هل تونس مالكية المذهب؟
سُئِلَ مفتي الجمهورية: “هل تجوز النافلة (تحية المسجد) بعد أذان المغرب؟ وهل تقضى بعد المغرب؟”.
فأجاب بقوله: “النافلة مكروهة بعد أذان المغرب وقبل صلاة الفريضة إلا في بعض المذاهب، وهذا هو الذي عليه المذهب المالكي المنتشر في كامل بلادنا والجزائر والمغرب وفي بلاد أخرى من العالم وعليه فإن تحية المسجد تسقط قبيل المغرب وبعد الأذان ولا تقضى بعد صلاة المغرب لفوات وقتها”.
يفهم القارئ من الجواب أن المفتي يلتزم في فتواه بالمذهب المالكي، وأنّ الطريقة المالكية هي المنتشرة في بلادنا = كما يقول= وبناء عليه وجب الالتزام بها حين الإفتاء والعمل.
ولكن، سئل مفتي الجمهورية: “ما هو الدليل من الشرع في حكم الوصية الواجبة؟”.
فأجاب بقوله: “الوصية الواجبة صحيحة شرعا وردت في المذهب الظاهري وله حجته من القرآن الكريم ودافع عنها وتبناها المعاصرون من الفقهاء ورجال القضاء وأخذت بها القوانين العربية ومنها تونس. وقد وردت الوصية الواجبة بالفصل 191 من مجلة الأحوال الشخصية التونسية في صورة إذا لم يوص الجد (أو الجدة) في حياته وأعطاهم بلا عوض مقدار الوصية الواجبة فإن أوصى لهم الجد بأقل وجب تكملة الناقص وإن أوصى بأكثرفيطبق على الزائد القواعد العامة للوصي. ومن الفقهاء من يقول بوجوبها ومنهم من يراها للندب ولولي الأمر أن يجعل من المباح واجبا كما له أن يمنع المباح أو يقيده إذا اقتضت الضرورة ولا تخفى فوائد ذلك ولا تنكر محاسنه والمصلحة فيه واضحة والشرع يدعو إليه.والذين يقولون بها يتمسكون بقوله تعالى “كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين” ( البقرة 180 ) مع إبطال العمل بها في حق القريب الوارث بعد نزول آية المواريث ونهيه صلى الله عليه وسلم عن الوصية للوارث، وهو مذهب فريق من التابعين وبعض الأئمة منهم دواود الظاهري وابن حزم كما ورد في كتابه المحلى”. في هذا الجواب ترك المفتي المذهب المالكي واستدل بقول الظاهرية.
ونلاحظ أن المفتي في جوابه الأول المتعلق بالتنفل قبل المغرب جزم بأن “النافلة مكروهة”، وأكّد على العمل بالمعتمد في المذهب المالكي المنتشر في بلادنا. ولم يأخذ بعين الاعتبار مسألة الدليل، وأنّ سنية التنفل قبل المغرب مبنية على أدلة قوّية منها قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: “صلوا قبل المغرب”وقال في الثالثة “لمن شاء”، بل لم يأخذ المفتي بعين الاعتبار وجود قول في المذهب يبيح التنفل قبل المغرب. ففي التاج والإكليل للمواق: “والذي للباجي “لو تنفل متنفل بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب لم يكن به بأس، لكن المستحب تقديم صلاة المغرب أول وقتها” ونحو هذا للخمي، وروي نحوه عن مالك، وروي عنه أيضا لا يعجبني”. وقد كان بإمكان المفتي أن يذكر هذا ليزيل الالتباس وليطمئن الناس ويوسع عليهم منعا للفتنة والقيل والقال، ولكنه لم يفعل وتعمّد التأكيد على الالتزام بالمذهب المالكي المنتشر في بلادنا كما يقول.
وأما في المسألة الثانية المتعلّقة بالوصية الواجبة، فقد أهمل المفتي المذهب المالكي، وتجاهل المعتمد في المذهب، واحتجّ بمذهب الظاهرية مع أنه يختلف عن المنصوص عليه في مجلة الأحوال الشخصية. قال ابن عبد البر في الاستذكار: “وأجمع الجمهور على أن الوصية غير واجبة على أحد إلا أن يكون عليه دين أو يكون عنده وديعة أو أمانة فيوصي بذلك. وشذّ أهل الظاهر فأوجبوا الوصية فرضا إذا ترك الرجل مالا كثيرا ولم يوقتوا في وجوبها شيئا والفرائض لا تكون إلا مؤقتة معلومة والله أعلم”.وقال في التمهيد: “وقد أجمع العلماء على أن الوصية غير واجبة على أحد إلا أن يكون عليه دين أو تكون عنده وديعة أو أمانة فيوصي بذلك وفي إجماعهم على هذا بيان لمعنى الكتاب والسنة في الوصية وقد شذت طائفة فأوجبت الوصية لا يعدون خلافا على الجمهور واحتجوا بظاهر القرآن”. وقال الشيخ الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير: “ثم إن آية المواريث التي في سورة النساء نسخت هذه الآية نسخاً مجملاً فبينت ميراث كل قريب معين فلم يبق حقه موقوفاً على إيصَاء الميت له بل صار حقه ثابتاً معيناً رَضي الميت أم كره، فيكون تقرر حكم الوصية في أول الأمر استئناساً لمشروعية فرائض الميراث، ولذلك صدر الله تعالى آية الفرائض بقوله: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11] فجعلها وصية نفسه سبحانه إبطالاً للمنة التي كانت للموصي.وبالفرائض نسخ وجوب الوصية الذي اقتضته هذه الآية وبقيت الوصية مندوبة بناء على أن الوجوب إذا نسخ بقي الندب وإلى هذا ذهب جمهور أهل النظر من العلماء، الحسن وقتادة والنخعي والشعبي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وجابر بن زيد… وقيل: الآية مُحكَمَة لم تُنسخ والمقصود بها من أول الأمر الوصية لغير الوارث من الوالدين والأقربين مثل الأبوين الكافرين والعبْدين والأقارِب الذين لا ميراث لهم وبهذا قال الضحاك والحسن في رواية وطاووس واختاره الطبري، والأصح هو الأول”.
قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}. وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)}.
وقال الشاعر:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُقَوِّمُ غَيْرَهُ … هَلَّا لِنَفْسِك كَانَ ذَا التَّقْوِيمُ
فَابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا … فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى … بِالْقَوْلِ مِنْك وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ … عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ
ياسين بن علي