هل يمكن أن توجد في دولة الخلافة جماعات ضغط تؤثّر على القرار السّياسي؟

هل يمكن أن توجد في دولة الخلافة جماعات ضغط تؤثّر على القرار السّياسي؟

ممّا لا شكّ فيه أن نظام الخلافة متفرّد متميّز عن جميع أنظمة الحكم التي عرفتها البشرية في كلّ كبيرة منه وصغيرة: في الأفكار والمفاهيم المنبثقة عنه، والمقاييس والأحكام التي يَرعى بها الشّؤون، والدّستور والقوانين المطبّقة، والشّكل الذي تتمثّل به الدّولة الإسلاميّة وهيكليّة الأجهزة التي تقوم عليها.. أمّا مردّ هذا التميّز والتفرّد فهو قيام نظام الخلافة على أساس العقيدة الإسلاميّة: فهي أساس العلاقات والتّقاضي وأساس الحكم والسّلطان فيه، وهو في ذلك ليس بدْعًا من الأنظمة: فلكلّ مبدأ فلسفة حكم من جنس عقيدته، تنبثق عنها مفاهيم حكم خاصّة به، تتجسّد على أرض الواقع بمنظومة حكم فريدة مختلفة عن سائر أشكال الحكم الأخرى وإن تشابهت معها ظاهريًّا في بعض التّفاصيل والجزئيّات..هذه الفرادة والخصوصيّة والذّاتية في أصول المنظومة ومقوّماتها وكلّياتها ـ عقيدةً وفلسفةً ومقاييس ومفاهيم وأشكالاً ـ تنعكس بداهةً على فروعها وتفاصيلها وتمظهراتها وجزئيّاتها، فتؤسّس لوسط سياسي بمواصفات معيّنة، ثمّ تضخّ فيه إفرازات سياسيّة محدّدة تُشكّل بدورها مناخًا سياسيًّا وأجواء وعلاقات مخصوصة تختلف بالضّرورة من منظومة حكم إلى أخرى، ودونك مثالاً ما يعتمل في الأوساط السّياسية المعاصرة محليًّا وعالميًّا (تعدّدية حزبية ـ معارضة ـ موالاة ـ جماعات ضغط ـ حملات انتخابيّة ـ كتل ـ تحالفات ـ جبهات..) وهي ممارسات متولّدة رأسًا من رحم المنظومة الدّيمقراطيّة لا يُتصوّر أن توجد ـ على الأقلّ بالمضمون الدّيمقراطي ـ في ظلّ الوسط السّياسي لدولة الخلافة القائم على أساس العقيدة الإسلامية..

غياب النموذج

هناك علاقة جدليّة حيويّة ترابطيّة متينة بين عقيدة الدّولة ومنظومة حكمها وكيفية رعاية الشّؤون وممارسة العمل السياسي والحزبي فيها، فمواصفات الوسط السّياسي الإسلامي ـ شكلاً ومضمونًا ومنهجًا ووسَائِل وأساليب وسُلوكًا وممارسةً ـ تحدّدها العقيدة الإسلاميّة: فكما لا يجوز أن يكون لدى الدّولة أي مفهوم عن الحياة أو الحكم إلاّ إذا كان منبثقًا عن العقيدة الإسلاميّة، فكذلك لا يجوز أن تحصل في وسطها السّياسي مُمارسات وسُلوكيّات لا يُقرّها الشّرع، كأن تتنافر مع مفهوم السّيادة والسّلطان أو مع هيكليّة أجهزة الدّولة وصلاحيّات القائمين عليها أو مع طبيعة الأحكام الشّرعية من حيث أخذها واستنباطها وتبنّيها وتنزيلُها على الوقائع الجارية، وذلك قياسًا على ما يحصل في الأوساط الدّيمقراطية.. إلاّ أن غياب النّموذج الإسلامي الذي يُحتذى به ويُقاس عليه ـ من الواقع وحتّى من الأذهان ـ جعل استحضار هذا المعطى أمرًا بعيد المنال حتّى لدى المخلصين الواعين من أبناء الأمّة : فالأجيال المعاصرة لم تتفيّأ ظلال الدّولة الإسلامية ولم تعش بالإسلام وليس لديها تصوّر جليّ وأمين لسير الحياة في دار الإسلام، وممّا عمّق الهُوّة وزاد الطّين بلّة ضعف فهم الإسلام والتّشويه الفظيع للثقافة الإسلاميّة والخضوع لأنظمة الكفر والانضباع بالثّقافة الغربيّة.. لذلك فإنّه من الصّعوبة بمكان أن نحاول تقريب صورة الحكم الإسلامي وكيفيّة دوران الماكنة السّياسية والحزبيّة الإسلاميّة من هذه الأذهان الخاوية المحكومة بالواقع العاجزة عن الانعتاق من ربقة ما ترى وتعيش وتمارس من الأنظمة الدّيمقراطية الفاسدة، فلا تملك إلاّ أن تقيس غائب منظومة الحكم في الإسلام على شاهد المنظومة الدّيمقراطية العفنة..هذا القياس الارتجالي الشمولي المغلوط دفع بالدّولة الإسلامية نحو التماثل بل التّماهي مع طراز الدّولة الديمقراطية رغم التّنافر المشطّ بينهما، وقد كنّا خلّصنا مسألة التعدّدية الحزبيّة في الإسلام من شوائب الدّيمقراطية ونعتزم فيما يلي أن نتناول مسألة جماعات الضّغط (اللّوبيّات) ودورها في التّأثير على القرار السّياسي: فما المقصود باللّوبيّات..؟؟ ما الضّغط وما التّأثير وما هي الوسائل والأساليب المُعتمدة فيهما..؟؟ وهل يُجيزها الشّرع..؟؟ بمعنى هل يمكن لنظام الخلافة أن يفرز مجموعات ضغط تؤثّر على القرار السّياسي..؟؟

مجموعات الضّغط (اللّوبي)

إنّ مجموعات الضّغط أو اللّوبي اصطلاح سياسيّ سليل المنظومة الديمقراطيّة الرأسماليّة يطلق على الجماعات أو المنظّمات التي تحاول التّأثير على صناعة القرار، ويُراد به ممارسة الضّغط المنظّم والممنهج على هيئة أو جهة معيّنة لتحقيق مآرب وأهداف تخدم المصالح السياسيّة بالدّرجة الأولى ومصالح أخرى تتفرّع عنها قد تكون اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو قانونيّة أو عقائديّة أو أخلاقية أو إنسانيّة أو بيئيّة..تتباين هذه الجماعات كثيرًا من حيث المنشأ والحجم والتّأثير والدّور والدّوافع والأنشطة، بحيث تغطّي جميع شرائح المجتمع وقطاعاته وتمسح كافّة مشاربه واهتماماته، كما تتباين من حيث درجة تغطيتها لشرائح المجتمع أي من حيث تمثيليّتها الشّعبيّة ورصيدها البشريّ: فكلّما اتّسع نطاق التمثيل والتغطية كلّما ازداد الحجم والتّأثير والخطورة والتدخّل في الشّأن السياسيّ ناهيك وأنّ النقابات العمّاليّة أصبحت تمارس السياسة وتشارك في حكم الدّول..كما تتباين هذه اللّوبيات أيضًا على المستوى المادّي أي من حيث مواردها الماليّة: ففيما يُصنّف بعضها في خانة الفقراء والمساكين الذين يعتمدون على الهبات والتبرّعات والعطايا والعمل التطوّعي، يمتلك بعضها الآخر موارد ماليّة هامّة وقارّة أو يستند في التّمويل إلى جهات اقتصاديّة أو سياسية ذات ثقل، أمّا الجماعات المُعولمة ذات الهيكليّة الدّولية مثل أطبّاء بلا حدود وصحافيّين بلا حدود والسّلام الأخضر فهي عبارة عن إمبراطوريات ماليّة قائمة الذّات، ناهيك وأنّ هذه الأخيرة مكاتبها موزّعة على أكثر من 30 دولة ويبلغ دخلها السّنوي 50 مليون دولار، وهذا المعطى له انعكاس مباشر على نجاعة هذه الجماعات وقوّتها بما أنّه يُلقي بظلاله على وسائلها وأساليبها في الضّغط والتّأثير كما يلقي بظلاله أيضا على علاقاتها بالأنظمة القائمة وبالقوى العظمى وبالصّراع الدّوليّ وبالقضايا الدّوليّة الكبرى ،فهي من أنجع الأدوات الموظّفة في السياسة الدّوليّة..

أهمّ اللّوبيات وأخطرها

أمّا أهمّها وأخطرها على الإطلاق فيمكن أن نذكر منها أوّلا جماعات الضغط السّياسي: وهي لوبي يستهدف تكييف المواقف السّياسية للدّولة ودفعها للانحياز لصالح جهة أو ضدّ جهة أخرى مثل لجنة الشّؤون العامّة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك).. ثانيا جماعات الضّغط الاقتصادي: وهي لوبي لأباطرة الصناعة والتجارة والفلاحة والطّاقة والمناجم وكبار رؤوس الأموال يسعى للتأثير في السّياسة الاقتصاديّة للدّولة بما يحقّق مصلحة القطاع على غرار الوضع في الولايات المتّحدة (لوبي الطّاقة ـ لوبي السّلاح ـ لوبي الأغذية ـ لوبي الأدوية..).. ثالثا جماعات الضغط الاجتماعي: وهي لوبي يشمل كلّ ما يتعلّق بالدّفاع عن الحقوق والحرّيات المدنيّة (حقوق المرأة ـ الطّفل ـ المثليّين ـ مع أو ضدّ الإجهاض ـ مع أو ضدّ الموت الرّحيم ـ مناهضة العنصريّة ـ الدّفاع عن المستهلك ـ معاداة الساميّة..).. رابعا الجماعات المدافعة عن البيئة: وهي لوبي يثير المشكلات البيئيّة ويدفع لترجمتها إلى سياسات محلّية أو عالميّة مثل استخدام الطّاقة البديلة وإعادة التدوير ومحاربة التلوّث والحفاظ على الحياة البرّية والطّبيعية والرّفق بالحيوان، وأبرز ممثّل عن هذه الجماعات هو بلا منازع منظّمة السّلام الأخضر..خامسا اتّحادات النقّابات العمّالية: وهي لوبي يهتمّ بالمطالبة بحقوق شرائح العمّال المختلفة وكسب التّعاطف مع قضاياهم وتنسيق جهود النقّابات في العالم للضغط على الدّول والمؤسّسات المستقطبة للعمّال (منظّمات الأعراف) وكبار رؤوس الأموال من أجل تحسين وضعيّة الطّبقة العاملة..

أساليب الضّغط والتّأثير

تستخدم جماعات الضّغط هذه جملة من الوسائل والأساليب المختلفة الفعّالة لتحقيق أهدافها ومآربها، وتتضمّن الضّغط السّياسي والحملات الإعلاميّة والحيل الدّعائية وتجنيد الرّأي العامّ والاستفتاءات وعمليّات سبر الآراء الحقيقيّة منها والمفبركة، فالأخلاق والمبادئ والقوانين غائبة بامتياز عن هذا الميدان، وإنّ جرائم الفساد والغشّ والتّلاعب والرّشوة والابتزاز والتّهديد وغيرها خيارات لا غنى عنها تقترفها جماعات الضّغط بصفة مستمرّة..وبما أنّ المال قوام الأعمال فإنّ الجماعات الشّعبية الفقيرة على غرار النّقابات العمّالية غير قادرة على تمويل الأساليب (الشّرعية)، لذلك تميل إلى استخدام الضّغط المباشر والاحتجاج والعرائض والمظاهرات والعصيان المدني والتّعدي على الممتلكات الخاصّة والعامّة للتّأثير على السُّلط.. في المقابل تحظى بعض الجماعات بموارد ماليّة ضخمة أو بدعم مؤسّسات اقتصاديّة قويّة أو جهات سياسيّة مُتنفّذة وتؤثّر بشكل فعّال على العمليّة السّياسية: فأصحاب رؤوس الأموال لهم دور كبير في التّأثير على دوائر صُنّاع القرار وبالتالي على القرار السّياسي نفسه من خلال تمويل الدّعاوى القضائيّة والحملات الانتخابية والصّفقات المشبوهة وتوظيف اللّوبيات لتحقيق مصالحهم..كما تستطيع جماعات الضّغط التّأثير من خلال القنوات المنفصلة عن الحكومة والهياكل السّياسية مثل وسائل الإعلام: فدور الصّحافة والإعلام مهمّ جدًّا في عمل اللّوبي عبر تنظيم حملات تجييش الرّأي العام وتوجيه سواد النّاس نحو خيارات معيّنة لاسيما في الانتخابات.. وفي العادة فإنّ جماعات الضّغط الكبيرة والمحترمة تميل إلى توظيف آليّات الضّغط الدستوريّة عبر استخدام البيروقراطيّة السياسية المعتمدة في اتّخاذ القرار: فكلّما اتّسعت دائرة صُنّاع القرار السّياسي كُلّما انتعشت لوبيّات الضّغط، وكلّما كان مطبخ القرار السّياسي مفتوحًا ومتنوّعًا كلّما توفّرت مداخل الضّغط، بحيث يقع التّأثير على الحلقة الأضعف من أعضاء السّلطة التشريعيّة أو التنفيذيّة والأقلّ صمودا أمام الإغراءات والابتزاز لدعم المصلحة من خلال التّصويت بقرار لصالحهم في المجلس التّشريعي أو عدم تنفيذ قرار ضدّ مصالحهم..

طرح الإشكاليّة

بعد التّأصيل الشّرعي والسّياسي لمجموعات الضّغط أو اللّوبيّات، نصل إلى مرحلة طرح الإشكاليّة التي سنتولّى تفكيكها والإجابة عنها من زاوية العقيدة الإسلاميّة في باقي أجزاء هذه المقالة إن شاء الله..فقد توصّلنا من خلال تحقيق مناط هذه اللّوبيّات إلى النّتائج التّالية، أوّلاً: أنّ جماعات الضّغط اصطلاح سياسي منبثق عن العقيدة الرّأسمالية الدّيمقراطيّة، وأنّ الضّغط يعني الانصياع دون الاقتناع، ويراوح عمليًّا من الحثّ والتحضيض والإغراء والإيعاز، إلى الجبر والإكراه والتّهديد والمساومات والابتزاز والإرغام.

أمّا التّأثير فهو تغيير الوجهة والموقف نحو مصلحة طرف معيّن بصرف النّظر عن الحقّ والصّواب والحلال والحرام والمصلحة العامّة.. ثانيًا: أنّ واقع هذه اللّوبيات أنهّا إمّا ترعى شؤون شرائح من المجتمع بشكل دائميّ (النّقابات..) أو تخدم مصالح جهات متنفّذة على حساب بقيّة الشّعب (نفط ـ سلاح ـ غذاء..) أو تنتصب دولةً داخل الدّولة وسلطة موازية للسّلطة القائمة (لوبيّات السياسة) بل للمجتمع الدّولي برمّته (السّلام الأخضر)، وأنّها تؤثّر في صناعة القرار السّياسي إمّا من داخل الهيئات والمؤسّسات الدّستورية أو من خارجها بما يجعل من السّيادة بين أخذ وردِّ..ثالثًا: أنّ قدرتها على تشكيل الرّأي العام وعلى توجيه قرارات السّلطة مهولة، لذلك فهي كثيرًا ما توظّف لتمرير أجندات سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة للأطراف التي تموّلها وتُسخّرها لمصالحها.. رابعًا: أنّها في الغالب تعتمد وسائل وأساليب غير شرعيّة ولا أخلاقيّة لتحقيق مآربها، كما تتسلّل عبر الفراغات التي تتركها البيروقراطيّة السّياسية في دائرة صنع القرار للتّأثير فيها وفيه.

فهل يمكن لمثل هذا المناخ أن يوجد وينتعش في ظلّ وسط سياسي قائم على أساس العقيدة الإسلاميّة..؟؟

(يتبع)

بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This