هكذا يُنتخب الخليفة في ظلّ الدّولة الإسلاميّة

هكذا يُنتخب الخليفة في ظلّ الدّولة الإسلاميّة

حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال : في سياق التّدليل على تفرّد الانتخابات الرّئاسية في المنظومة الإسلاميّة وتميّزها عن نظيرتها الدّيمقراطية، كنّا انخرطنا في استعراض جملة من نقاط الاختلاف بين المنظومتين على غرار (الحُجّية ـ نسبة المشاركة ـ مجال التّغطية ـ التّمثيليّة ـ التعدّدية ـ مدّة الرّئاسة)…أمّا آخر هذه النّقاط فهي مسألة درجة التّفويض أي حجم الصّلاحيات التي تنقلها الانتخابات وتخوّلها لرئيس الدّولة: فقد سعى النّظام الجمهوري ـ مسكونًا بفوبيا الدّيكتاتورية ـ إلى تجزئة الحكم وتفريق السّلط والحيلولة ـ ما استطاع ـ دون تركّزها في جهة أو شخص، فأسّس لما يُسمّى بالحكم الجماعي بحيث تراقب السّلطة نفسها ذاتيًّا وتقطع الطّريق ـ نظريًّا ـ  أمام التغوّل والاستبداد…فصار الحكم بيد رئيس الجمهوريّة ووزرائه في النّظام الرّئاسي وبيد مجلس الوزراء في النّظام البرلماني والملكيّة الدّستورية، وبذلك تجزّأ وتشتّت بين وزارات لها اختصاصات وصلاحيّات وميزانيّات منفصلة عن بعضها يجمعها مجلس وزراء يملك الحكم بشكل جماعي، وهذا له تداعياته على العمليّة الانتخابية من حيث أهمّيتها ودورها في الحكم وتعيين الحاكم: فالانتخابات الرّئاسية في النّظام الجمهوري هي تفويض جزئي ووكالة محدودة ونيابة مقيّدة بحيث أنّ الرّئيس أجير عند أصحاب رؤوس الأموال يرعى مصالحهم ويحافظ على الحرّيات…فهو في أحسن الحالات يتقاسم السّلطة مع وزرائه، وفي أسوئها يكتفي بتكليف حزب الأغلبيّة بتشكيل الحكومة، أو يحُلّ البرلمان إذا فشل هذا الأخير في تشكيلها…وبناءً عليه هناك علاقة جدليّة تكامليّة بين الانتخابات الرّئاسية والانتخابات البرلمانيّة في النّظام الدّيمقراطي بحيث يتداخلان ويتشاركان في تحديد الجهة الحاكمة ونقل صلاحيّات الحكم إليها: فالحكم الذي يفترض به أن يتركّز في الرّئيس لا يتمّ إلاّ بمجلس النوّاب، فهو الذي يفرز رئيس الوزراء ومنه تُشكّل الحكومة التي إمّا تنفرد بالسّلطة أو تتقاسمها مع الرّئيس…

تفويض كلّي

أمّا في الإسلام فالأمر مختلف تمامًا نظرًا لاختلاف طبيعة الحكم في كلا المنظومتين: فمقابل تجزئة الحكم في النّظام الجمهوري نجد مركزيّة الحكم في الإسلام أي حصر صلاحيّة الحكم فيمن اختارته الأمّة خليفة عليها بحيث يتمركز الحكم في شخصه… فبموجب عقد البيعة تحوّل الأمّة سلطانها إلى الخليفة لينوبها في الحكم والسّلطان وتنفيذ أحكام الشّرع…والخلافة رئاسة عامّة وولاية عظمى، فالخليفة هو الدّولة وهو المسؤول الأوّل عن رعاية الشّؤون وهو وليّ الأمر والذي يُعيّن أولي الأمر وهو الوحيد الذي له صلاحيّة تبنّي الأحكام الشّرعية وسنّها قوانين…وعلى هذا الأساس فهو الوحيد الذي يتمتّع بالحكم ذاتيًّا بحيث لا ينبثق إلاّ منه عن طريق التّفويض محدّدًا بالمكان والزّمان والحادثة: أمّا الوزراء فهم معاونون للخليفة في تحمّل أعباء الخلافة أي وزراء بالمعنى اللّغوي للوزارة ولا يشاركون الخليفة في الحكم أويتقاسمونه معه، بل يُعينونه فيما يُعيّنهم لهُ…وأمّا الولاّة والعُمّال فهم ينوبون عن الخليفة في أعمال الحكم في مكان معيّن وذلك بتفويض منه وتحت إشرافه المباشر ـ مُتابعةً ومُراجعةً وائتمارًا وانتهاءً ـ فهو الحاكم الفعلي والمسؤول الأوّل…ومن الطّبيعي أن يكون لهذا الواقع تداعياته وتأثيره على الانتخابات من حيث أهمّيتها ودورها في تعيين الحاكم: فالانتخابات الرّئاسية في دولة الخلافة هي ترشيح لمن سيتمركز فيه الحكم وستكون له مطلق الصّلاحية في رعاية الشّؤون، لأنّ الخلافة هي تفويض كلّي ووكالة عامّة ونيابة مطلقة في الحكم والسّلطان…

نموذج بيعة عثمان

بعد أن بينّا خصوصيّة الممارسة الانتخابيّة الإسلامية وتفرّد الفعل الانتخابي في الإسلام وتميّزه عن نظيره الدّيمقراطي ـ شكلاً ومضمونًا وممارسةً ـ ننتقل إلى بيان كيفيّة انتخاب الخليفة في الدّولة الإسلامية أي الإجراءات العمليّة لتعيين الخليفة ثمّ تنصيبه وبيعته…وبما انّ حزب التّحرير لم يتبنّ بعد قانونًا مفصّلاً في المسألة فسأحاول على ضوء ثوابت الثّقافة الحزبية أن أتبيّن الملامح الكبرى لهذا القانون متّخذًا من بيعة عثمان رضي الله عنه مناطًا شرعيًّا للبحث لأنّها أكثر الأشكال التي اجمع عليها الصّحابة تبلوُرًا وثراءً بالتّفاصيل والجزئيّات، فهي نموذج متكامل حريّ أن يُحتذى به…فحين طُعن عمر رضي الله عنه وأيقن بالشّهادة استخلفه المسلمون فرشّح لهم ستّة ثمّ عيّن صهيبًا أميرًا مؤقّتًا يصلّي بالنّاس ويُشرف على إجراءات تنصيب الخليفة الجديد وحدّد له مهلة (ثلاثة ايّام) وأوصاه إذا لم يُتّفق على الخليفة خلال الأيام الثّلاث أن يعمد إلى المخالف فيقتله ووكّل خمسين رجلاً من المسلمين بتنفيذ ذلك، كما كلّف المقداد بن الأسود باختيار مكان اجتماع المرشّحين أي أهل الشّورى…استشهد عمر صباح الأحد (01 محرّم 24هـ) فحُجب المرشّحون الستّة في دار الشّورى ولمّا استقرّ بهم المجلس وكّلوا عبد الرّحمان بن عوف لكي يختار منهم خليفة، فأخذ عبد الرّحمان في سبر آراء الخمسة الباقين وقام باستشارة داخليّة إلى أن حصر الأمر في اثنين منهم: عليّ وعثمان…بعد ذلك وسّع عبد الرّحمان الاستشارة على أهل المدينة (رجالاً ونساءً وصبيةً وعبيدًا) وأخذ يستطلع رأيهم أيّ الإثنين يريدون، إلى أن ثبت عنده أنّ الجمهور مع أكثرهما تأسّيًا بأبي بكر وعمر…وقد كان رضي الله عنه يصلُ ليله بنهاره طيلة الأيّام الثّلاث (الأحد+الاثنين+الثّلاثاء) ولم يكتحل خلالها بكثير نوم…فجر الأربعاء انتهت المهلة الشّرعية، وبعد أن صلّى النّاس الصّبح عرض عبد الرّحمان عليًّا وعثمان على المصلّين في المسجد وسأل كلاًّ منهما المبايعة على كتاب الله وسنّة رسوله وفعل أبي بكر وعمر…أمّا عليٌّ فرفض الشّرط وقدّم رأيه واجتهاده، وأمّا عثمان فقبله فبايعه النّاس بيعة الانعقاد التي أصبح بها خليفة…ثمّ انتقل إلى دار الشّورى حيث توافد عليه بقيّة النّاس ليبايعوه بيعة الطّاعة وتواصل ذلك إلى ما بعد منتصف النّهار وقد صلّى صهيب الظّهر بالنّاس…ولم يكتمل الأمر إلاّ قُبيل العصر فانتهت بذلك إمرة صهيب وصلّى عثمان العصر بالنّاس خليفةً لهم…

تحقيق المناط الشّرعي

هذه هي حيثيّات بيعة عثمان النّموذجيّة التي حصلت على ملأ من الصّحابة رضوان الله عليهم دون إنكار منهم فاكتسبت بذلك حجيّة شرعيّة بوصفها إجماعًا…وقبل ان نتولّى استنطاقها وتحديد الإجراءات العمليّة لتعيين الخليفة ثمّ تنصيبه وبيعته نقف على أمرين أساسيّين يجب أن يؤخذا بعين الاعتبار: الأمر الأول أنّه إذا حصل شغور في منصب الخلافة يجب شرعًا نصب خليفة جديد خلال ثلاثة أيّام بلياليها من تاريخ خلوّ منصب الخلافة تبدأ حال حصول الشّغور وتنتهي فجر اليوم الرّابع من حُصوله… فنصب الخليفة فرض منذ اللّحظة التي يحصل فيها الشّغور، فقد باشر الصّحابة ذلك في سقيفة بني ساعدة يوم وفاة الرّسول وقبل دفنه صلّى الله عليه وسلّم، ولكن يجوز تأخير النّصب مع التلبّس والاشتغال به مدّة ثلاثة أيام بلياليها لأنّ عمر رضي الله عنه حدّد لأهل الشّورى تِلك المهلة لاختيار خليفة يُقتل المخالف بعدها ولم ينكر عليه الصّحابة ذلك…أمّا الأمر الثّاني فإنّه بعد شغور منصب الخلافة يجب أن يُعيّن أميرٌ مؤقّت لتولّي أمر المسلمين والقيام بإجراءات تنصيب الخليفة الجديد…ويجوز تعيينه حتّى قبل حصول الشّغور كما صنع عمر عندما طُعن وأحسّ بدُنوّ أجله فإنّه عيّن صُهيبًا أميرًا مؤقّتًا على أن يباشر عمله بعد وفاة الخليفة…وليس له أن يترشّح للخلافة أو يُسند المرشّحين لها لأنّ عمر عيّنه من غير من رشّحهم للخلافة…وبناءً عليه يجوز للخليفة أن يتبنّى مادّةً خلال حياته تنصّ على تعيين شخص ما أميرا مؤقّتًا…أمّا إذا حصل الشّغور على حين غرّة او بعزل الخليفة فقد تبنّى حزب التّحرير أن يكون الأمير المؤقّت أكبر المعاونين سنًّا إلاّ إذا ترشّح فيكون التّالي له عُمرًا من المعاونين وهكذا، ثمّ يتلوهم وزراء التّنفيذ بالكيفيّة السّابقة، فإذا أرادوا الترشّح كلّهم فيُلْزَمُ الأصغر من وزراء التّنفيذ بالإمارة المؤقّتة…

الإجراءات العمليّة

على ضوء بيعة عثمان رضي الله عنه يمكن لنا أن نتبيّن الإجراءات العمليّة لتنصيب الخليفة وبيعته في الدّولة الإسلاميّة موزّعةً على الأيام الثّلاث المكوّنة للمهلة الشّرعيّة: ففي اليوم الأوّل تعلن محكمة المظالم شغور منصب الخلافة ويقع تعيين الأمير المؤقّت إن لم يكن معيّنًا أو يتولّى مهامّه إن كان معيّنًا سلفًا فيعلن فتح باب الترشّح فورًا…ويمكن لباب الترشّحات أن يُفتح حتّى قبل حصول الشّغور كما حصل مع أبي بكر وعمر اللّذين رشّحا للمسلمين في حياتهما…ثمّ يتمّ حصر المرشّحين أي قبول مطالب الترشّح المستوفية لشروط الانعقاد واستبعاد الأخرى غير المستوفية للشّروط وذلك بقرار من محكمة المظالم…في اليوم الثّاني يقع حصر المرشّحين المؤهّلين مرّتين: الأولى بستّة والثّانية باثنين وذلك بأغلبيّة الأصوات وبمقتضى شروط الأفضليّة ويقوم بهذه العمليّة مجلس الأمّة باعتباره ممثّلاً للأمّة لأنّ الأمّة فوّضت عمر فجعلها في ستّة، والستّة فوّضوا من بينهم عبد الرّحمان فجعلها بعد النّقاش في اثنين…ثمّ يُعلن المرشّحان للنّاس ويُعرضان على الأمّة تختار منهما من تشاء عبر الانتخاب العامّ الحرّ المباشر… أمّا في اليوم الثّالث فتتواصل العمليّة الانتخابيّة إلى حدود صلاة الظّهر وتُعلن النّتيجة ومن نال أكثر أصوات المنتخبين يُبايع من طرف أهل الحلّ والعقد بيعة انعقاد على العمل بكتاب الله وسنّة رسوله، ثمّ يُعرض بعد ذلك على الأمة لتبايعه بيعة الطّاعة…وبعد تمام بيعته يُعلن الخليفة الجديد للملأ حتّى يبلغ خبر نصبه الأمّة كافّةً مع التّعريف به وبالصّفات التي جعلته أهلاً لانعقاد الخلافة له وتنتهي صلاحيات الأمير المؤقّت فجر اليوم الرّابع بانتهاء إجراءات البيعة وتنصيب الخليفة…بهذه الكيفيّة السّلسة يُسدّ الشّغور في منصب الخلافة في ظلّ الدّولة الإسلاميّة وبذلك نكون قد أحطنا بمسألة الانتخابات من جميع جوانبها وأجبنا عن أسئلتها الجوهريّة من وجهة نظر الإسلام: متى ننتخب..من ننتخب..لِمَ ننتخبّ.ّ.كيف ننتخب..؟؟ (انتهى)

بسام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This