في بلد تزعزعت أركانه وتصدعت جدرانه وسالت وديانه إلى أن أغرقه الوحل. في بلد تحكمه العواصف والصواعق والتقلبات، يتجول البعوض هنا وهناك، بين المزابل والمستنقعات، لينفث سمه بين بني البشر وينعم مصاصو الدماء بلعنة العصر التي يسمونها ديمقراطية. عن مستنقع السياسة الرأسمالية وأوحالها نتحدث، ومن قذارة بعوضها نشتكي أمرنا إلى الله فنقول بين الحين والآخر: لك الله يا تونس!
لم يعد نهب الثروات، وتغييب الملفات، ورفع الضرائب والآداءات، أمرا خافيا على أبناء هذا الشعب المقهور، فالكل يكتوي بنار الديمقراطية الناشئة ويتألم من إجراءاتها الأليمة، حتى صار البعض يعيش على وهم أن القادم أقل ألمًا من أجل نسيان الحاضر، مع أن لهيب المنظومة يشتد يوما بعد يوم.
الاقتصاد في تونس، وفّر على الخبراء عناء البحث في الأرقام والرسوم البيانية أو الانتقال بين الميكرو والماكرو-اقتصاد، فالارتفاع الحاد لنسب التضخم والهبوط الجنوني لسعر الدينار والحديث عن أزمة السيولة وشح البك المركزي من العملة الصعبة، كل هذه المؤشرات وغيرها هي أعراض لمرض واحد، هو فساد المنظومة القائمة في بلادنا، في الحكم والاقتصاد والتعليم وما سوى ذلك، بل صار مدركا لكل ذي بصر وبصيرة أن النظام القائم هو رأس كل بلاء وكل فساد على الأرض. قال تعالى: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ” سورة الروم-41.
وبدل أن يرجع القوم إلى رشدهم طلبا لرضوان الله وابتعادا عن ضنك العيش، تواصل غربان السياسة نعيقها وضفادع الإعلام نقيقها، فيقول قائلهم إن المشكلة تحل باستبدال يوسف بحافظ، ويقول آخر أن الحل يكمن في استبدال البرلماني بالرئاسي، وهكذا يتمادون في استبلاه الشعب بحلول وهمية من جنس النظام المسلط على رقابهم، بل صار مستنقع السياسة مسرحا دراميا للإلهاء الشعبي، يبدع أصحابه في اختلاق مئات القضايا الجزئية المفتعلة التي تصرف الناس عن قضاياها المصيرية، ولكم في مسلسل “شكون قتل شكري” خير دليل ومثال.
قد يتساءل العقلاء من الناس متى سينتهي هذا الكابوس أو إلى أي مدى يصل القاع الذي نهوي إليه، ولكن لا يبدو أن سربان البعوض المحيط بنا سيتركنا دون أن يطمئن فعلا على وصولنا إلى القاع وانحدارنا إلى هذا المستنقع لا سمح الله، لأن تلوث الجميع بقذارة هذا النظام وفساده هو مطلب وحوش الرأسمالية.
اليوم، تفتقت أذهان البعض على حل سحري تطلب فصلا جديدا من فصول الركح المسرحي، هو ترك التوافق وتغليب الأيديولوجيا والمبادئ. نعم يا سادة، أربع سنوات من التجديف على ظهر “سفينة نوح” ومعهم “دستور المدينة” على رأي شيخ التوافق، يكتشف على إثرها ساسة زماننا أن بر الأمان يقع في غير الاتجاه الذي يسيرون فيه، لا بل في غير المستنقع الذي سقطوا فيه، إثر لقاء باريس الشهير. فهل سيعتذر أحدهم إذن على فقدان البوصلة وتضييع شعب في متاهات التوافق الديمقراطي، وكأننا أمة بلا كتاب؟ الجواب موجود في المثل التونسي: “من مرقتو باين عشاه“.
في السياسة، الكل ممتحن، ولكن الفرق شاسع بين من يولي وجهه في الامتحان شطر المسجد الحرام وبين من يوليه شطر البيت الأبيض أو قصر بكنغهام، تماما مثلما أن الفرق شاسع بين من يريد لشعبه وأمته خيري الدنيا والآخرة وبين من يبيع دينه بدنياه.
حين يعود الإسلام هو الميزان تماما مثلما كان، ستعود للقادة بوصلتهم ويعود للقوم رشدهم لا “راشدهم” فقط، أما المضي في سراب الديمقراطية الخادع تحت عناوين مختلفة تجعل من شعوب الأمة ومنها شعب تونس الأبي فئران تجارب، فذلك هو عين ما يريده الغرب ويأباه مبدأ الإسلام العظيم وأحكامه الرفيعة.
نعم، لا غرابة أن نسمع أحد الإسلاميين الجدد، يخاطب الأمن أو الجيش انتصارا للديمقراطية الناشئة، مادام حديث عهد بنظرية “الجهاد الديمقراطي” التي شرعت للناتو دخول ليبيا ومن يدري من هو البلد الموالي، فلا بد أن تبدو ديمقراطيا في عيون الغرب (أي مُقصيا للإسلام عن الحكم) حتى عند تحريض الجيش على الانقلاب ومطالبته بحماية “مدنية الدولة”، أما إن خاطبت الجيش بالإسلام وأحكامه وذكرته بواجبه في نصرة هذا الدين وتنصيب الأقدر على تنفيذ أحكامه، فأنت إرهابي وجب دحرك من هذا الوجود بأسرع وأنجع مبيد ممكن.
ما قد يتناساه بعض المتملقين للغرب، وهم يستعرضون وزنهم الثقيل وعضلاتهم المفتولة في التكتيك الديمقراطي وانغماسهم بعمق في قذارة المستنقع الديمقراطي ووحله، هو أن المسلم العاجز أقرب إلى الله وإلى نصره المبين مادام متمسكا بحبل الله، أما المسلم الفاجر فلا يكون النصر من قبله وإن بدا قادرا على الحكم مادام متمسكا بحبائل الغرب، فما بالكم بمن لا يرى في نفسه أهلية ولا قدرة للحكم دون سند غربي مباشر؟ قال تعالى: “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ”. سورة الروم-47.
نعم، هذا هو زمن الأمة بامتياز، وعليها أن تختار قادتها تماما مثلما على الأمن والجيش الوقوف في صف الأمة ومشروعها الحضاري باعتبارهم جزءا لا يتجزأ من الأمة، إذ لا حياد بعد اليوم في ظل هذه الحرب العالمية على الإسلام وأحكامه، بل لا بد من تمايز الصفوف عاجلا غير آجل استجابة لأمر الله ورسوله لا من أجل عيون زيد أو عمر، هذا هو ديننا وما سوى ذلك هو أضغاث أحلام تعجل بانتهاء كابوس الملك الجبري بإذن الله وقيام الخلافة الراشدة على أنقاضه. قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ”. سورة الأنفال/24.