
هل لعبت تونس دور شرطي أوروبا؟
خلال حملتها الانتخابية ركزت رئيسة الحكومة الايطالية الحالية “جورجيا ميلوني” على الهجرة غير النظامية نحو ايطاليا, ووعدت بأن تقضي على هذه الظاهرة التي أرّقت كل حكومات ايطاليا السابقة وعجزت عن ايجاد الحلول الناجعة.
فازت ” جورجيا ميلوني ” في الانتخابات ، و أصبحت كل أنظار الايطالين متجهة نجو حكومتها وبات الجميع يراقب أداء رئيسة الحكومة الجديدة في ما يتعلق بالهجرة غير النظامية، وينتظر نتائج فورية. لم تهدر الرئيسة الجديدة للحكومة الايطالية الكثير من الوقت، وفور مسكها بزمام الحكم، انطلقت في البحث عن الحل الناجع لمشكلة الهجرة غير النظامية، وبأقل جهد وتكلفة، فحشدت معها دول الاتحاد الأوربي ، وتوجهت رأسا إلى تونس التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، عجزت السلطة عن حلها أو حتى التخفيف من حدتها، من هذه البوابة دخلت رئيسة حكومة ايطاليا مصحوبة برئيسة المفوضية الأوروبية، واقترحت مساعدة تونس في حلّ أزمتها و إنقاذ ميزانيتها الخاوية بحزمة من المساعدات المالية، مقابل أن تمنع السلطات التونسية جحافل القادمين من بلدان جنوب الصحراء من الوصول لايطاليا ومنها الي باقي بلدان الاتحاد الأوروبي. تجاوبت السلطة في تونس مع عرض رئيسة حكومة ايطاليا ورئيسة المفوضية الأوربية و أمضت مذكرة تفاهم بمقتضاها تحصل تونس على بعض المساعدات لتمويل مشاريع الطاقة، ودعم الشركات الصغرى و المتوسطة، ووعود أخرى بضخ بعض الملاين لدعم ميزانية الدولة. هذا هو الجانب المعلن من مذكرة التفاهم تلك، وبقى الجانب الأهم الذي من أجله زارت رئيسة حكومة ايطاليا “جورجيا ميلوني” بلادنا في أربع مناسبات متتالية،و في ظرف أقل من سنة.الجانب الخفي من مذكرة التفاهم، كشفته لاحقا تطورات الأحداث المتعلقة بالمهاجرين غير النظاميين الوافدين من بلدان جنوب الصحراء الإفريقية.
عودتنا السلطة في تونس برفع الشعارات التي تجد قبولا و استحسانا عند الناس، من قبيل السيادة خط أحمر، واستقلالية القرار، ولن نقبل التعليمات من أية جهة خارجية ، ونحو ذلك من الشعارات التي نسمعها في خطاب دون أن نرى لها أثرا على أرض الواقع. ما يهمنا في هذا المقام، إضافة شعار: “تونس لن تكون أرض عبور و لن تكون حارسا لحدود أوربا ولن تكون أرض توطين”.
الجزء الاول من هذا الشعار تم تجسيده على أرض الواقع وتحول من شعار إلى واقع ملموس ، ففي تصريح لوزير الداخلية الايطالي أكد أن تونس منعت أكثر من 61 ألف مهاجر غير نظامي إلى ايطاليا خلال سنة 2024 واعتبر ذلك دليلا على التزام الرئيس ” قيس سعيد” بمكافحة الهجرة غير الشرعية، وأضاف ” وهو الأمر الذي توليه ايطاليا أهمية قصوى”.
في المقابل كان الجزء الثاني من الشعار متناقض مع الجزء الأول، فقوات حرس الحدود في تونس متمثلة في خفر السواحل ، تعمل في البحر على مدار الساعة ترصد قوارب المهاجرين نحو ايطاليا ومعظمهم من جنوب صحراء افريقيا، تلقي عليهم القبض ثم تعيدهم إلى تونس، ليتجمعوا في مخيمات عشوائية على تخوم ولاية صفاقس، بمنطقتي العامرة و جبنيانة في انتظار إعادة الكرة والمحاولة للعبور نحو ايطاليا، لكن السلطات الأمنية تمنعهم من ذلك لتصبح تونس منطقة توطين حتى لو لم ترغب في ذلك لأن مذكرة التفاهم تمنع السلطات التونسية من ترحيل الأجانب قسرا حتى تجمع عشرات الالاف وأصبحوا معضلة تؤرق سكان تلك المناطق.
لقد أصبحت العامرة و جبنيانة نقطتي تجمع للمهاجرين القادمين من جنوب صحراء افريقيا ، فهناك خليط بين من أعادهم الأمن التونس وهم في طريقهم إلى سواحل ايطاليا وبين وافدين جدد ينتظرون لحظة العبور، يحدث هذا في ظروف أقل ما يقال عنها ظروف غير إنسانية البتة، المئات يبتون في العراء دون طعام ولا ماء، مما جعل العديد من المهاجرين يهاجمون السكان هناك ، مما استوجب تدخل قوات الأمن لتفريقهم ، دون إنهاء الأزمة.
وفق بعض التقارير يقدر عدد المهاجرين غير النظامين في تونس بمائة ألف مهاجر، والعدد قابل للارتفاع بسبب منع السلطات التونسية هؤلاء من العبور نحو ايطاليا وهذا يؤكد أن مذكرة التفاهم تنسف شعارات السلطة وتظهرها بمظهر متناقض من جهة وعاجزة مرتبكة من جهة أخرى.
لقد أساءت السلطة تقدير الأمور وجرّت على نفسها متاعب دون مقابل يذكر، فمن أجل الحصول على بعض المساعدات للتقليص من حدة الأزمة الاقتصادية الخانقة، فتحت على نفسها أزمة متفاقمة، وخففت عن أوروبا المتاعب، فعوض أن يكون هؤلاء المهاجرون في مراكز اللجوء في أوروبا، أصبحت تونس حارسا لحدود أوروبا ومركزا لتجمع هؤلاء المهاجرين دون أن يكون لتونس بنية تحتية تمكنها من استيعابهم في مراكز لجوء لحين البت في ملفاتهم، بل إن السلطة لا تملك رؤية واضحة لمعالجة ما يترتب عن هذا المذكرة، وكل ما قامت به هو تصدير الأزمة لسكان المنطقة الذين خسروا أراضيهم ومزارعهم التي استوطن فيها المهاجرون.
إن افتقاد السلطة في تونس لرؤية تعالج بها قضية المهاجرين يضعها أمام خيار أوحد لا ثاني له وهو إلغاء الاتفاقية أو تجميدها على الأقل، فتونس بالنسبة للأفارقة المهاجرون ليست سوى أرض عبور، وبمجرد تجميد الاتفاقية لن تمضي أشهر حتى تنتقل جحافل المهاجرين نحو الضفة الثانية من البحر الأبيض المتوسط، فتونس لم تكن يوما سببا في هجرة هؤلاء الأفارقة، ولا يجوز أن تتحمل وزرهم إلا القارة العجوز التي نهبت ولا تزال الكنوز الدفينة والثروات الكبيرة للقارة السمراء وتركت أهلها في التبعية والتخلف والانحطاط مقابل نهب متواصل واستعمار بغيض.