حدّث أبو ذرّ التونسي قال: لعلّ من أبرز مؤشّرات الهزيمة السياسية ومركّب النّقص الحضاري الذي يعاني منه غالبيّة المسلمين ـ نُخَبًا وساسةَ وعوامّ ـ هو فقدان الثقة في مصطلحاتهم العقائدية والشرعيّة لاسيما منها الخادشة للحياء الديمقراطي والمحرجة للعقائد الأخرى وأتباعها على غرار (كفر ـ ربا ـ خلافة ـ حرام…) فتجد المتأسلمين والإسلامويّين أشياع التدرّج والمرجعيّة الإسلاميّة والإسلام الحداثي يتجنّبون استعمالها ويستحيون منها ويستعيضون عنها بمصطلحات حديثة (محايدة) على غرار (علمانية ـ فائدة ـ دولة مدنية ـ قانون…) بحجّة الموضوعية والتعدّدية والحرية وعدم تنفير الغير… وقد أفضى بهم هذا الهجران المتعمّد إلى امتهان تلك المصطلحات الشرعية ونبذها وإفراغها من شحنتها المعنويّة الكونية ـ جزئيًّا أو كليًّا ـ وجعلها عاجزة بمفردها عن الإحاطة بالمفاهيم الحضاريّة والسياسيّة الحديثة ثمّ قصرها على التعبير عن المعاني الدّينيّة البحتة المتعلّقة بالطّقوس والعبادات قبل إدراجها في خانة (الإفتاء)… بل إنّ أعراض هذا المركّب (النّفساسياسي أو البسيكوحضاري) قد طالت حتى بعض الإسلاميّين المصنّفين في خانة المخلصين والواعين ممّن يدّعون في الثّقافة باعًا وفي العلم فلسفةً فازدرَوا بمنظومة الحلال والحرام واستنقصوا منها وحدّوا من مجالها التّعبيري واستكثروا عليها أن تخوض ميدان السياسة بحجّة أنّنا سياسيّون ولسنا (مْفَاتَى) وأنّ في ذلك (تقزيمًا) للمسائل السياسيّة… ثمّ انبروا يُؤصّلون لذلك شرْعًا بتمحُّلٍ ظاهر: فادّعوا أنّ الحلال والحرام مجالُها الرّأي الفقهي الشّرعي، أمّا الآراء الفكريّة والفنيّة أو المجرّدة فمنوطة إلى العقل البشريّ، بل يَحْرُمُ شَرْعًا إقحام الحلال والحرام فيها ـ هكذا ـ (كبرت كلمةً تخرج من أفواههم)… !! وبصرف النظر عن هذا التّهافت الذي يلامس حدود فصل الدّين عن الحياة فإنّنا سنهتبل هذه الفرصة لطرح مسألة الواقعيّة والمبدئيّة في التّفكير السياسي والممارسة السياسيّة رفعًا لكلّ التباس وإنارةً للرّأي العامّ…
حقّ أُريد به باطل
على أنّ اختلافي مع هذه الفئة لن يحملني على أن أحيف عليها أو أغمطها حقّها: فالقول بأنّ الفتوى لا ينطبق عليها واقع التحليل السياسي ولا تؤدّي الغرض من الفعل السياسي هو إجمالاً قولٌ حقٌّ ـ وإن كان يُراد به باطل ـ أمّا وجه الحقّ فيه فإنّ الفتوى المجرّدة المكتفية بذاتها على شاكلة (هذا حلال وهذا حرام) لطالما مثّلت مؤشّر ركود في الثّقافة الإسلاميّة وانحطاط في التّأليف الفقهي، فهي مجرّد سرد للمسائل والأحكام دون ذكر أدلّتها ووجوه الاستدلال بها أي إسقاط للحكم الشّرعي دون بيان سيرورته وكيفيّة التوصّل إليه، وهذا لا يُنتظر منه أن يُنمّي ثقافة أو يُحدث وعيًا بل من شأنه أن يقتُل مَلَكة الاجتهاد ويساهم في تبليد الأذهان وتكريس عقليّة التّواكُل والتّقليد العامّي الأعمى وثقافة المُتون والحواشي التي أودت بالمسلمين إلى الجمود والانحطاط…وقس على ذلك الفتوى المجرّدة في المسائل السياسية: فالاكتفاء مثَلاً بتحريم النّقابة والعمل النقابي أو تحريم المشاركة في الانتخابات الرّئاسية ترَشُّحًا وترشيحًا لا يعكس بمفرده موقفًا سياسيًّا ولا يُعدُّ تحليلاً سياسيًّا، بل هو مجرّد رأي فقهي شرعي وفتوى سياسيّة تحتاج إلى أن يُبنى عليها موقف سياسي عبر تنزيلها على الوقائع وربطها بالأحداث واستنطاق مُتاحاتها السياسيّة ثمّ توظيفها في الصّراع الفكري والكفاح السياسي وكشف مخطّطات الأعداء، وبذلك تكتسب الصفة السياسيّة وتكون جزئيّة في تحليل سياسي مستنير وهادف… هذا وجه الحقّ، أمّا الباطل الذي أريد منه (أو على الأقلّ يُفهم منه ويُؤدّي إليه) فهو إسقاط شكل الفتوى وأسلوبها على مضمونها ومحتواها، وهذه مغالطة خطيرة: فالفتوى مستهجنة لأسلوبها (أحطّ أنواع التّأليف في الفقه) فأسلوب التأليف هو المنحطّ أمّا الفقه فهو (العلم بالمسائل الشرعيّة العمليّة المستنبطة من الأدلّة التفصيليّة) وهو راق على الدّوام رُقيّ الشّرع الإسلاميّ…وعليه فإنّ هذا الموقف المتحامل على الفتوى السياسيّة والمستهجن لها والمستنقص منها يفترض أحد أمرين أو كليهما معًا بحكم أنّهما متداخلان: إمّا إقصاء الفقه والشّرع أي الحلال والحرام من العمل السياسي إجمالاً، أو تقييد تدخّلها في ميدان السياسة باعتبار أنّ الحلال والحرام مجاله العقائد والعبادات والمسائل الدّينية (البحتة الصّرفة المحضة) أمّا التّفكير السياسي والممارسة السياسيّة فهي عبارة عن (لعبة وطُرح وعركة وقلم…) مجالها العقل والتكتيك والفهلوة ولا علاقة لوسائلها وأساليبها بشرع ولا بحلال أو حرام، وهذا مخالف لواقع العقيدة الإسلاميّة ولواقع السياسة في الإسلام…
الشّمول والكمال
ممّا لا شكّ فيه أنّ الإسلام ليس مجرّد ديانة روحيّة كهنوتيّة مفصولة عن الحياة قائمة على بعض الطّقوس التعبّدية، بل هو عقيدة ومبدأ وفكرة كليّة ومنظومة حياة كاملة متكاملة لم تترك جليلاً ولا حقيرًا في شؤون الحياة والحكم ـ فكرةً وطريقةً ـ إلاّ فصّلت فيه القول… فالشّريعة الإسلاميّة تتميّز بالشّمول والكمال أي الإحاطة والاستقصاء والاكتفاء الذاتي القيمي والتشريعي: فهي حاوية لأحكام الوقائع الماضية كلّها والمشاكل الجارية جميعها والحوادث التي يمكن أن تحدث بأكملها، فلم يقع للإنسان شيء في الماضي ولا يعترضه شيء في الحاضر ولا يحدث له شيء في المستقبل إلاّ وله محل حكم في الشّريعة عَلِمَهُ من علِمه وجَهِلَهُ من جهِله، قال تعالى (ما فرّطنا في الكتاب من شيء) وقال (ونزّلنا عليك الكتاب تبيانًا لكلّ شيء)…
أمّا كيف يتحقّق ذلك عمليًّا فإنّ الشّريعة لم تُهمل فعلاً من أفعال العباد أو شيئًا من متعلّقات تلك الأفعال إلاّ أعطت حكم الله فيه وأسندت له حكمًا من أحكام التّكليف الخمسة: فإمّا أن تنصب له دليلاً بنصّ من القرآن والحديث وإمّا أن تضع أمارةً فيهما تُنبّه على علّة تشريعه وتدُلّه على حكمه أهو الوجوب أو الحظر أو النّدب أو الكراهة أو الإباحة…فالشريعة الإسلاميّة قد اختزلت الكون والإنسان والحياة بأدقّ تفاصيلها وأبسط جزئيّاتها في معادلة الحلال والحرام أي في أفعال التكليف الخمسة ولا يمكن شرعًا أن يوجّه فعل للعبد أو شيء من متعلّقات ذلك الفعل خارج تلك المعادلة أي ليس له دليل أو أمارة تدلّ على حكمه ـ بما في ذلك أدقّ خلجات الممارسة السياسيّة ـ لعموم قوله تعالى (تبيانًا لكلّ شيء)…وإنّ الزّعم بوجود (مناطق فراغ) في الشريعة وبخلوّ بعض الأفعال أو الأشياء من حكم شرعي هو طعن صريح في العقيدة الإسلاميّة وشمول وكمال ما انبثق عنها من شريعة، وهو أيضًا تكذيب صريح لنصوص قرآنيّة قطعيّة ينحطّ بصاحبه إلى درك الكفر والإلحاد…
وجهة النظر في الحياة
إنّ المبادئ لا تختلف باختلاف العقائد التي قامت عليها فحسب بل تختلف أيضًا باختلاف وجهة النّظر في الحياة المنبثقة عن تلك العقائد أي مقياس الأعمال الذي تفرضه ومفهوم السعادة الذي تقرّه والصّورة التي ترسمها عن الحياة… والعقيدة الإسلاميّة إلى جانب كونها قاعدة فكريّة أي أصل وأساس تنبثق عنه الأحكام الشرعية فهي أيضًا قيادة فكريّة تقود من يعتنقها إلى وجهة نظر معيّنة في الحياة وإلى نمط معيّن من العيش وإلى الحكم على الأفكار والوقائع والأحداث من منظار معيّن…وعلى نقيض المبدأ الرّأسمالي الذي يجعل من النّفعيّة وجهة نظر ومقياسًا للأعمال ومن اللّذّة والمتعة الجسديّة مفهومًا للسعادة، فإنّ العقيدة الإسلاميّة عيّنت للمسلم الجهة التي يجب أن يُحَكّمها في أفعاله (وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) واعتبرت الاحتكام لغيرها (العقل ـ المصلحة ـ الأعراف ـ العادات ـ القوانين الوضعيّة…) ضلالاً مبينًا وتحاكمًا إلى الطّاغوت… فالمسلم مطالب شرعًا أن يسيّر أفعاله بالأحكام الشرعيّة وأن يلتزم بأوامر الله ونواهيه في كلّ كبيرة وصغيرة (فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيت ويسلّموا تسليمًا)…فكلّ طلب جاء به الرّسول من عند الله وجب التقيّد به سواء أكان طلب فعل (فرض ـ مندوب) أو طلب ترك (حرام ـ مكروه) أو تخييرًا بين الفعل والترك (مباح) وكلّها تدخل تحت (ما آتاكم…ما نهاكم…ما شجر…) لأنّ (ما) من صيغ العموم وليس هناك دليل على استثناء أي فعل أو أي شيء لا في ميدان السياسة ولا خارجه…هذا التقيّد بالأحكام الشرعيّة هو الذي يعيّن وجهة نظر المسلم في الحياة بعيدًا عن دنس النّفعية وهي الحلال والحرام، ويرسم له صورة خاصّة عن الحياة بوصفها حلالاً وحرامًا…وهو الذي يحدّد مقياس الأعمال لديه (أوامر الله ونواهيه): فما كان في دائرة الحلال يؤخذ بلا تردّد وما كان مكروهًا يؤخذ بتردّد ولا شيء في أخذه وما كان حرامًا لا يؤخذ، فإذا اشتبه عليه الأمر توقّف عن الفعل حتّى يعلم حكمهُ…كما يضبط له أيضًا مفهومه للسعادة: فغاية غايات المسلم نوال رضوان الله تعالى ـ بصرف النّظر عن المصلحة والمنفعة الدنياويّة ـ والسعادة لا تتحقّق للمسلم إلاّ إذا أرضى ربّه أي إلاّ إذا التزم بأوامره وانتهى عن نواهيه في كلّ فعل يقوم به أو شيء يستعملهُ، ومن باب أولى أثناء حمله للدّعوة وخوضه للعمل السياسي…
في الوعي السياسي
لقد جعل الإسلامُ المسلمَ مسؤولاً عن المسلمين سواء في علاقاتهم مع بعضهم أو مع غيرهم من الدّول والشعوب، كما جعله مسؤولاً عن العالم وعن البشريّة جمعاء، قال تعالى (وكذلك جعلناكم أمّةً وسَطًا لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدًا)…وحتّى تتحقّق مسؤوليّة المسلم عن أخيه المسلم وعن العالم في ظلّ الدّولة أو في غيابها يجب أن يُدرك الأحداث السياسيّة في العالم حتّى يحكم عليها ويتّخذ حيالها الموقف المناسب، وهذا يتطلّب منه وعيًا سياسيًّا…فالوعي السياسي أمرٌ لا بدّ منه للعمل السياسي ولا غنى عنه للتأثير في الأحداث السياسيّة… وهو لا يعني مجرّد الإحاطة (الفداويّة) بالأحداث والأعمال والمواقف والأوضاع السياسيّة ـ وإن كان ذلك من مستلزمات كماله ـ وإنّما الوعي السياسي هو النظرة إلى العالم من زاوية خاصّة وهي بالنّسبة إلينا نحن المسلمين زاوية العقيدة الإسلاميّة أي الحلال والحرام و (لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله)… فالنّظرة الضيّقة المحليّة أو الإقليمية قاصرة عن إيجاد الوعي السياسي، وكذلك النظرة إلى العالم من غير زاوية خاصّة فهي سطحيّة ولا تُوجِدُ وعيًا سياسيًّا…من هذا المنطلق فإنّ إيجاد الوعي السياسي عند المسلمين يتطلّب أمرين متوازيين متلازمين: الأوّل هو التثقيف السياسي وتتبّع الأحداث السياسيّة بما هي مادّة أوّليّة للفهم والتّحليل، أمّا الثاني فهو التثقيف بالعقيدة وبالمبدأ أي بأفكار الإسلام وأحكامه بوصفها تعيّن زاوية النّظر الخاصّة أثناء التّحليل وتُحدث الوعي السياسي الصحيح.
وعليه, فإنّ الشخصيّة السياسيّة الإسلاميّة الواعية تجعل من الإيمان أساسًا لعقلها وقلبها، فترعى شؤون أمّتها من خلال مبدئها وتتّخذ من وجهة نظرها في الحياة (الحلال والحرام) أساسًا لرؤيتها وإدراكها وحسّها وفهمها…
فنّ الممكنات..؟؟
لئن كانت السياسة في المطلق رعاية شؤون، فإنّ هذه الرّعاية لا بدّ أن تقوم على مجموعة من الأنظمة والقوانين المنبثقة من الفكر الأساسي للسّاسة والمَسُوسين بصرف النّظر عن قوّته وضعفه أو صحّته وفساده…والسّياسة ليست جزءًا من الإسلام فحسب، بل إنّ الإسلام بطبعه سياسيّ تقوم فلسفته على مزج المادّة بالرّوح: فالعقيدة الإسلاميّة فكرة سياسيّة بل هي أساس الفكر السياسي لدى المسلمين لأنها قاعدة فكريّة تنبثق عنها الأحكام الشرعية وقيادة فكريّة تعيّن وجهة النّظر في الحياة وتحدّد نمَطًا معيّنًا في العيش ومقياسًا للحكم على الأفكار والأفعال…فهي فكرة كليّة ومبدأ ومنظومة حياة أي دين منه الدّولة وغير منفصل عن الحياة والسياسة…وقد أشاع المبدأ الرّأسمالي مفهومًا مغلوطًا عن السّياسة بوصفها مَيْدانًا مفتوحًا على الغشّ والخداع لا حواجز فيه ولا حدود ولا ضوابط ولا حلال ولا حرام، فالغاية تبرّر الوسيلة وحيث المصلحة فثمّ السياسة…فهي عندهم فنّ الممكنات بمعنى الواقعيّة أي رعاية الشؤون حسب الواقع، وما ليس بواقع ولا واقعيّة فهو خيال وأوهام، لذلك فهم لا يعملون على تغير الواقع ولا يعالجون الفساد إلاّ بما يستمدّونه من الواقع…أمّا في الإسلام فلا مكان لهذه اللّوثة الفكريّة: فليست السياسة فنّ الممكنات ولا أفضل الممكنات، بل هي فعاليّة مؤثّرة في الممكنات لتحويلها إلى ما نريد أي أنّها فنّ الممكن بمعنى غير المستحيل، لذلك فهي تبحث في الواقع وتعمل على تغييره وفق الفكرة الإسلاميّة من حيث الطّريقة والأهداف والغايات مع الحرص على ابتكار الوسائل والأساليب السياسية الكفيلة بتحقيق الغرض بما يجيزه الشرع أي ضمن هامش الحلال…
وعليه, فالعقيدة السياسيّة لدى المسلمين هي العقيدة الإسلاميّة بوصفها عقيدة سياسيّة روحيّة، فهي الفكرة السياسيّة التي يستندون إليها في جميع ما يتعلّق بحياتهم من تشريع ورعاية شؤون، وهي الفكرة التي يُطلّون من خلالها على العالم ويتعاملون معه من خلال ما انبثقَ عنها من أحكام أو بُنِيَ عليها من أفكار بمقتضى مقياس أعمالهم ووجهة نظرهم في الحياة ألا وهي الحلال والحرام…