إلا قليلا إذ حافظ النظام الملكي على سلطته وحافظ النظام الرأسمالي على هيمنته على البلاد وحملت مسؤولية المآسي التي عاناها الأهالي والساسة والمفكرون إلى وزير الداخلية إدريس البصري خاصة وبعض أعوانه.

     وهكذا استطاع النظام الديمقراطي الرأسمالي اجتياز العقبات التي تهدده وثورات الشعوب عليه سواء في عقر داره أوروبا أو في مناطق نفوذه في مختلف القارات بإزاحته للمد اليساري والشيوعي أو الحركات القومية وتحميل تبعة آثاره السلبية على الشعوب لأمثال بينوشي في الشيلي أو سالازار في البرتغال أو الديكتاتور الأرجنتيني فيديلا أو بأن تولى نلسون مانديلا شرعنة الوجود الإستعماري الأوروبي في جنوب إفريقيا وتثبيت المعمرين البيض على امتيازاتهم كل ذلك بتوظيف مفهوم العدالة الإنتقالية للإلتفاف على الأوضاع السابقة وتحميل الأخطاء إلى ما يسمى بالدكتاتوريين والفاسدين وإظهار النظام الديمقراطي الرأسمالي في صورة النظام الذي أسيئ تطبيقه والذي لا يتطلب إلا رجالا أسوياء  ونزهاء.

     إلا أن صراع الأمة مع النظام الديمقراطي الرأسمالي، والذي فرض عليها بقوة الحديد والنار وخيانة الخونة من أبنائها، وبعد عقود مريرة من هيمنته عليها والنتائج الفظيعة المترتبة عن تطبيقه فيها لم تفلح معها محاولات القوى الإستعمارية في توظيف آلية العدالة الإنتقالية للإلتفاف على ثورتها وإعادة تلميع صورة نظمها بل آل الأمر إلى مأزق حقيقي، في تونس مثلا، بين أطراف الصراع على السلطة والتنافس على خدمة هذا النظام الغربي ونفوذه علينا، أمام رفض جمهور الناس لتصرفات وإجراءات وكلاء الإستعمار ودوائر نفوذه وجشع شركاته الناهبة.

  فالسلطة الحاكمة بكل أطيافها من جهة، وهيئة الحقيقة والكرامة ومن شايعها من الجهة الأخرى تمثل في الحقيقة، وإن بدا الخلاف ظاهريا بينهما واجهتي عملة واحدة في التسليم بسيادة النظام الديمقراطي الرأسمالي علينا ووجوب الخضوع له والتسليم بسيادته بل والعمل على تثبيت دعائمه والوقوف إلى جانب القوى الإستعمارية في حربها على الأمة ومبدئها والنظم المنبثقة عنه بل واستهداف عقيدتها عينها. فالصراع بين الطرفين لا يعدو إلا أن يكون في تحديد الجهة التي ستحمل تبعة الأخطاء المرتكبة  طيلة العقود الماضية من حقبة تطبيق هذا النظام علينا.

وليس من العجب في شيئ أن تلجأ السلطة في تونس وهيئة الحقيقة والكرامة إلى اللجنة الأوروبية من أجل الديمقراطية عبر القانون (المعروفة بلجنة البندقية) للإحتكام لديها حول قانون المصالحة ومشروعية كل منهما وأحقيته في البت في هذه المسألة لتصدر رأيها الذي ضمنته في قرارها المصادق عليه بجلستها العامة عدد 104 بتاريخ 23-24 أكتوبر 2015 والذي لم تعط لأي طرف الحق بالبت فيها وإنما أشركتهما في الأمر حتى يبقي أمر الحسم لغيرهما.

فهيئة الحقيقة والكرامة ورغم تعهدها بحوالي65 ألف ملف من ملفات المتضررين من عهدي حكم كل من بورقيبة وبن علي إلا أنها قصرت البحث في الآثار المادية والمعنوية على ضحايا كلا النظامين دون التطرق إلى أصل الخلاف معهما وهو الثورة على أصل النظام فلا اليساريين عنوا أنفسهم بالثورة على الإمبريالية وكمبرادورياتها ولا الإسلاميين أهمَّهم عدم الحكم بما أنزل الله والخضوع لأحكام الجاهلية ووقعوا في فخ المطالبة بالإنتصاف من أعوان النظام الغربي الرأسمالي وعبيده الذين أوغلوا في أعراض ودماء وأقوات الناس خدمة لأسيادهم، بل صاروا هم العامل الرئيس في الدعوة إلى تثبيت النظام الديمقراطي والعامل الرئيس في الصد عن الدعوة إلى استئناف الحياة الإسلامية وإقامة دولة الإسلام.

هل يتطلب العدل “انتقالاً”؟

إذا كان من مصلحة اللجنة الأوروبية من أجل الديمقراطية عبر القانون، وهي إحدى المؤسّسات المرتبطة بالاتّحاد الأوروبي وهي التي تُعنى بتقديم الرأي والدعم القانوني في مجال تدعيم أركان النظام الديمقراطي، حسب المعايير الأوروبية، والمستند في كل ذلك إلى نظرتها للحياة وآلية تحقيق مصالحها في الهيمنة والنفوذ، فما الذي يبرر السعي المحموم لمختلف الفرقاء السياسيين المنتصبين على رقاب الناس لخدمة نظام دلَّ العقل السليم على فساده وخطره على الإنسان وأزكمت نتن نظمه وتشريعاته الأنوف إلا أن يكون الحرص المقيت على الفوز بمقعد في السلطة رغم ما في ذلك من ذل وهوان، وقد صدق الشاعر حين قال:

من يهن يسهل الهوان عليه     ما لجرح بميت إيلام

فالعدل لا يتأتى إلا إذا زالت أسباب الظلم، والظلم المسلط على الأمة لا يُرفع عنها إلا بقطع يد البغي عليها وذلك بقطع يد المستعمر وتدخله في شؤونها كافة وباستئناف حياتها الإسلامية بإقامة دولتها على منهاج نبيها الأكرم صلوات الله عليه وسلامه فتكون المحاسبة على قاعدة الحكم الشرعي والتعذر اليوم بالمحاسبة الصورية لا يعفي المجرم من جريرة عمله.

عبد الرؤوف العامري

CATEGORIES
TAGS
Share This