هل حلّ البرلمان هو الحلّ؟

هل حلّ البرلمان هو الحلّ؟

مقدمة
ثمانية أشهر مرّت على انطلاق قطار 25 جويلية الذي وعد قائده بأنه سيمر عبر محطات إصلاحية كبرى ضمن مسار تصحيحي استثنائي وشامل، عنوانه الصعود الشاهق في التاريخ، تحيط به زوبعة من الخطابات الشعبوية صارت أشبه بالأسطوانة المشروخة التي يُفرض علينا سماعها يوميّا في أسوأ فترة من تاريخ الملك الجبري. ولكنّ المتأمل في مسار هذا القطار اليوم يجد أنه لا يزال يراوح مكانه، حيث بدأ بتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإعلان احتكار جميع السلطات، ثم وصل به المطاف بعد جولات من الأخذ والرد والتهديد والوعيد وبعد معارك كلامية طاحنة إلى إعلان حلّ البرلمان، فيما تمضي البلاد قدما نحو حتفها الانهياري…
فما بين تجميد البرلمان وحلّه مدّة كافية لاستخلاص العبر ومعرفة مآلات الأمور، حيث تعرف الأمور بمقدماتها، فإلى أين يسير الرئيس بالبلاد من خلال هذا المسار المتعثر الذي احتاج 5 أشهر للإعلان عن خارطة الطريق؟ وإلى متى سيستمر هذا النظام الفاسد في صناعة الأزمات لإنقاذ نفسه من التهاوي والسقوط؟ ألم يأن الأوان للخروج من هذا النفق المظلم الذي تاهت فيه البلاد؟
حلّ البرلمان: لماذا الآن؟
رد الرئيس التونسي قيس سعيّد الأربعاء 30 مارس 2022 بسرعة على الجلسة الافتراضية التي عقدها أكثر من مئة نائب في البرلمان في نفس اليوم في “تحد” لتدابيره الاستثنائية، حيث لم يتردد في الإعلان عن حل البرلمان بعد 8 أشهر من تجميد نشاطه، ما يدل على أن القرار كان جاهزا في المطبخ السياسي لقصر قرطاج.
وقد علّق الرئيس في وقت سابق حول دعوات الاجتماع بالقول إن المجلس مجمد وإن أي قرار سيتم اتخاذه في هذا الصدد فهو خارج الفضاء والتاريخ والجغرافيا. جاء ذلك خلال لقاء جمعه برئيسة الحكومة نجلاء بودن من أجل متابعة سير اللقاءات التي عقدتها رئيسة الحكومة مع عدد من ممثلي المؤسسات المالية العالمية، وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي.
وليس أدل على وجود قرار مسبق بحلّ البرلمان، من وقوع عدة اجتماعات مماثلة مطلع هذا العام، حيث سبق وأن اجتمع أعضاء هذا المجلس افتراضيا، كما دعا رئيس البرلمان في وقت سابق إلى حوار وطني يضم الجميع، يسبقه إلغاء قرارات الرئيس التي تمت بمراسيم رئاسية، ثم كان للمجلس جلسة افتراضية تلبية لدعوة رئيس البرلمان لإحياء الذكرى الثامنة لختم الدستور، ومع ذلك لم يقع حلّ البرلمان ولا الحديث عن فضاء وسماء ومركبات فضائية من قبل الرئيس… فمن أسند إلى سعيّد دور البطولة في حرب كلامية جديدة؟
ولنفترض أن ورقة حل البرلمان، كانت من بين الصواريخ الجاهزة على منصات إطلاقها، فهل كان الرئيس يراهن على عامل الوقت ليلعب بهذه الورقة في اللحظة الحاسمة، أم أن مسايرة الأطراف الدولية فرضت عليه هذا النسق في التعامل مع البرلمان؟
والحقيقة، أن نفس السؤال يُطرح على البرلمان نفسه، فمن أوعز إليه بالاجتماع الآن وأعطاه الضوء الأخضر ليمر مباشرة إلى إعلان إلغاء الإجراءات الاستثنائية مع أن إلغاءها عمليّا يتطلب سلطة تنفيذية لا سلطة تشريعية؟ ولماذا تأخر هذا الاجتماع المصيري لثمانية أشهر رغم كل الاعتقالات والمحاكمات والإجراءات التعسفية والقمعية التي عاشها العديد من النشطاء وفي مقدمتهم نواب من المجلس؟ وكيف تغير موقف الرافضين للاجتماع في مرّات سابقة، وعلى رأسهم نائب رئيس البرلمان طارق الفتيتي الذي ترأس الجلسة العامة افتراضيا هذه المرّة؟
السياق السياسي: من الدولي إلى المحلي
إنه لم يعد خافيا على كل عاقل، حجم الحقد الصليبي الدفين على أمة الإسلام، حيث صار قادة الغرب يدفعون عملاءهم نحو التطبيع العلني مع كيان يهود الغاصب لأرض فلسطين، واستقبال قادة هذا الكيان وإعطائه مشروعية زائفة، فضلا عن واقع تقسيم الأمة وتجزئتها لنهب خيراتها وتدمير أوطانها وإفساد شبابها وإخضاعها بالكامل إلى مؤسسات النهب الدولي التي تضع خطط الإنقاذ وشروط الإصلاح المزعوم، ليغرق العالم الإسلامي في أوحال الرأسمالية العالمية ودجل الديمقراطية، كما هو حال جل البلاد الإسلامية اليوم التي أنهكتها الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهكذا يستمر أرباب الرأسمالية في تحديد مصير البشرية عبر استغلال أرقى أنواع التكنولوجيا لفرض نموذج اقتصادي ليبرالي متوحش، تُسحق فيه الشعوب وتداس كرامتهم بالأقدام أمام طغيان رأس المال.
في هذا العالم الذي يحكمه النفاق السياسي، يصنع الاستعمار على عينه كامل الوسط السياسي في بلادنا، حكاما ومعارضة، وينتدب أكثرهم انبهارا بالديمقراطية الغربية وانخراطا في مسارها واستعدادا للتضحية في سبيلها.
فبينما تراهن أمريكا على أمثال بشار والسيسي والبرهان وحفتر لفرض الديمقراطية بالحديد والنار، تسعى بريطانيا إلى تقديم نموذج مخاتل مخادع، وإلى صنع مناخات سياسية يُسوغ فيها ترويج بضاعة الديمقراطية على أنها البلسم الشافي والحل الجذري لكل مشاكل المسلمين، في مقابل الديكتاتورية التي تتبناها بعض أنظمة المنطقة. وفيم وجدت فرنسا الفرصة سانحة للولوج إلى تونس مستغلة ضعف النفوذ البريطاني فيها، فإن أمريكا مصرة على اقتحام المنطقة بعد كسب المعركة السياسية في ليبيا، ولذلك ظلت تعبر في كل خطوة يخطوها الرئيس قيس سعيد عن عميق انشغالها وقلقها إزاء المسار السياسي الجديد في البلاد، لعلها تنجح في الولوج إلى الوسط السياسي التونسي أو إلى اتحاد الشغل ومنظمة الأعراف. كما تعددت الزيارات المكوكية لوفود وشخصيات رسمية أمريكية ليس آخرها زيارة مساعدة وزير الخارجية الامريكي المكلفة بشؤون الأمن المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان “أوزرا زيا”، التي سبقت اجتماع البرلمان يوم 30 مارس 2022.
ولذلك جاء في الإحاطة التي قدمها المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، تعليقا على قرار حل البرلمان، أن واشنطن أبلغت المسؤولين التونسيين باستمرار، بأنّه “ينبغي أن تكتسي أيّ عمليّة إصلاح سياسي بالشفافيّة، وأن تشمل الجميع، وأن تجري بالتنسيق مع شتّى الأحزاب السياسية والنقابات العمالية ومكوّنات المجتمع المدني”.
أما بريطانيا، فيبدو أنها في سباق مع الزمن لاستعادة زمام الأمور وإعادة موازين القوى الداخلية لصالحها مراهنة في ذلك على فشل قيس سعيد في إدارة البلاد، ولكنها تسعى لكسب مزيد من الوقت ريثما تعيد ترتيب البيت الداخلي وتجهز البديل السياسي، في محاولة لقطع الطريق أمام التدخل الأمريكي ولكل دعوات الجمهورية الثالثة، لأنها لا تزال تراهن على الجمهورية الثانية…
وللتذكير، فإن بريطانيا تمسك بدورها ملفات ضد قيس سعيد، حول تخابره مع النظام المصري، كانت سببا في رفع دعوى قضائية ضده لمحاكمته بتهمة “التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي وتبديل الحكم والخيانة العظمى”، طبق الفصول 60 و61 و62 و69 و70 و72 من المجلة الجزائية، وقد ذكر في هذه الشكاية اسم مديرة الديوان الرئاسي نادية عكاشة التي اضطرت على إثر إثارة هذا الموضوع إلى القفز من السفينة قبل غرقها. (الوثائق نشر جزء منها عبر موقع ويكيليكس عربي).
فبريطانيا، تدرك جيدا أن أعضاء وقيادات النهضة ليسوا موحدين على قيادة راشد الغنوشي، تماما مثلما تدرك فرنسا أن رصيد قيس سعيد قد تآكل، ولذلك كان لا بد من توحيد الصف مجددا ودعم الغنوشي من خارج الحركة أيضا، مادام يحمل دعوة استئناف الحياة الديمقراطية (كما ورد على لسانه) وذلك تحت عنوان خادع، هو توحيد صفوف كل “المناضلين الديمقراطيين” بمختلف مشاربهم السياسية واختلافاتهم الإيديولوجية، وتأسيس وحدة ثابتة لا تهزها أي ريح انقلابية عابرة، والأهم هنا هو حشد الدعم الشعبي لهذا المسار الديمقراطي المصطنع.
يأتي هذا السياق، بعد تأكيد بريطانيا على دعمها لراشد الغنوشي من خلال اللقاء الذي جمعه بسفيرة بريطانيا في تونس يوم 11 مارس 2022، أي قبل انطلاق دعوات الاجتماع البرلماني من أجل إلغاء قرارات الرئيس.
ومن دهاء بريطانيا، أنها أحسنت استعمال العديد من الأوراق في آن واحد، وفي مقدمتها ورقة منظمة الأعراف واتحاد الشغل، فمن جهة نجد اتحاد الشغل وهو يضغط على حكومة الرئيس ويبتزها أمام الرأي العام، حيث أعلن الطبوبي في وقت سابق بأن “الحكومة التي تقول في العلن إنها قادرة على الوفاء بكل الالتزامات للشعب، تخبرنا في الاجتماعات المغلقة بأنها ليست لديها أموال حتى لدفع الرواتب”، بل وجدناه يدعو الرئيس وأنصاره للتنازل من أجل تونس، ومن جهة أخرى نجد أن هذه المنظمات تبدو وكأنها تقوم بالتجديف في مسار الرئيس قيس سعيد بعد أن فرضت نفسها على طاولة الحوار مع الرئيس، حيث استقبل قيس سعيد يوم الجمعة 1 أفريل 2022 بقصر قرطاج، رئيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية سمير ماجول، وأعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد، مباشرة إثر استقباله للأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، وأعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد. وهذا وحده كاف للرد على بيانات الخارجية الأمريكية التي أرادت التنديد بغياب التشاركية في الحوار مع المنظمات الوطنية والنقابات العمالية.
ومما يؤكد هذا السياق، استقبال الرئيس لعميد المحامين، ابراهيم بودربالة، الذي استنكر قبل أيام قليلة التدخل الأمريكي السافر في الشؤون الداخلية لتونس، وذلك في تعليقه على تقرير وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للأمن المدني والديمقراطية وحقوق الانسان التي كانت في زيارة لتونس.
خلاصة القول إذن، أن الترتيب لمخرجات الحوار الوطني جار على قدم وساق، لا ينقصه سوى تقسيم الأدوار بين بضعة أكباش فداء تُمسح فيهم جرائم النظام تمهيدا لانسحابهم، وزعماء ومناضلين من أجل الديمقراطية يُسند لهم دور البطولة، ليبقى النظام الفاسد جاثما فوق صدورنا ويُحصر الصراع في أمور شكلية، وعبثيات جديدة، لا فرق فيها بين وجود البرلمان وغيابه، ولن يتغير شيء مادام الأمر موكول إلى الجهات الخارجية تقسم الأدوار وترتب الشؤون الداخلية كيفما تشاء، وكأن تونس مزرعة خاصة لهم، ويكفي لنرى كيف تحولت وزارة الداخلية إلى مقر لاستقبال السفراء الأجانب لنفهم عمق الأزمةوحجم الاختراق. كما أن الغرب مستفيد من وضعية الدفع نحو الانقسام الداخلي ومن صراع رؤوس السلطة في تونس، ففيم العجلة والشعوب هي من تدفع ثمن خيانات الحكام؟
إنه لا سبيل للخروج من الأزمة الحالية في تونس، سوى بالعمل الجاد لاستئناف الحياة الإسلامية، بإقامة الدولة الإسلامية دولة الخلافة الراشدة، وكل ما سوى ذلك هو إضاعة للوقت والجهد في بدائل من صنع الاستعمار لن يطبقها إلا عملاء مخلصون، يستنجدون بالخارج من أجل النجاح ويحمّلون الشعب مسؤولية اختياراته عند الفشل.

المهندس وسام الأطرش

CATEGORIES
Share This