عانت الأمة الإسلامية من التغريب الفكري الشيء الكثير بعد أن أجهز المستعمر على كيانها التنفيذي المتمثل في الدولة التي كانت تطبق قناعات الناس ومفاهيمهم المنبثقة من العقيدة الإسلامية، ولم يعد للمسلمين ذلك الكيان الذي يحفظ للأمة دينها وعقيدتها ويحمل الإسلام رسالة للعالمين فأصبحت أمة تابعة بعد أن كانت أمة متبوعة, وهذا التغريب الفكري الذي ساهم في تمزيق كيان الأمة لم يقتصر على عامة الناس ولكنه طال حتى العلماء ومنهم خطباء المنابر الذين يتحملون مهمة تجلية الأفكار الإسلامية للمسلمين والتصدي لكل أنواع التغريب الفكري، ولكن اندمج عدد كبير منهم – إلا من رحم ربي- في الحضارة الغربية فتغيرت لديهم المفاهيم وتغير مقياس الأعمال من الحلال والحرام إلى النفعية، وتغير لديهم مفهوم السعادة من نيل رضوان الله إلى تحقيق أكبر قسط من المتع الجسدية، فأصبحوا يغردون خارج السرب وساهموا من حيث يعلمون أو لا يعلمون في إبقاء هيمنة المستعمر على بلاد المسلمين متناسين قول الله تعالى:” وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ” فترى الواحد منهم يبغض العلمانية قولا ويمارسها فعلا، يفصل السياسة عن الدين وعن المنبر، فأصبحت لدينا بذلك منابر علمانية، لا تربط بين مشاكل الناس والمعالجات الإسلامية لتلك المشاكل، يحدثك الخطيب عن أحكام الصيام ولا يحدثك عن كيفية إسقاط النظام، يحدثك عن أحكام الطهارة ولا يحدثك عن أحكام الإمارة، يحدثك عن طاعة الحكام ولا يحدثك عن إقامة أحكام الإسلام.
مشكلة العمال من صنع النظام الغربي
فأصبح المسلم لا يرى غضاضة أن يطبق عليه غير نظام الإسلام وأن يحمل مفاهيم غير إسلامية.. والمولى عزّ وجل يقول: ” وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة” ومن المفاهيم والأفكار الغير الإسلامية والتي لاقت رواجا في عصرنا هذا، ما يسمى: مشكلة العمال وكيف أنه من حقهم إنشاء جمعيات ونقابات للدفاع عن حقوقهم فأصبح الوضع الطبيعي أن يظلم أرباب العمل العمال، وان يهضموا حقوقهم، ولكي لا ينفجر العمال في وجه أرباب العمل أوجد هذا النظام القائم أناسا يتفاوض معهم يعطيهم بعض الحقوق ويؤجل بعضها الآخر لجلسة تفاوض أخرى مثل ما يحدث في هذه الأيام في بلادنا بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل، صراع ومفاوضات من أجل بعض الفتات، تلميح واتهامات والكل يدعي حب البلاد، وتقديم مصلحة العباد، ولكن واقع الأمر أن خيوط الصراع تمتد إلى ما وراء البحار، حيث يقبع الكفرة الفجار، يتحكمون في مصيرنا عبر منظمة الأشرار، ما يسمى بصندوق النقد الدولي (المسؤول الكبير): شروط واملاءات، بوقف الانتدابات، وتجميد كتلة الأجور والترفيع في سن التقاعد والحكومة لا تملك من أمرها شيئا فهي لا تحكم، أما الإتحاد حتى وإن تظاهر برفضه لبعض شروط صندوق النقد فيما يتعلق بالزيادات إلا أنه لم يرفض أن تكون هذه المنظمة الاستعمارية مهيمنة على سيادة البلد، ولم يدع إلى الإضراب العام ضد اتفاقيات التفريط في الثروات أو ضد اتفاقية التبادل الحر الشامل المعمق الآليكا التي تعتزم الحكومة توقيعها مع الاتحاد الأوروبي رغم ما تمثله من خطر على اقتصاد البلاد وعلى أمنها الفلاحي والغذائي. بل على العكس من ذلك كله, فقد لعب الإتحاد وأمينه العام نور الدين الطبوبي دور الوسيط في حلحلة أزمة إعتصامات “الكامور” بتطاوين و “بوالأحبال” في قبلي بعد أن أعاد بيديه فتح مضخات البترول لصالح المستعمر في مقابل اتفاق مع المعتصمين تنكرت له الدولة فيما بعد.
البحث عن سبيل الخلاص
أمام هذه الضغوط يسعى المسلمون إلى الخلاص من براثن هذا الأخطبوط، فمنهم من يدعو إلى الإضرابات، ومنهم من يدعو إلى إخلاص النيات، ومنهم من يرفع أكف الدعوات، ويتضرع إلى رب الأرض والسماوات، أن يخلصهم من حكم الرويبضات، ومنهم من يصل الليل بالنهار لكشف الخيانات، وما زاد الطين بلة أزمة التعليم في بلادنا حيث تعطلت الدروس في أغلب المعاهد والمدارس الإعدادية بسبب الصراع القائم بين وزارة التعليم ونقابة التعليم الثانوي وبين هذا وذاك يتخبط الناس فيما بينهم بين مساند لهذا الطرف أو الآخر وبين مصحح ومخطأ، ولكن الجميع يجمع على أن التلميذ هو المتضرر الأكبر، وأن الأزمة لا بد لها من حل. وأمام هذه المشاكل الجمّة وهذا الصراع, نجد من الواجب أن نتناول هذه المشاكل من وجهة نظر الإسلام.
فما هي الحلول التي أوجدها الإسلام لمشاكل العمال؟ وهل يوجد في الإسلام مشكلة تسمى مشكلة العمال؟ وما هو السبيل للخروج من هذه الأزمة؟
إن نظام الإسلام العادل لا يوجد فيه مشاكل عمل وعمّال ولا توجد فيه مشكلة الفقر والفقراء ولا مشكلة اسمها ” مشكلة اقتصادية” لانّ الإسلام وضع حلاّ لكلّ أمر من الأمور قبل وصوله لدرجة المشكلة أو الأزمة. فالعامل في الإسلام لا تحدّد له أجرة بالحدّ الأدنى لأمور العيش كما هو عند الغرب الرأسمالي، وإنما يتبع ذاك منافع الإجارة التي يقدّمها هذا العامل، فقد يستحقّ على عمله عشرة دنانير وقد يستحقّ ألف دينار، فهذا الأمر يتبع ما يقدّمه العامل من منافع. ومن الظلم ربط أجرة هذا العامل بأمور العيش الأساسية لانّ أمور العيش مرتبطة بالرّعاية التي تقدّمها الدّولة لجميع النّاس، وهي الحاجات الأساسية لاستمراريّـــة العيش والحياة ، فالعمل والإجارة في الإسلام هو عقد كأيّ عقد آخر، يتبع رغبات العامل وربّ العمل ضمن شروط شرعيّة معيّنة، سواء أكان ذلك في تحديد السّاعات أو الأجرة التّي يستحقّها العامل على منافع جهده. وقد وضع الإسلام ضوابط شرعيّة تحفظ حقوق العامل مثل إعطائه الأجرة فور انتهائه من العمل. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:”أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه” وفي رواية: “حقه بدل أجره” رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). وقال عليه الصلاة والسلام: ” ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة..” وذكر صلى الله عليه وسلم منهم ..ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره.”
ومثل رعايته في حال العجز وعدم القدرة على العمل ورعاية أبنائه ومن يعول، ومثل إعطائه من الأموال العامّة التّي ترجع منفعتها لجميع الرعايا بالدولة، ومثل رعاية حاجاته بالطبّ والتعليم والتداوي مجّانا لهم ولجميع الرّعايا، للعامل وغير العامل. ومثل رعاية حاجاته الأساسية الثلاث حسب أوسط النّاس في حال عدم قدرته على إكمالها بنفسه من عمله وجهده، وهذا النظّام لا يوجد في دولة على وجه الأرض بهذه الكيّفيّة التّي أمر الإسلام بها.
وفي الختام نقول:
رغم وجود نقابات للدفاع عن حقوق العمّال، مازال أغلب العمّال في أغلب بلاد الغرب والشرق يعانون من ظلم القوانين المطبّقة عليهم، ومازلت الإضرابات تستخدم هنا وهناك في عدّة مناطق في العالم، ومازال الرأسماليون ينهبون أجرة العامل بطرق قانونيّة منظّمة عن طريق خفض قيمة النقد وزيادة أسعار الموّاد في الأسواق. ولا يحلّ هذه المشاكل جميعها -أيها المسلمون – إلا نظام واحد هو نظام ربّ العزّة جلّ جلاله في ظلّ دولة ترعى وتطبّق هذا النّظام.
فالإسلام -أيّها المسلمون- ليس كما يظنّ البعض من النّاس، أنه بعض العبادات كالصّلاة والصّيام والحجّ. إنما الإسلام هو نظام كامل متكامل، قال تعالى: ﴿ ونزّلنا عليك الكتاب تبيانا لكلّ شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ﴾، ولكن للأسف، فان أغلب المسلمين لا يدركون هذا الأمر بسبب غياب دولة الإسلام التي تطبّق هذا النّظام في واقع الحياة. فهو نظام عادل فريد في الاقتصاد وفي السياسة وفي الحكم وفي الاجتماع وفي التعليم وفي كلّ شيء. وقد شهد بهذه الحقيقة البعض من الرأسماليين في الأزمة الاقتصادية الأخيرة، حيث قال رئيس مجلّة “شالنجر”(challenger):” أظنّ أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلا من الإنجيل، ولو حاول القائمون على مصالحنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبّقوها، ما حصل بنا ما حلّ من كوارث وأزمات.”
وقد طبّق المسلمون هذا النظّام طيلة حياتهم في دولة وسلطان، حتّى صار الرّاكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخشى إلا الله والذّئب على غنمه، وحتّى بُحِث عمّن يأخذ المال في عهد الخلفاء المسلمين، فلم يجدوا أحدا من فقراء، ونصب القضاء فكان قلّة من يأتون للمحاكمات بسبب العدل والتقوى.
فنسأله تعالى أن يكرم المسلمين والناس أجمعين في هذا الزّمان بدولة تطبّق أحكام هذا الدّين العادل المستقيم ليرى المسلمون عدله وليحملوه إلى كلّ أنحاء الأرض، مردّدين قوله تعالى: ﴿ وقل جاء الحقّ وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ﴾.