كما هو معلوم للجميع، جرت يوم الأحد 6 ماي الانتخابات البلدية في أجواء فاترة وباردة لم تحركّها سوى بعض أحداث العنف والفوضى التي شهدتها بعض المراكز في بعض المناطق. هذه الانتخابات خيّبت مسعى من كان يراهن عليها أن تكون عرسا للديمقراطية المباشرة و تدشينا لمنظومة الحكم المحلي، فكان العزوف العريض عنها رسالة مضمونة الوصول إلى الطبقة السياسية جميعها بعد ما سبق أن توجه بها الأمنيون والعسكريون قبل أسبوع، رسالة تقول إنّ النّاس في واد والسياسيون في واد آخر، وأنّ الشأن البلدي ومن ورائه الشأن السياسي العام لا يعنيهم ، فكانت صفعة مدوية لهؤلاء تجعلهم يعون جيّدا حجمهم الحقيقي والواقعي في عيون الشعب.
وفعلا فإنّ أهل تونس خيّروا عدم منح أصواتهم إلى أي جهة أو طرف كان يوم الإنتخاب، فحوالي 70 بالمئة منهم أو أكثر لم ينتخب, بل وأكثر من ذلك, فقد كانوا يدعون بعضهم البعض إلى مقاطعة هذه الانتخابات بعد أن فقدوا الثقة بالكلية في الطبقة السياسية والتي أثبتت أنها ابرز مثال على الفشل الذريع في إدارة الشأن العام وفي معالجة الأمور المصيرية للبلاد والحسم في المسائل التي بقيت عالقة خصوصا منها الاقتصادية والاجتماعية. هذه الطبقة التي لم تتمكن لا من تحسين معيشة التونسيين ولا من التقليص من نسب البطالة المرتفعة التي مثلت أكبر مسألة شائكة تسببت في وصول شرائح هامة من المجتمع إلى حالة من اليأس والتشاؤم بلغت حدودا غير مسبوقة، وأوصلت الكثير من الشباب إلى الموت إمّا حرقا أو غرقا في المتوسط.
وفي المحصلة فان الطبقة السياسية التي تداولت على حكم البلاد عجزت عن تحقيق وضع أفضل بل على العكس من ذلك, فقد تدهورت الوضعية المعيشية وازدادت سوء على سوء. وبلغت البلاد في هذه الفترة حدود التهلكة، هذا على الرغم من الوعود الكثيرة التي صدرت عنها والتي اثبت الواقع والزمن عدم التزامها بها، وهو ما افرز هذا الرأي الرافض والذي لا يعتقد في نجاعة الانتخابات مهما كان نوعها ومهما كانت الأسماء والبرامج التي تطرحها.
إنّ حالة اللامبالاة والعزوف هذه ، لا بدّ من الوقوف الجدّي عندها ولا نتركها تمرّ مرور الكرام، لأنّها تعبّر عن حالة من الفشل والقصور الدائم والمتواصل عبر الزّمان، هي حالة مفصلية طالما لم يحسن التعبير عنها وتتجاوز البرامج والسياسات الحزبية لتغوص في عمق النظام السياسي بوجهيه الديمقراطي في الحكم والتوجّهات الرأسمالية والليبرالية في الاقتصاد، واللّذان بديا كخيار أوحد ووحيد ، في حين أنّ عموم الشعب قد أوصل رسالته للجميع : نريد تغييرا حقيقيا يتناسب مع تطلّعاتنا وينسجم مع هوّيتنا وينطلق من عقيدتنا، فيكفينا تجريبا للمجرّب، وكفانا من الذلّ والهوان نلقاه كلّ يوم من نظام بائس تعيس، فإنّ قلوبنا تتوجه خالصة للإسلام كنظام للحكم والحياة، وإنّ نفوسنا لتهفوا إلى تطبيق شرع الله ، فبه ودون غيره تكون الرّعاية والعزّة والتمكين .
عودا على بدء ، فإنّ من بين الإغراءات والشبهات التي يروّجها هذا الوسط السياسي الفاشل من حكومة وأحزاب, سواء أكانت في الحكم أو خارجه أنّ من لم يتوجه إلى صناديق الاقتراع ويختار من يمثله في المجالس البلديه فعليه أن لا يشتكي فيما بعد من النتائج ويتحمل مسؤولية عدم اختياره. فكان حريّا بهؤلاء أن يتحمّلوا هم مسؤولية عدم اختيار النّاس لهم ويستقيلوا من مناصبهم إن كانوا كما يزعمون أحرارا وشرفاء ويغيبوا عن المشهد و ينصاعوا للهزيمة، فهم لا يمثلون إلا أنفسهم ولا ينطقون إلا باسم مصالحهم الحزبية وألوانهم السياسية التي تبقى بعيدة كل البعد عن انتظارات الناس وتطلّعاتهم وحاجاتهم ومقومات العيش الكريم.
وفوق ذلك فإنّ المحاسبة هي الطريق الشرعي الذي أتى به الإسلام لتقويم اعوجاج الحاكم وإعادته إلى جادة الصواب إن أخطأ أو انحرف عن الطريق المستقيم الذي شرعه الله، فهي مسؤولية الأمة أفراداً وأحزاباً، لقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر…) ولقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر…) والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكونان من حقوق الذين انتخبوا فقط بل لعموم المسلمين، فلهم الحق في إظهار عدم الرضا والعمل لتغيير ما يرونه منكراً مخالفاً لشرع الله, وحمل الحاكم وإجباره على الالتزام بأوامر الله ونواهيه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، حاكماَ في عباد الله بالإثم والعدوان، ولم يغيّر عليه بقول أو فعل، كان على الله أن يدخله مدخله)
ولقد وضع لنا الإسلام مقياساً دقيقاً للمحاسبة وهو القائل تعالى: (…فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، إن كنتم تؤمنون بالله، واليوم الآخر…) فلا اعتبار لأغلبية أو أقلية .
إنّ اعتماد هؤلاء الفاشلين العاجزين على مقولة : مَنْ غَابَ صَوْتُهُ بَطُلَتْ شَكْوَاه، يريدون من وراء نزع صلاحية الناس في محاسبتهم والتعرّض لرعايتهم بالمساءلة والتمحيص بعد أن نزعوا منهم شرعيّة الوجود، فهم لا يمثّلون إلاّ أنفسهم وأحزابهم ومصالحهم، فزيادة لهم في عقاب الناس بعد العجز والفشل والإهمال يطلبون منهم تركهم وحالهم بدون حسيب ولا رقيب، خاصة ونحن نعيش في زمن عمَّ فيه الفساد، وزادت المنكرات، وحيكت فيها الدسائس لضرب الأمة الإسلامية، ومنعها من تحكيم دينها وإعادة دولتها، فلصالح من يعمل هؤلاء…؟